شاب سعودي حسن المظهر يمرُّ بسواكه على فمه متكئًا بعد وجبة دسمة، لا يفتأ يضحك ويسخر من أسئلة محدِّثه الجاثم خلف الكاميرا. بعد قليل، نرى هذا الشاب واقفًا بين أقرانه الملثمين الذي يحملون «RPG» يزفونه به إلى الجنان. بعدها بقليل، يلتقط له أصدقاؤه صورة مع السيارة المفخخة التي ستحمله، عليها لوحة فيها رقم مزيّف يدل على عدد الحور العين اللاتي ينتظرنه كما يعتقد، يغطي بها هذا الشاب وجهه ضاحكًا مستبشرًا.

ليس هذا سيناريو فيلم هوليوودي مفتعل، ولا هو قصة من خيال كاتب، هذا المشهد هو تسجيل خام لإحدى خلايا تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. هكذا يفتتح الفيلم الوثائقي «صراط من دماء» سلسلة من الفيديوهات التي اقتنصها من مئات الساعات المصوّرة لخلايا تنظيم القاعدة أثناء تدريباتها وتحضيراتها لعملياتها في جزيرة العرب ضمن خطة أسامة بن لادن التي رتّبها للاستيلاء على بلاد الحرمين. هذه الفيديوهات هي حصيلة مداهمات السلطات السعودية لمقرّات تلك الخلايا ومراكزها في السنوات ما بين 2003 و2009.

تبدو صورة الغلاف لهذا الفيلم مثيرة للانتباه ومبعثًا لتساؤلات اضطرتني مرغمًا إلى أن أخرج باستنتاج مهم حول نوع من الدراما جديد في حرب البروباغندا الغربية الكبرى على الإسلام، فصورة الملثم الذي لا يظهر من ملامحه شيء، ويحمل بيده كاميرا منزلية يواجهك بها في الغلاف لها دلالة مهمة، فلم تعد هناك حاجة في هذا النمط الجديد من الدراما إلى طاقم من الممثلين النجوم والمصورين المحترفين وخبراء المتفجرات والفرقعات والأسلحة لكي يخرجوا بإنتاج هوليودي عالي المستوى يصوّر الجهاديين وهم يقتلون ويفجرون، فالمصوّر والممثل وخبير المفرقعات وموقع التصوير ومشاهد الأكشن كلها يقدمها الجهاديون أنفسهم للمُخرج على طبق من فضة، فلا يكون دوره من كل هذا سوى ترتيب المشاهد وإخراجها في إطار سينمائي مهيب، والنتيجة – كما سترى بنفسك – دراما من أعلى طراز.

إذا فهمت هذا فلن تستغرب بعدها من تلك الجملة التي تبدو واضحة على الغلاف وتعلو اسم الفيلم: «وثائقي صوّرته القاعدة»، ولن يدهشك أن المنتج لهذه الدراما الجديدة هو نفسه منتج فيلمين كبيرين قبلهما بعدّتهما وعتادهما ونجومهما هما: «خزانة الألم Hurt Locker» و«ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل Zero Dark Thirty».

لم يكن المنتج الأريب بحاجة هنا لأن يلتقط رواية صحفي رافق القوات الأمريكية في الحرب على العراق من الورق، ليعيد إنتاجها في سيناريو ملحمي، ينتقي له نجومه الذين يدربهم لأسابيع في معسكرات الجيش الأمريكي، ثم يشحنهم مع المصورين والخبراء بعتادهم وآلاتهم إلى مواقع التصوير تحت حر الشمس، كما فعل في فيلم «Hurt locker»، فأمامه هنا أرشيف صوّره له فِتيان القاعدة المتحمسون في معسكرات التدريب والشقق المغلقة ومواقع تنفيذ العمليات، ويا لها من مادة تفوق في زخمها ودراميتها ما تقدّمه جيوش الصحفيين والنجوم والمصوّرون.

ستمدّه هذه الفيديوهات بصور حقيقية لـ«إرهابي» وهو يصنع المتفجرات ويكدّسها في سيارة دفع رباعي، بينما أصحابه يلعبون كرة القدم في حديقة المنزل، بعد أن عانى في فيلمه السابق ليصور لنا مشهد الملازم «وليام جيمس» وهو يرتدي سترة القنابل ويحاول أن يفكك قنبلة «إرهابية» مزروعة بعناية. وسيجد هنا بين ثنايا الأشرطة، فيديوهات كثيرة لاشتباكات حية ومداهمات ودماء وأشلاء ودموع، بعد أن كان يحرق الوقت والأموال في اصطناعها في أفلامه.

سنفهم إذًا بعد هذا كله، كيف تركت البروباغندا الغربية الكبرى أستوديوهات هوليوود وجيوش مخرجيها ومنتجيها ونجومها لقصص الأبطال الخارقين التي لا تنتهي، وانشغلت بتهيئة المسرح الملحمي الكبير بين العراق وسوريا في 2014 لأكبر دراما جهادية ملحمية في التاريخ.


جهيمان العتيبي ومسرح النبوءة

لقد أمدّتنا حادثة اقتحام جهيمان العتيبي للحرم المكي سنة 1979 بالطريقة التي أمكن من خلالها أن تتهيأ مثل هذه الدراما، فقد صاغ العتيبي من خلال أحاديث ظهور المهدي وبيعته عملًا مسرحيًا مرعبًا، فقد ظن أن مجرد تهيئة مسرح النبوءة وأشخاصها وأحداثها كافٍ في تحققها، دون التفات إلى أي شيء آخر سوى تمثيل أحداث الملاحم بحذافيرها.

