بعد انسحاب جميع المنافسين باتفاق ضمني بينهم، فاز بالتزكية الجنوب أفريقي «باتريس موتسيبي» بمنصب رئيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم. واحد من أغنى 10 رجال في أفريقيا يجلس على عرش اتحاد فقير لقارة فقيرة، إذًا يجب أن يتبعه دائمًا وصف «أحد أغنى رجال القارة»؛ لأنه الوصف الذي سيجعل أفواهنا جميعًا تُفتح باستغراب، ثم تغلق عجزًا عن التعبير.

في متابعة الأوضاع في أفريقيا تستوي كل الأطراف، سواء القريبة من الأحداث وتتابع عن كثب كل ما يجري داخلها، أو أولئك غير المهتمين الذين تصلهم الأخبار حين تشتعل حميتها حتى تملأ كل الصحف. الجميع يستمع دائمًا لمصطلحات تتكرر: رشوة، وفساد، وتزوير، وآمال جديدة في اسمٍ جديد، ثم رشوة، وفساد … إلخ.

موتسيبي اسم جديد بالفعل. شخص لم يسبق له العمل في أي جهة تنفيذية تابعة للكاف، لم يسبق له أن تقلد منصبًا في اتحاد بلاده، بل تكاد تكون معرفته الكروية أقل حالًا من أي اسم سبق له رئاسة الكاف.

هو أول رئيس للاتحاد الأفريقي يأتي من العمل بالأندية رأسًا إلى الكاف، وليس من الاتحادات المحلية ولا حتى الدولية. فلماذا حضرت كل هذه الاستثناءات لهذا الرجل؟

ثنائية الحظ والثروة

في أحد محاولات الحكومة الجنوب أفريقية لمواجهة التمييز العنصري الذي ضرب البلاد لسنوات أقرت قانون التمكين الاقتصادي للسود في جنوب أفريقيا BEE، والذي ينص على أن تكون الشركات المحلية مملوكة بنسبة 26% على الأقل من أصحاب البشرة السمراء، وذلك للحصول على ترخيص تعدين حكومي.

هنا تحديدًا جاءت فرصة صعود أول ملياردير أفريقي صاحب بشرة سمراء، حسب وصف مجلة Forbes.

درس موتسيبي، المولود في 28 يناير من عام 1962، إدارة الأعمال منذ صغره، إذ ولد باتريس في مدينة سويتو في جنوب أفريقيا، لوالد كان أحد المعارضين للفصل العنصري في بلاده، والذي عمل تاجرًا وبائعًا للخمور في صالة خاصة به.

كانت صالة الوالد هي أحد أكثر الأماكن التي يزورها عمال المناجم في جنوب أفريقيا بشكلٍ يومي. وعن طريق التعامل معهم كبائع اقترب موتسيبي كثيرًا من حياة هؤلاء العُمال. كانت تلك هي هدية والده الأولى له دون أن يدري كلاهما بقيمتها.

اختار موتسيبي فيما بعد دراسة القانون، بعد أن تأسس بأحد المدارس الكاثوليكية الداخلية التابعة للنظام الروماني، وانضم بعد ذلك إلى شركة محاماة متخصصة في قانون التعدين.

يمكن أن توصف تلك الطفولة بالصعبة في تجارب عدة، لكن كان لباتريس حظ سعيد من كل ما سبق ذكره، ففهمه للعمال منذ الصغر ساعده في تحديد نمط إدارته لهم فيما تلى ذلك في المستقبل، وعمله في صالة والده لبيع الخمور أكسبه خبرات في إدارة الأعمال، وولادته في عصر التمييز العنصري ساعده في شهرته بعد ذلك، كونه أصبح الملياردير الأول من أصحاب البشرة السمراء.

لم يتوقف حظ موتسيبي عند النشأة والأحداث الأولى من حياته فقط، بل استمر إلى أن أوصله إلى أهم مقعد في الكرة الأفريقية.

تصحيحًا لأخطاء الماضي

يرتبط منصب رئيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم في أذهان العديد باسم «عيسى حياتو»، الذي تولى ذلك المنصب منذ عام 1988، وحتى سنواتٍ قليلة مضت. كانت عملية إزاحة الكاميروني عن منصبه صعبة للغاية، إذ كانت تحتاج لتحالف القوى الحاكمة -فعليًّا- بالاتحاد الأفريقي بالكامل تقريبًا.

