تشهد العديد من دول العالم ظاهرة النمو السريع لتيار «الخمسينية» المؤيد للصهيونية، ومع اعتناق ما يقارب 600 مليون نسمة بحسب بعض التقديرات لهذا الفكر وتوغله في العديد من المجتمعات المسيحية، فإن ظواهر سياسية كثيرة لا يمكن سبر أغوارها دون فهم حقيقة هذا التيار وتأثيراته المتشعبة في جميع مناحي الحياة، على الرغم من الغموض والالتباس الذي يواجه الباحث المتتبع لخريطة انتشار هذه الأفكار في أنحاء العالم، في ظل توقعات بأن يرتفع عدد ممارسي الخمسينية إلى مليار بحلول عام 2050، أي واحد من كل ثمانية أشخاص على هذا الكوكب.

وتشير التقديرات إلى أنه من بين أكثر من ملياري مسيحي في العالم، يعد ربعهم من الخمسينيين، بعد أن كانت نسبتهم 6 في المائة في عام 1980، ومن المربك أنه نادرًا ما يعرِّف أحد نفسه على أنه خمسيني، فالكثير من أتباع الحركة يصفونها بأنها «غير طائفية» دون مزيد من الشرح.

النشأة والمعتقدات

نشأت الطائفة الخمسينية في الولايات المتحدة في مطلع القرن الـتاسع عشر، وقد انبثقت عن المذهب البروتستانتي، ويشتق اسم «الخمسينية» من اعتقاد أتباعها بحلول الروح القدس على تلاميذ المسيح في اليوم الخمسين لصعوده إلى السماء، بحسب المعتقد المسيحي، ويُطلق عليها الـ «كاريزماتية» التي تعني امتلاك مواهب التكلُّم بلغات مختلفة، والقدرة على التنبؤ، وشفاء المرضى.

وقد تأسست «الخمسينية» في البداية كحركة تصحيحية على يد مجموعة من الأمريكيين، وسرعان ما انضم إليها أتباع العديد من الكنائس المختلفة، دون أن يعتبروها مذهبًا مستقلًّا، وقد انتشرت بسرعة شديدة حتى ضمت عشرات الملايين في العالم في وقت قصير، وشكلت كتلة مهمة فيما يسمى بـ «اليمين المسيحي»، الذي يرى البعض أنه من الأصح أن نطلق عليه «اليمين الخمسيني».

وانتشرت هذه الحركة بكثافة في ولايات ما يسمى بتجمعات «الحزام التوراتي» أو «الحزام الإنجيلي»‏، وهو مصطلح غير رسمي يُطلق على ولايات جنوب شرق الولايات المتحدة تُشكِّل فيها البروتستانتية جزءًا رئيسيًّا من الثقافة وتحظى بتأثير هائل، ومنها انتشرت إلى أنحاء العالم.

ويؤمن أتباعها بوجود وعد إلهي توراتي يتضمن حق الشعب اليهودي في إقامة دولة إسرائيل، وأن على الخمسينيين أن يدعموها في وجه أعدائها ويربطوا الحركة الصهيونية بالحضارة الغربية والحداثة، في مقابل عرب فلسطين الذين يعتبرونهم غير متحضرين، وهناك روابط وثيقة بين أكبر التجمعات في الحزام التوراتي ووزارة الشئون الاستراتيجية والدعاية في إسرائيل (تأسست الوزارة عام 2006 وكان السياسي اليهودي المتعصب أفيجدور ليبرمان أول وزير لها، وتم حل الوزارة في 2007 ثم أعيدت مرة أخرى في 2009، ويركز عملها على إدارة حملات العلاقات العامة وتحسين صورة إسرائيل ومكافحة حركات مقاطعة الاحتلال).

ونتيجة لهذه المعتقدات، يدعم الخمسينيون مشروع إسرائيل الاستيطاني غير القانوني في الضفة الغربية، وأي إجراءات أخرى من شأنها ترسيخ السيادة الإسرائيلية على فلسطين، وينفق أتباع التيار تبرعات طائلة لدعم الاستيطان غير القانوني بموجب القانون الدولي، رغم تعارضه مع العديد من قرارات الأمم المتحدة، ويتجاهلون عمومًا انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين، حتى المسيحيين منهم، أو يرونها وسيلة ضرورية لتحقيق غاية كبيرة.