وقد كان جهيمان نموذجًا سيحذوه من جاء بعده من أجيال الجهاديين في التربص والتخطيط لإقامة مسرح أحداث الملاحم في الشام باعتباره سببًا كافيًا لتحقّقها، ولم يُخفِ قادة الجهاديين في أدبياتهم سعيَهم الحثيث لتهيئة ميدان المعركة في «مرج دابق»، وهو ميدان رئيسي من ميادين أحداث آخر الزمان.

حين اقتحم العتيبي الحرم المكي وحاصره، كانت طائرات أمريكية تحوم فوق الحرم وتمد الجهات المختصة بتقارير مفصلة بشكل شبه يومي، ولا شك أن مثل هذه الحادثة لم تكن في حسبان النسر الأمريكي الحائم، ولا بد أنها فتحت عينيه على سعتهما للنظر الدقيق في هذه الظاهرة وامتداداتها ومآلاتها المحتملة حتى وصلت إلى تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة فيما بعد. فقد ظهرت دراسات مكثفة لأدبيات الجهاديين، وخصوصًا تلك المتعلقة بأحداث آخر الزمان وباستراتيجيات تحقيقها، وبدا الاهتمام بفهم استراتيجيات الجهاديين وخططهم في تهيئة مسرح النبوءات ظاهرًا في كثير من التقارير التي أنتجتها مراكز البحث الأمريكية والغربية. وقد كان من ضمن الأدبيات التي تناولتها تلك الأبحاث بالدراسة، رسالة «إدارة التوحش» لأبي بكر ناجي، و«دورة التنفيذ وحرب العصابات» لعبد العزيز المقرن، وهو شخصية رئيسية في هذا الفيلم.

لعلّه من هذا التفاعل بين سعي حثيث نحو محاكاة أحداث الملاحم، وبين مراقبة دقيقة لهذا السعي تَفهمُ مآلاته وامتداداته، تهيّأ لمسرح الأحداث في سوريا والعراق أن يحتضن الدراما الكبرى التي شاهدها ملايين من البشر واقعةً متحققة، تخرج فيها المشاهد المتتابعة بمادتها ومصوّريها ومخرجيها ومنتجيها ونجومها من الجهاديين أنفسهم، ولا حاجة بعدها لشيء سوى أن يبقى هذا المسرح مضيئًا حتى يحقق شروط البروباغندا الكبرى، وحينها تنطفئ الأضواء ويسدل الستار وتنتهي الدراما.


الجهاديون: من أبطال إلى أشرار

استعدتُ أثناء مشاهدة الفيلم ما ذكره مالك بن نبي في آخر الجزء الثاني من كتابه «وجهة العالم الإسلامي» الذي تحدّث فيه عن أثر اليهود وخططهم في صناعة العقل الغربي الاستعماري، وقد تحفّظ بن نبي على نشر هذا الجزء حتى أخرجه أوصياؤه عام 2012. في هذا الجزء يتحدث مالك بن نبي – حين هدأت سكنة الحربين العالميتين وأقبلت أجواء الحرب الباردة – عن شعور الغرب بخطر الحياد الإسلامي في هذه الحرب، فالحرب الباردة كانت تهدد بخطر فناء المعسكرين الكبيرين المتصارعين في صراع نووي مهيب، فكان لا بد لدى الغرب الاستعماري من إدخال العالم الإٍسلامي في معمعة هذا الصراع لكي لا يسلم له مسرح التاريخ بعد فناء القوتين الكبريين. لكنّ بن نبي لم يعِش ليرى دخول العالم الإسلامي في أتون هذه الحرب من بوابة أفغانستان، وما نجم عن هذا الدخول من تحول كبير في شكل الصراع بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لقد أصبح العالم الإسلامي هو الطرف الرئيسي في هذه الحرب.

ولنتذكر هنا جيدًا صورة المجاهد في جبال أفغانستان والشيشان وهو يقاتل الروس الملحدين، وينقل لنا أقرانُه سير ملاحمه وقصص بطولاته في قتال الجبهة الشرقية الكافرة، حينها كانت صورة البطولة مناسبة جدًا، يمدّها ببريقها دعمُ المعسكر الغربي لها. في هذه الملحمة، كان عبد العزيز المقرن من فِتيان الحرب الذين كانوا مادة هذه البطولات إلى جانب رمزها الأول أسامة بن لادن.

لكن هذه الصورة انتقلت الآن إلى الجانب الآخر ليصبح لأبطال الأمس الذين رجعوا من المعركة بعدتهم وسلاحهم وخبراتهم وقصصهم صورة أخرى، هي صورة الإرهابي الشرير. لقد اقتنص لنا المنتج في هذا الفيلم صورة عبد العزيز المقرن قائد خلايا تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، مسجّى مقتولا برصاص القوات السعودية، بعد أن أنتج لنا قبلها بسنوات قصة اغتيال أسامة بن لادن على يد القوات الأمريكية إنتاجًا هوليوديًا.

لقد تركت الآلة الإعلامية الغربية التاريخ وحده يصوغ لها دراما ملحمية كبرى بكل تفاصيلها، تركت للتاريخ وإفرازاته وللصراع ومقتضياته، ولمن يرسمون سيناريوهات التاريخ والمستقبل، أن يعدّوا لها كل شيء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.