تخفقُ قلوبنا فخرًا بهذا النضال، نضالُ الدموع والدم والنار، لأنه نضالٌ عادلٌ ونبيل ولا سبيل دونه لوضع حدٍّ للاستعباد المُهين الذي قاسيناه.
من خطاب الدموع والدم والنار لـ «باتريس لومومبا»، بتاريخ 30 يونيو/حزيران 1960.

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية ورغم انتصار الحلفاء فإنهم خرجوا مُنهكين، وهو ما أثر على سيطرتهم على مستعمراتهم في إفريقيا وأسيا، الأمر الذي شجع على قيام حركات التحرر في تلك المستعمرات يقودها مجموعة من المثقفين، الذين ربما كانوا هم الخطأ الوحيد الذي ارتكبه المستعمرون في حق أنفسهم بأن تركوا المجال لأبناء تلك البلدان أن يفهموا.

لم تكن الكونغو -المستعمرة البلجيكية الأغنى القابعة تحت أغلال الاحتلال منذ عام 1885- ببعيدة عن تلك التغييرات العالمية، خصوصاً وأن المستعمر البلجيكي كان ضمن الحلقات الأضعف داخل سلسلة الحلفاء، فبدأت بلجيكا بتخفيف بعض القيود على الكونغوليين، وفي عام 1950 منعت جميع أنواع التفرقة العنصرية في المدارس، ثم أعطت حق تملك الأراضي للكونغوليين عام 1953.

كل هذه الأحداث كانت تعتبر جديدة وغريبة على المستعمر البلجيكي، وهو منْ استنزف البلاد على مدار عقود طويلة، كانت فيها الكونغو هي حجر الزاوية في الاقتصاد البلجيكي وأرضاً منهوبة من كل القوى الاستعمارية، بما في ذلك الولايات المتحدة، ولمَ لا؟! فهي تعتبر أغنى دول العالم من حيث الثروات الطبيعية من المطاط والعاج والماس والبلاتين واليورانيوم.

في وسط كل هذه الأحداث ظهر الشاب الكونغولي «باتريس إيمري لومومبا»، ليُمهِّد الطريق بالدموع والدم والنار أمام استقلال بلاده السياسي والاقتصادي.

البداية

ولد لومومبا عام 1925 في قرية «كاتاتا كوركومبي» بإقليم كاساي شرقي الكونغو، وينتمي إلى قبيلة «باتيليلا» وهي جزء من قبيلة «المونغو»، كان والده يعمل مُعلماً للكاثوليكية في المدرسة، وعملت والدته في مزارعة، ورغم أنه نشأ في أسرة كاثوليكية فإنه تخرّج في المدرسة الثانوية التي كان يشرف عليها مُبشِّرون بلجيكيون من البروتستانت.

عمل لومومبا محاسباً في إحدى الشركات الأجنبية العاملة في الكونغو، وسرعان ما أصبح أحد أبرز أفراد حركة المثقفين الأفارقة.

بدأ لومومبا بنشر مقالات وقصائد شعرية في الصحف والمجلات الكونغولية، ثم حصل بعدها على الجنسية البلجيكية الكاملة. التحق بعدها بمعهد البريد والهاتف بمدينة «ليوبولدفيلد» (كينشاسا حالياً) ليعمل بعدها في مكتب بريد المدينة ثم يلتحق بالعمل السياسي، وأصبح بحلول عام 1955 رئيساً لنقابة الموظفين، ويصبح بعدها عضواً في الحزب الليبرالي البلجيكي، وهو الحزب المناسب لميوله الاشتراكية التقدمية.

في عام 1956 سافر لومومبا إلى بلجيكا للدراسة بصحبة مجموعة من الشبان، بدعوة من وزير المستعمرات، ولكن قُبض عليه لدى عودته بتهمة السرقة، وبعد خروجه عمل في عدة أعمال لإعالة أسرته.

لمع نجم لومومبا في الأوساط السياسية بعد مشاركته في مؤتمر أكرا عام 1958، الذي مهّد للوحدة الإفريقية، وكذلك بعد مقابلته للرئيس الغاني «كوامي نيكروما»، ثم عاد للكونغو وأسّس حزب الحركة الوطنية الكونغولي (MNC)، كما رأس تحرير جريدة الاستقلال، وبدأ بالتواصل مع أطراف أفريقية وبلجيكية من محبي الحرية للتعريف بقضية بلاده وبوحشية المستعمر البلجيكي ونهبه لثروات أمته.

حظي لومومبا بشعبية واسعة وقاد مظاهرات ومواجهات مع الاستعمار البلجيكي عام 1959، والتي أدت إلى اعتقاله لمدة ستة أشهر، شهدت خلالها الكونغو مظاهرات عديدة، وفتح الجنود البلجيكيون النار على المتظاهرين أكثر من مرة، مما أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى، واضطرت السلطات البلجيكية للإفراج عن لومومبا لإنجاح مفاوضات مؤتمر «المائدة المستديرة» التي كانت تجري في بروكسل لبحث مستقبل الكونغو، ونُقِل من السجن إلى بروكسل بالطائرة، وتم الاتفاق على إجراء استفتاء شعبي عام في الكونغو تحت إشراف دولي لمعرفة رغبة الشعب أو رأيه في الاستقلال، وتم الاتفاق على استقلال الكونغو وإنهاء 80 عاماً من الاستعمار البلجيكي، وتم تحديد موعد الاستقلال في 30 يونيو/حزيران عام 1960.

