أكبر تسريب للمعلومات السرية الأمريكية عن حرب أوكرانيا،بعض الوثائق عمرها 6 أسابيع فحسب، وثائق كاملة مسربة، تزيّن معظمها علامة سري للغاية، جداول زمنية، وعشرات الاختصارات العسكرية، وكلمات ترسم صورة شديدة التفصيل لما يحدث في أوكرانيا، فقد احتوت الوثائق توضيحًا عن حجم الخسائر التي تكبدها الطرفان، كما تكشف نقاط الضعف العسكرية لكل من الجيش الروسي والأوكراني.

مسؤولون من البنتاجون الأمريكي أكدّوا أن الوثائق حقيقية، تحفّظوا على وثيقة واحدة فحسب من أصل 100 وثيقة، وقالوا إنه جرى التلاعب بصورتها، ولكن بعيدًا عن تلك الورقة الواحدة، فبقية الأوراق تكفي لإحداث تداعيات هائلة، فالوثائق تحكي عن المعدات التي يجري توفيرها لأوكرانيا، والتدريب الأمريكي للجنود الأوكرانيين، كما يكشف عن العديد من الألوية الأوكرانية تجمعها الولايات المتحدة استعدادًا لهجوم شامل في الربيع.

كما ترسم الوثائق خريطة للأراضي الأوكرانية في الشرق، لإظهار حالتها من حيث الصلابة واحتمال مرور المركبات العسكرية عليها في الربيع، كذلك تقول الوثائق إن فصل الشتاء قد اختبر الدفاعات الجوية الأوكرانية بأقسى صورة ممكنة، وقدراتها بدأت في التناقص المضطرد بعد نهايته، وكييف باتت في مرحلة من النقص العسكري ما يدفعها إلى إجراء حساباتها للموازنة بين مواردها المحدودة، وحماية المدنيين، والدفاع عن المناطق الحيوية، والبنية التحتية المهمة.

فيما يتعلق بالمعلومات التي نقلتها الوثائق، فيمكن القول إن العديد منها ليس جديدًا، الجديد فقط هو أن توجد هذه الكمية الهائلة من المعلومات في مكان واحد، وتُقدّم للجميع بهذا الشمول، فمثلًا تُقدر الولايات المتحدة أن قرابة 200 ألف جندي روسي قتلوا في الحرب حتى الآن، و أوكرانيا فقدت قرابة 130 ألفًا، بين جنود ومدنيين، هذه الأرقام على الرغم من فظاعتها فإنها قريبة من التكهنات التي نقلها مراسلو الحروب على مدار الأسابيع الماضية.

التلاعب لمصلحة من؟

لكن يجدر التنبيه أن هذه المعلومة هي الوحيدة التي قال عنها البنتاجون، إنه جرى التلاعب فيها، وأوضحت مصادر أخرى أن الأرقام قد تم التلاعب بها لإظهار أوكرانيا بمظهر الضحية، أكبر من الواقع، فمثلًا نشر موقع روسي هذه الأرقام مؤكدًا أن أوكرانيا خسرت فقط 16 ألف جندي فقط، أما الجانب الأوكراني فقد نقل الأرقام عن الروسيين، دون نقلها من المصادر الأمريكية، لكنه عكس الأرقام لتصبح 61 ألف جندي.

هذا التلاعب في الأرقام يقودنا للسؤال الأهم، من سرّبها؟ يكشف لنا الصحفي إريك تولر، المتخصص في الصحافة الاستقصائية وتدقيق الحقائق، عن التكنهات التي تدور حول مصدر هذه الوثائق، يقول تولر إنه من الصعب معرفة المصدر الدقيق لهذه الوثائق، لكنه رصد ظهورها منذ بدايات مارس/ آذار 2023 على منصة للمراسلة يستخدمها لاعبو ألعاب الفيديو، على تلك المنصة تجادل بعض من اللاعبين حول الحرب في أوكرانيا، فقال أحدهم أن لديه بعض الوثائق حول حقيقة ما يحدث في الحرب، وقام برفع 10 وثائق من الوثائق التي كُشفت لاحقًا.

هذه الطريقة غير التقليدية للكشف عن الوثائق ليست جديدة، ولا تشكك في مصداقية الوثائق من حيث المبدأ، فمثلًا عام 2019 ظهرت وثائق بريطانية تتعلق بالعلاقات التجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية على منصة ريديت، وفي عام 2022 نشرت مجموعة من لاعبي أحد الألعاب الإلكترونية وثائق تتعلق بروسيا أيضًا، كمحاولة لكسب الجدال أمام بعضهم، وثبت لاحقًا صدق كافة الوثائق.

اللافت أن المعسكرين، الغربي والروسي، قد بدؤوا في التشكيك في بعضهم البعض، أوكرانيا تقول إن الوثائق نسفت شهور التخطيط لهجوم الربيع المنتظر، فقد كان الرهان على هذا الهجوم كبيرًا لتغيير الواقع على الأرض، بينما طمأنهم آخرون أن الوثائق لا تكشف معلومات عميقة، وقد تكون حملة تضليل تقوم بها روسيا.

