في السادس عشر من يوليو/تموز عام 1950، كان ملعب الماراكانا يحتضن نهائي المونديال بين منتخبي البرازيل وأوروجواي. وبينما كانت جماهير السليساو تحتشد في مدرجات الملعب البرازيلي الأشهر، كان طفل صغير لم يكمل بعد عامه العاشر يجلس متسمرًا أمام إحدي شاشات التلفاز، ويأمل أن يكون الفوز حليف أصحاب الأرض.

يومها أدرك للمرة الأول أن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، ليدخل الصغير في نوبة بكاء شديدة قبل أن ينظر إلي السماء متسائلًا في براءة «لماذا نخسر؟ ولماذا نعاني أيضًا من الفقر؟ لماذا يحدث كل ذلك لنا؟»، ثم التفت الطفل لوالده وردد «لو كنت أنا هناك لما خسرت البرازيل. يومًا ما سنفوز بكأس العالم».

بعد مُضي ثمانية أعوام، كان الوالد يجلس أمام نفس شاشة التلفاز ليشاهد نهائي مونديال آخر، لكن هذه المرة وحيدًا دون الصغير، حيث كان الولد متواجدًا على عشب الملعب يدافع عن ألوان البرازيل.

الولد، الذي سجّل ثلاثية بنصف النهائي، كان على موعد للتألق من جديد في المباراة النهائية. سجل هدفين، وقاد البرازيل للفوز بالذهب للمرة الأولى وهو ابن السابعة عشرة فقط. هذا الولد هو «إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو» المعروف أيضًا باسم «بيليه».

منذ ذلك اليوم، نجح بيليه في كتابة اسمه بحروف من نور، وبات أحد أفضل اللاعبين في تاريخ اللعبة خصوصًا بعد أن فاز بالمونديال مرتين إضافيتين، وأصبح بذلك اللاعب الوحيد الذي حصل على ثلاثة نسخ مونديالية.

لكن لبيليه وجهًا آخر. وهو وجه محلل كرة القدم الذي ظهر بعدما اعتزل، وشرع في تحليل البطولات وتوقع نتائج الفائزين والخاسرين. وهنا لم يحالفه التوفيق في أغلب الأحيان، بل إنه نال انتقاد وسخرية بعض المدربين واللاعبين، حتى طالبوه بالكف عن مثل تلك التصريحات لأنها صارت لعنة. تُرى متى وكيف تتحول النبوءات إلى لعنة؟


أفريقيا ستفوز بالمونديال طبعًا

بدأت اللعنة في سبعينات القرن الماضي، تحديدًا عندما خرج ملك البرازيل بتصريح مفاجئ قال فيه إن منتخبًا أفريقيًا سيكون قد فاز بكأس العالم قبل حلول عام 2000!

وقبل أن تسأل السؤال المشروع عن السبب الذي دفع بيليه للإقدام على هذا القول الجريء، دعني أخبرك بأن السبعينات شهدت على واحدة من أسوأ المشاركات المونديالية – إن لم تكن أسوأها على الإطلاق- وكانت من نصيب منتخب زئير الأفريقي.

اقرأ أيضًا: ماذا فعل لاعبو زائير بعد تهديد زعيمهم في مونديال 1974؟

صحيح أن منتخب تونس عاد بعد أربع سنوات لتحقيق نتائج مشرفة في مونديال 78، لكن الظروف العامة حينها لم ترجح أن يتمكن الأفارقة من تحقيق إنجاز مونديالي كبير، لذلك فإننا لن نعرف أبدًا لماذا راهن بيليه بكل تلك الثقة على القارة السمراء.

مضى ثمانية عشر عامًا على عام 2000، ولم يفز منتخب أفريقي بأي ميدالية مونديالية، بل إن أقصى ما تمكنوا من تحقيقه هو الصعود لربع النهائي، هذا الدور الذي صعد إليه منتخب الكاميرون عام 1990 ومنتخب السنغال في 2002. ومنذ ذلك التاريخ الأخير، تراجع الحضور الأفريقي لحدود دور الـ16.

ولعلك تذكر بدقة كيف كان الأداء الأفريقي مخيبًا خلال مونديال روسيا، شخصيًا أحاول أن أتناسى أنني قضيت كل تلك السنوات صابرًا كي أشاهد ثلاث هزائم لمصر دفعتها لذيل قائمة المنتخبات المشاركة. لكن لا بأس، إذ لم تخب توقعات أحد منا في المنتخبات الأفريقية كما خابت توقعات بيليه.