استقلال مر

في مايو/أيار من عام 1960، جرت أول انتخابات برلمانية مثّلت جميع الأعراق والقبائل الكونغولية، وسط دهشة وعدم تصديق من الكونغوليين أنفسهم، لينجح حزب لومومبا في الوصول للحكم رغم المحاولات البلجيكية لإخفاء النتائج. وفي 23 يونيو/حزيران 1960، شكّل لومومبا الحكومة، وتم تنصيب «جوزيف كازافوبو»، رئيس تحالف الباكونغو القومي، رئيساً للجمهورية رغم أحقية لومومبا بهذا المنصب.

وبدأت المطالب العرقية تطفو إلى السطح حتى قبل إعلان الاستقلال، حيث طالب «مويز تشومبي» رئيس اتحاد جمعيات قبائل كاتانغا، والمدافع الأكبر عن الفيدرالية، بالاحتفاظ بحكم إقليم «كاتانغا» الأكثر ثراءً والأغنى بالموارد الطبيعية في البلاد. كل هذه المشاكل كانت لا بد أن تُحل أو تواجه بصرامة إذا لزم الأمر قبل الاستقلال، لكن حس لومومبا الوطني وهدفه الأسمى جعله ينسى عدم النضج السياسي لشعبه وقياداته، فاختار الانتظار إلى ما بعد يوم الاستقلال، ليُرتِّب البيت من الداخل.

خطاب الدموع والدم والنار

جاء يوم الخميس 30 يونيو/حزيران 1960، اليوم الموعود، حيث حصلت الكونغو، أخيراً، على استقلالها. وصل الملك «بودوان الأول» ملك بلجيكا بنفسه ليشهد استقلال مستعمرته الأغلى، وتجمعت أعداد غفيرة من الكونغوليين خارج قصر الأمة بالعاصمة كينشاسا. بدأت جلسة مجلس الشيوخ بخطاب الملك البلجيكي الذي جاء مُتعالياً واستفزازياً لمشاعر الكونغوليين وعلى رأسهم لومومبا حيث ورد فيه: إن بلجيكا ضحت بشبابها وأموالها الطائلة من أجل تعليم الشعب الكونغولي ورفع مستوى اقتصاده، وحذّر الوطنيين الكونغوليين من عدم اتخاذ إجراءات متسرعة أو غير مدروسة تؤدي إلى تدمير المدنية التي خلّفها البلجيكيون لهم.

ثم جاء الدور على خطاب رئيس الوزراء البلجيكي، فمنعه لومومبا من إلقاء الخطاب بحجة أن اسمه غير وارد في قائمة المتكلمين، فامتعض رئيس الجمهورية كازافوبو من هذا التصرف، ثم حان دور الرئيس كازافوبو لإلقاء كلمته، فجاءت مليئة بالنفاق والمهادنة للملك البلجيكي ورجاله، مما أثار حفيظة الكونغوليين خارج قصر الأمة.

ثم أتى الدور على لومومبا، الذي ألقى خطابه الشهير بـ «خطاب الدموع والدم والنار»، كرد على الخطاب الاستعلائي للملك، والذي ذكّر فيه الناس بنضالهم في وجه وحشية المستعمر، وجاء فيه:

كانت هذه قِسمتنا من ثمانين عامًا من حكم الاستعمار، وجروحنا نديّة وألمُها أعظم من أن ينُسى.
لقد أُجْبِرنا على السخرة مقابل أجور لا تسدُّ جوعنا ولا توفر لنا الملبس أو المأوى الكريم وحرمتنا من تربية أطفالنا بالعناية التي يستحقون.
رُمِينا بالسخرية والشتائم واللكمات صبحًا وظهرًا ومساء لأننا «زنوج» (nègre). منْ سينسى يوماً أن الأسود كان يُنادى بضمير «tu» الأُلفَة، ليس تودداً أبداً، بل لأن «vous» الاحترام كانت حكراً للرجل الأبيض.

وجاء أيضاً في خطابه:

لم ننسَ أن قصورَ المُدن كانت للبِيْض والأكواخ المتداعية كانت للسود، وأن الأسود لم يُسمَح له بدخول السينما أو المطاعم أو المتاجر «الأوروبية»، وأن الأسود يسافر في مخازن البوارج تحت أرجل البِيْض المسافرين في قُمَرِهم الفاخرة.
منْ له أن ينسى يوماً الرصاصَ الذي خطف أرواح عِدّة عديدة من إخوتنا، أو الزنازين التي غُيِّبَ وراء قضبانها بلا رحمةٍ من رفض الخضوع لنظام الظلم والاضطهاد والاستغلال الذي استخدمه المستعمِرون أداةً لسيطرتهم؟
كل ذلك يا إخوتي أحلَّ علينا عذاباً لا يوصف…

كان هذا الخطاب بمثابة المسمار الأخير الذي دقه لومومبا في نعشه، وكتب به السطور الأخيرة لحياته القصيرة ولحلم أمّته الذي لم يتحقق أبداً.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.