ووفقًا لتأكيدات المصادر القريبة من الاتحاد الأفريقي، فإن فوز «أحمد أحمد»، الغريب تمامًا عن أجواء الكاف بكل ما يشوبه من فساد مُبطن وغير معلن، قد جاء بتحالف مصري – جنوب أفريقي – مغربي، وبدعمٍ من زيمبابوي وعدة اتحادات أخرى.

الدفع باسم غريب عن الفساد المقترن بالعمل داخل الكاف كان أحد الأخطاء التي وقع فيها الأطراف القوية في الكاف حين سعوا للإطاحة بالكاميروني، والمؤكد أنهم لا يسعون لتكرار الخطأ نفسه.

اقرأ أيضًا: أحمد أحمد: من الذي أعطى الطفل بندقية حقيقية؟

حيث لا يمكن أن يوجد مسؤول بخلفية فقيرة في قارة تعاني الفقر، في منصب داخل اتحاد لا يقل فقرًا عن حال القارة بأكملها، ولا ينهار أمام حفنة الدولارات التي تُعرض عليه كرشاوى من أجل تسهيل عمليات فساد غير مقننة بشكلٍ شبه يومي، تلك هي الغلطة الأكبر التي كان يجب تداركها بعد أن وقع أحمد أحمد في فخ التحقيقات الفيدرالية.

إذًا، الحل الآن هو اختيار مُمثل جديد للكاف، أو بالأحرى لقوى الكاف الحاكمة، يُمكنه أن يتعامل مع هذا الكم من الفساد، ولا يهم إن كان سيشارك به أم لا، الأهم أنه لن ينهار أمام تلك الدولارات، بالدرجة التي تدفعه لأن يقوم بكل عملياته فوق الطاولة وعلى مرأى ومسمع من الجميع.

إنه أنسب شخص يمكن أن نقدمه لقيادة CAF. لا نريد أي حل وسط بشأن الحوكمة أو الأخلاق في كرة القدم.
داني جوردان رئيس الاتحاد الجنوب أفريقي لكرة القدم عند ترشح موتسيبي لرئاسة الكاف.

دفع ذلك السبب، الذي قد تراه ضعيفًا، العديد من الطامحين إلى مناصب داخل الاتحاد الأفريقي للانسحاب في مواجهة اسم موتسيبي بعد ضغوطات خارجية عليهم. تاركين الفرصة له للفوز بالتزكية، وبعد توزيع أدوار الاتحاد على جميع الطامحين بالترضية والاتفاق، بوعدٍ قد قطعه رئيس الاتحاد الدولي «جياني إنفانتينو» بنفسه.

حسنًا، الأكيد أننا الآن نعرف كيف ستتم الاستفادة من موتسيبي في تصليح ما أفسده أحمد أحمد، وذلك بالنسبة للقوى الحقيقية في الكاف، السؤال الآن: ما الذي يدفع رجلًا بهذه الثروة الضخمة لأن ينخرط في عمل تحفه الأخطار من كل اتجاه؟

سلعة رخيصة بطموح عالٍ

في وصف شبكة BBC للملياردير الجنوب أفريقي عنونت فقرة شرائه لنادي صن داونز وصعوده الاقتصادي بـ «شراء سلع رخيصة بطموحات عالية». وربما تشرح تلك الجملة في اختصار شديد ما قد يدفع مستثمرًا بقيمة موتسيبي لدخول عالم كرة القدم.

أسس موتسيبي أول شركة تعدين له في عام 1994، سنوات قليلة مضت على ذلك التأسيس قبل أن يبدأ في عمليات شراء لمناجم ذهب منخفضة الإنتاج. في ذلك الحين كان يعاني سوق الذهب في القارة من ركود، وكانت الأسعار تتوافق مع شركة حديثة الإنشاء.

اقتحم موتسيبي مجال كرة القدم في عام 2003، بشرائه حصة من أسهم نادي ماميلودي صنداونز. نادٍ حديث العهد، تم تأسيسه عام 1970، لم يحصل إلا على 6 بطولات فقط، بشرائه تتحول الدفة، ويفوز بأكثر من 10 بطولات تحت ملكيته، وكان الحظ أحد اللاعبين الأساسيين في أهم بطولة من بينها، دوري أبطال أفريقيا لعام 2016.