كولومبيا أيضًا ستفوز بالمونديال

يبدو أن الرهان الخاطئ على أفريقيا لم يكن أمرًا عابرًا، ففي التسعينات أكدت رهانات بيليه قبل بدء أي بطولة أن سوء الطالع سيكون الرفيق الأول للمنتخب الذي يتوقع له النجاح، سوى أن كولومبيا أصابها ما هو أكثر من سوء طالع.

قبل بداية مونديال 1994 وعند سؤال بيليه عن أبرز المرشحين،أجاب: كولومبيا.

قد يكون السبب الأبرز خلف تلك النبوءة هو جيل اللاعبين القوي الذي امتلكه المنتخب الكولومبي آنذاك، وهو الجيل الذي تمكن من تحقيق انتصار تاريخي على منتخب الأرجنتين بخمسة أهداف نظيفة بتصفيات التأهل للمونديال، بالإضافة لقرعة المجموعات التي أوقعت كولومبيا مع رومانيا، أمريكا، وسويسرا، وجعلت الجميع يظن أن التأهل لدور الـ16 محسوم.

لكن ذلك كان مجرد ظن لا أكثر، حيث خسرت كولومبيا أولى جولاتها أمام رومانيا 3-1، ودخلت المباراة التالية أمام صاحب الأرض والجمهور: الولايات المتحدة وهي تلعب على الفوز فقط.

هذه الظروف وضعت لاعبي كولومبيا تحت ضغوط شرسة، خصوصًا بعد أن نزل الأمريكيون إلى أرض الملعب بحماس واندفاع، هذا الاندفاع كان له أن يترجم في الدقيقة 34 عندما أرسل الجناح الأمريكي ستيوارت عرضية أرضية لتجد في طريقها أقدام المدافع الكولومبي «أندريس اسكوبار» قبل أن تسكن مرمى فريقه.

خسرت كولومبيا، وخرجت من الدور الأول، وعاد اللاعبون إلى العاصمة بوجوتا يجرون ذيول الخيبة، لكن الأسوأ لم يأت بعد!

ففي صباح الثاني من يوليو 1994، استيقظ سكان كولومبيا على خبر بشع. لقد أغتيل المدافع اسكوبار بعد أن تلقى 12 طلقة في صدره خلال ليلة قضاها بملهى ليلي بمدينة ميديلين.

تقول صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» إن المسلحين كانوا يصرخون «جووول!» بعد كل طلقة، وكأنهم كانوا يتلذذون بالانتقام من ضحيتهم. كما ترجح الصحيفة فرضية أن يكون لكبار تجار الرهانات، الذين خسروا أموالًا طائلة بعد الخروج غير المتوقع لكولومبيا من الدور الأول، دور في مقتل المدافع صاحب الـ27 عامًا.

لا يمكن طبعًا أن يلام بيليه على رحيل اسكوبار، لكن كان عليه أن يتوقف عند تلك اللحظة عن التصريح بتوقعاته العبقرية، من باب التشاؤم حتى يا أسطورة!


الصين ستتأهل على حساب البرازيل

تصريح سابق للويز فيليبي سكولاري

لم يهاجم أحد بيليه كما هاجمه المدرب السابق لمنتخب البرازيل «لويز فيليبي سكولاري»، حيث شن الأخير هجومًا عاتيًا على أسطورة البرازيل صيف عام 2002، حتى أنه سخر قائلًا إن نصيحته كمدرب فاز لتوه بالمونديال هي الاستماع جيدًا لتوجيهات بيليه ثم تنفيذ عكسها تمامًا.

والسبب وراء كل ذلك الهجوم كان نبوءة بيليه التي أطلقها قبل بدء مونديال 2002، فعند سؤاله عن توقعاته لمنتخب البرازيل أجاب بأن السليساو لن يفوز بكأس العالم، وربما لن ينجح حتى في الحصول على بطاقة العبور من دور المجموعات الذي ضم منتخبات لا تملك قيمة وتاريخ البرازيل كالصين وتركيا وكوستاريكا.

يؤكد سكولاري أن تصريح بيليه كان له أثر نفسي سلبي عليه وعلى لاعبيه، ووضعهم في أزمة ثقة قبل أن تطأ أقدامهم أراضي كوريا واليابان، بل إن المدرب البرتغالي يذهب لأبعد من ذلك ويقول بأن لاعبيه لم يكونوا ليرحبوا به إن أقدم على زيارة معسكرهم، وكثيرًا منهم لم يكن سعيدًا برؤيته علي منصة التتويج بالمباراة النهائية قبل أن يتسلموا الميداليات الذهبية، لأنه ببساطة شكك في قدراتهم من البداية.

الملفت في تنبوءات بيليه هو الثقة الكبيرة التي يتحدث بها، أحيانًا تشعر وكأنه يرى أشياء لا يراها أحد غيره. هنا مثلًا كان يرجح احتمالية أن يتعثر منتخب يضم «رونالدو الظاهرة، ريفالدو، روبيرتو كارلوس، كافو» والشابين «رونالدينهو، كاكا» أمام التنين الصيني!