وقد تطورت الخمسينية إلى جهد تبشيري دولي فور نشأتها تقريبًا بسبب إيمانها بفكرة التكلم بالألسنة، فحرص أتباعها على نشر الدعوة في الدول المختلفة بلغاتهم الخاصة، وهكذا انتشرت الحركة أولاً بين الأقليات في أمريكا الشمالية وسرعان ما تم نقلها إلى أوروبا، وبحلول نهاية عام 1906 بدأ العمل التبشيري في النرويج، وفي عام 1907 وصل إلى بقية الدول الاسكندنافية وألمانيا وإيطاليا وهولندا، وساعد ذوو الأصول اللاتينية في انتشار الحركة إلى المكسيك وبين المجموعات الناطقة بالإسبانية هناك، وشكلت طوائف مستقلة تمامًا جديدة في كل من المكسيك وبورتوريكو، ومن هذه المجموعات انتشرت الخمسينية في بقية أمريكا اللاتينية، حيث أصبحت ذات شعبية خاصة في العقود الأخيرة، واستمر نموها في أمريكا الشمالية، وتم إنشاء طوائف خمسينية جديدة زاد عددها على المائة، كما اعتنق هذا الفكر أعضاء في أكبر الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية الرومانية.

التأثير السياسي

مع توسع رقعة انتشارها نما تأثيرها السياسي في دول آسيوية وأفريقية وفي أمريكا اللاتينية، وأصبحت عاملًا مؤثرًا في سياسات الدول؛ فمثلًا في البرازيل التي كانت تُعتبر ذات يوم أكبر الدول الكاثوليكية على وجه الأرض، يصف أكثر من 30 في المائة من السكان أنفسهم الآن بأنهم إنجيليون، ومعظمهم من الخمسينيين الذين أوصلوا الرئيس الحالي بولسونارو إلى السلطة.

ويعد بولسونارو مقربًا جدًّا من إسرائيل وشهدت العلاقات بين البلدين تقاربًا منذ توليه منصبه الذي فاز به عام 2018، واتخذ قرار نقل سفارته إلى القدس لتكون دولته هي الثالثة بعد نقل الولايات المتحدة وجواتيمالا سفارتيهما، ثم تراجع عن تنفيذ القرار بعد ضغوط داخلية وخارجية كبيرة، لكنه أكد لأصدقائه اليهود أن الخطوة «لا تراجع عنها»، دون أن يحدد موعدًا لتنفيذها.

والخمسينية هي اسم شامل لمجموعة من الطوائف، ومع وجود 600 مليون معتنق وامتلاك ثروات كبيرة أصبحت بعض فصائل حركة الخمسينية تضع نصب عينيها الهيمنة على العالم، ففي الولايات المتحدة حيث حققت جماعة «وصية الجبال السبعة» (Seven Mountain Mandate ) نفوذًا كبيرًا داخل الحزب الجمهوري، ومنهجها الحركي يقوم على السيطرة على ما يسمونه «الجبال السبعة»، وهي: التعليم، والدين، والأسرة، والأعمال التجارية، والحكومة والجيش، والفنون والترفيه، والإعلام.

وقد ظهرت جماعة الجبال السبعة عام 1975، وكانت الانطلاقة الحركية لها عام 2000، ومنذ عام 2013 نمت شعبيتها في الولايات المتحدة بشكل بالغ، ومن أشهر قادة الجماعة، بولا وايت، المستشارة الروحية للرئيس الأمريكي السابق، التي كانت تبشر بأن ترامب «سيلعب دورًا حاسمًا في هرمجدون حيث تقف الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل في المعركة ضد الإسلام».

وكان فوز الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، هدية إلى أنصار الخمسينية، إذ يكمن نجاحه في جزء كبير منه في صعود الخمسينيين الذين يميلون للقادة الشعبويين ذوي الذراع القوية، ويأخذون موقفًا سلبيًّا من اليساريين، وأنصار زواج المثليين والهوية الجنسية والمساواة العرقية والجنسية، حتى أصبحت الخمسينية مرادفة لوجهة نظر عالمية مناهضة لليبرالية.