كابوس العيون الخمسة

لكن الخبراء العسكريين يميلون للعكس، إن هدف تسريب الوثائق هو تضليل الروس أنفسهم، خصوصًا أن الوثائق كلها لا تحتوي ما يمكن وصفه أنه معلومة حاسمة فيما يتعلق بالهجوم الأوكراني، فمع حالة الإخفاق الاستخباراتي الروسي التي تكشفت طوال الحرب، يمكن أن يتلقف الروس الوثائق باعتبارها معلومات حقيقية، دون مراجعة أو تدقيق، والانسياق خلفها، فتسير روسيا في فخ مُحكم.

التسريب شكل كابوسًا لدول العيون الخمسة، الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وبريطانيا، ونيوزيلندا؛ وهي 5 دول معروفة بمشاركتها للمعلومات الاستخباراتية مع بعضها البعض على نطاق واسع، خصوصًا أن شمول الوثائق لمعلومات حول دول عديدة مثل الصين والشرق الأوسط وإفريقيا، يؤكد أنها لم تُنشر من قِبل دولة حليفة، أو معادية، بل نشرها مواطن أمريكي، ربما ليس على دراية بآثار تلك الوثائق، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا، لمعرفة كيف وصلت إليه الوثائق.

ولم تستطع التحقيقات ربط الوثائق بمستخدم محدد من مستخدمي منصتي ديسكورد وفورتشان، اللتين ظهرت عليهما الوثائق، فمثلًا تحتوي الوثائق معلومات تقول إن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، الموساد، دعم المظاهرات المناهضة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، فقد نقلت الوثائق دعوات على لسان كبار قادة الموساد للموظفين والمواطنين للمشاركة في التظاهرات. وهو ما يُعتبر فضيحة في حد ذاته، لأنه من المعروف أن الموساد جهاز تجسس خارجي، من المفترض ألا يشارك في اللعبة السياسية الداخلية بأي شكل.

الوثائق أوضحت أن واشنطن علمت بذلك عبر اعتراضها لبعض إشارات المخابرات، ما يعني أن الولايات المتحدة كانت تتجسس على حليفتها الإسرائيلية، بالطبع أكد مكتب نتنياهو أن الوثيقة كاذبة، ولا أساس لها من الصحة.

التجسس على الحلفاء

الوثائق كشفت أيضًا عن محادثات دارت بين كبار مسؤولي كوريا الجنوبية، أكد المسؤولون أن الولايات المتحدة ضغطت عليهم لأجل مساعدة أوكرانيا عسكريًا، على الرغم من أن سياسة كوريا الجنوبية واضحة في عدم الرغبة في فعل ذلك. القصر الرئاسي في كوريا الجنوبية أكد أنه على علم بمحتوى الوثائق، وينوي مناقشة الولايات المتحدة بجدّية في محتواها، خصوصًا أن الوثائق تقول إن الاستخبارات الأمريكية علمت بتلك المعلومات عبر اعتراض عدد من المكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية.

لكن الجانب الأمريكي لم يتطرق حتى اللحظة للحديث حول هذه الوثائق، واكتفى بنشر أقوال غير رسمية أن اللمحة التي قدمتها الوثائق عن أوكرانيا ليست إلا لمحة جزئية، ومن شهر مضى، وأحال البيت الأبيض الوثائق للبنتاجون من أجل التحقيق فيها، وقالت وزارة العدل الأمريكية أنها تشارك في التحقيق، لكن اللافت حقًا أن الولايات المتحدة لم تعقب بأي شكل حول مسألة التجسس على الحلفاء، وتجاهلت تلك النقطة تمامًا.

فإحدى الوثائق تنص بشكل صريح على التجسس على الرئيس الأوكراني فولدمير زيلنسكي، الأخير قال إنه ليس متفاجئًا من قيام الولايات المتحدة بذلك، لكن الأوكرانيين أنفسهم محبطون للغاية من تلك الحقيقة، التي تبدو بالفعل بديهية.

أما الجانب العسكري التي ركزت عليه الوثائق، وهو أوكرانيا، فقد أوضح مجلس الأمن أن المعلومات بشأن العملية العسكرية المرتقبة سرية تمامًا، ولن تتأثر بالتسريبات الأمريكية، مؤكدًا أن قرارات الهجوم تتخذ في اللحظات الأخيرة لقمع أي احتمالية لتسريبها.

الأهم أن التسريبات ستعقد علاقة الولايات المتحدة بحلفائها، ليس لأنها تتجسس عليهم فحسب، بل لأنها ظهرت بمظهر العاجز عن حماية أسراره وأسرار حلفائه. كما أن تلك الوثائق ستصعب من فرصة جمع المعلومات لاحقًا، لأن الجهات التي طالتها الوثائق ستعمل بالتأكيد على تغيير طرق تواصلها، لقطع الطريق من المنبع على وسائل التنصت الأمريكية.

لقد تركت تلك الوثائق العالم في حيرة، البعض يؤكد أنها سُرّبت بعلم البنتاجون للتمويه والتضليل، والآخرون يؤكدون أنها إهانة وضربة كبيرة للأمن القومي الأمريكي، لكن حتى لو كانت المعلومات المنشورة فيها غير حساسة بما يكفي، أو يسهل تجميعها بصورة عامة، لكن الغضب الدولي من الغرور الأمريكي في ازدياد، وإن كانت الحكومات تدرك ضرورة تجسس كل دولة على الأخرى، فإن الشعوب التي طالت التسريبات مسؤوليها يزداد سخطهم يومًا بعد الآخر.