بارمبي هو زيدان الجديد

«نيك بارمبي»، هل تعرف اللاعب صاحب ذلك الاسم؟

إن كنت لا تعرفه، فلم يفُتك الكثير. بارمبي هو لاعب وسط ملعب إنجليزي، بدأ حياته في توتنهام، ومن ثم تنقل بين عدة أندية إنجليزية كإيفرتون وليفربول، قبل أن ينتهي به الحال في هال سيتي.

لم يحقق بارمبي أي بطولة طوال مسيرته، وفي الواقع لم يكن لاعب صاحب إمكانيات كبيرة، كان مجرد لاعب جيد وحسب، غير أن بيليه كان يراه بشكل مختلف تمامًا.

في سبتمبر/أيلول 2001، خاض المنتخب الإنجليزي مباراة مع نظيره الألماني بتصفيات التأهل لمونديال 2002، وتمكن الإنجليز من تحقيق فوز عريض على رفاق «أوليفر كان» بنتيجة 5/1. وقد شارك بارمبي صاحب الـ21 عامًا آنذاك بالمباراة، ليطل علينا بيليه بعدها قائلًا إن الشاب الإنجليزي سيكون لاعبًا من طراز فريد، وأن بارمبي يذكره برونالدو الظاهرة، وبباولو مالديني، وبزين الدين زيدان، الثلاثة دفعة واحدة. فقط علينا انتظاره بضع سنوات.

بالتأكيد انتظرته الصحافة الإنجليزية، لتكتشف بعد تصريح بيليه أن حصيلة بارمبي التهديفية عبر أربعة مواسم قضاها بين جدران ليفربول وليدز يونايتد هي 6 أهداف فقط لا غير.

المثير أنه خلال العام الذي تنبأ فيه بيليه لبارمبي بمستقبل باهر كانت منتخبات الشباب تخوض منافسات كأس العالم بالأرجنتين، وهي البطولة التي شهدت ميلاد نجوم بحجم «سافيولا، جبريل سيسيه، أدريانو، كاكا، ومحمد اليماني»، كل هؤلاء لم يلفتوا نظر بيليه ولفت نظره بارمبي آسف أقصد زيدان الجديد.


نكات بيتهوفن

بيليه؟ إنه لا يعرف أي شيء عن كرة القدم، ولن ينجح أبدًا كمدرب. ودائمًا ما تخطئ توقعاته، لا أفهم لماذا تهتمون برأيه كثيرًا!

أثبتت السنوات القليلة الماضية أن لاعب كرة القدم الفذ ليس بالضرورة محللًا أو مدربًا جيدًا، والعكس صحيح أيضًا قد يكون هناك لاعب كرة متوسط أو سيئ لكنه يستطيع تحليل اللعبة وقراءة المباريات بشكل ممتاز. نحن الآن نعيش في فترة يبرز فيها أسماء مدربين كبار كـ«مورينيو، كلوب، فينجر، ماوريتسيو ساري، وأليجري»، الرابط بين كل هؤلاء أنهم لم يمارسوا كرة القدم بشكل احترافي أو ماروسها وكانوا لاعبين سيئين.

في المقابل، فشل أسطورة الأرجنتين «مارادونا» كمدرب، ولم ينجح المهاجم الفذ «ماركو فان باستن» في قيادة هولندا كمدرب للدور الثاني بالمونديال واليورو، أضِف لهؤلاء الهداف التاريخي «ألان شيرار» الذي لم يتمكن كمدرب سوى من حصد 5 نقاط من أصل 27. بيليه هو أيضًا مثال آخر ينفي الربط بين اللاعب الجيد والمحلل الجيد.

لكن كل تلك التوقعات التي جلبت لبيليه الانتقاد والسخرية لا تنال أبدًا من مسيرته كأحد أهم لاعبي كرة القدم في التاريخ، بيليه فاز بكل شيء ممكن رفقة سانتوس والسيليساو، وسجل رقمًا خرافيًا من الأهداف يقدر بـ1283 هدفًا لم ينجح حتى الآن «ميسي» و«كريستيانو» من الوصول إليه، وأعطى مثالًا رائعًا عن اللاعب الطموح الذي حقق كل شيء من لا شيء.

يقول بيليه إن في الموسيقى هناك بيتهوفن وهناك آخرين، وفي الكرة هناك بيليه وهناك آخرون. لذلك يمكن اعتبار كل تلك التصريحات الكوميدية التي أطلقها مجرد نكات، نكات بيتهوفن كرة القدم.