إذًا، وبالرغم من كون ثروته تتخطى ملياري دولار، لكن الأكيد أن دخوله لعالم كرة القدم، بكم الفساد الموجود في أحد أكبر المؤسسات بكرة القدم، لن يكون دخولًا نظيفًا بالكامل؛ لأن السماح بوصوله لذلك المنصب يجب أن يُدفع ثمنه.

حيث يدين موتسيبي لكُل من «فوزي لقجع» ممثل المغرب، و«هاني أبو ريدة» ممثل مصر، «جياني إنفانتينو» حامي تلك الصفقة، بقيمة وصوله لذلك المنصب. تقول إحدى الصحف الأفريقية أن موتسيبي يعرف جيدًا، بصفته رجلًا كان يعمل في السياسة وعالم الأعمال لعقود من الزمان، أنه لا يوجد وجبة غداء مجانية في هذه الأيام. فهل سيدفع كل تلك الفاتورة من حسابه الشخصي؟

خوض انتخابات مثل التي جرت في الاتحاد الأفريقي يُذكرني بمسلسل «لعبة العروش – Game of thrones»، وأظن أن موتسيبي يقوم فيه بدور ممثل عائلة «لانستر»، والمعروف عنها أنها تدفع ديونها دائمًا، أيًّا ما كانت الطريقة.

لكن وبما أننا قد ذكرنا اسم المهندس أبو ريدة، الاسم الأبرز في الرياضة المصرية، ألن تُلهمه تلك التجربة حل مُعضلة يُنتظر حدوثها في مصر قريبًا؟ لتشابه الحالة الاقتصادية، والقوى المُتحكمة، وربما المُرشحين أيضًا.

رحلة البحث عن «موتسيبي» الفراعنة

يحمل أبو ريدة على عاتقه هم الاتحاد المصري في كل دورة انتخابات جديدة، والأكيد الآن أنه لن يغامر بسمعته من أجل الترشح على منصب رئيس الاتحاد مرة أخرى. أولًا لأن عواقب التجربة الماضية لم تكن بالحميدة، وثانيًا لأنه لا يريد من الكرة المصرية أكثر مما يحصل عليه بالفعل.

لكن يظل هو المُتحكم الأبرز في كل حدث يخص الانتخابات المصرية، والعلاقة المصرية الكروية بالاتحاد القاري والاتحاد الدولي، فسواء اختيار أسماء اللجان المؤقتة التي أدارت الاتحاد المصري عقب استقالة المجلس السابق برئاسة هاني أبو ريدة نفسه، أو دعمه لأي اسم منتظر أن يُطرح في المستقبل القريب.

الجميل في الكرة الأفريقية أنها تُعطيك دائمًا إجابات سهلة وبسيطة على كُل أمر يبدو مُعقدًا. ستعاني طبعًا من الوصول للسبب الذي جعل هذه الإجابة هي الإجابة الوحيدة المُتاحة، لكنك سريعًا ما ستتعامل مع الأمر كونه بديهيًّا ومُسلمًا به.

بعد أن أعلن أبو ريدة رسميًّا عن اعتذاره عن عدم خوض الانتخابات الرئاسية للاتحاد المصري لكرة القدم في الدورة القادمة، أعلن من بعدها سريعًا المهندس «محمود طاهر» عن خوضه للانتخابات، حتى إن الصحف المصرية عنونت خبر نية طاهر بـ «محمود طاهر يخوض انتخابات اتحاد الكرة بعد خروج هاني أبوريدة من السباق». نعم الأمر بهذه البساطة.

وجود قوى المال مثل موتسيبي، وربما طاهر، يُبشر بانتهاء حالة الفقر في تلك المؤسسات التي تعاني، لكنه لا يعني بالضرورة نهاية للفساد، لأسباب نعلمها جميعًا، لكن ما الضامن ألا يطمع الغني فيما طمع فيه الفقير؟ لا أظن أن «إنفانتينو» يحمل الإجابة عن ذلك.