محتوى مترجم
المصدر
Newyorker
التاريخ
2017/05/17
الكاتب
Peter Hessler

الجزء الأول

في أحد صباحات مايو 2013، درسنا موضوعاً عن الانتحار. كانت الاحتجاجات ضد مرسي قد تبلورت في شكل حركة تطلق على نفسها اسم «تمرد» في هذا الوقت. نظّمت الحركة تظاهرات عملاقة انتهت بانقلاب عسكري لوزير الدفاع وقتها، عبد الفتاح السيسي.

في الحصة، كنا قد انتهينا من دراسة مجموعة متفائلة للغاية من الكلمات: «سُم»، «رصاص»، «إحباط»، «اكتئاب»، «قمع»، وشرح لنا رفعت أن الانتحار لم يكن يوماً أمراً شائعاً في مصر، لكنه يحدث الآن بمعدلات أكثر من عهد ناصر، أكد لي أنه من المستحيل بشكل واضح أن ينتحر الواحد بعد استماعه لأم كلثوم. في كل الأحوال، رفعت لم يكن ليفعل أمراً كهذا أبداً. «الموت سيأتي في كل الأحول» هكذا كان يقول مبتسماً، ويضيف: «لا داعي لاستعجاله، الموت لا يتأخر».

لم يكن يوافق على الانتحار بأول أكسيد الكربون، واعتبرها طريقة جبانة. لو كان سيقدم على شيء كهذا، فسيفعله على طريقة كليوباترا، باستخدام سُم الكوبرا. «الكوبرا» كلمة لها نفس المعنى في العربية والإنجليزية، بجذر لاتيني مشترك. أنهى الحصة بتسليمنا مجموعة جديدة من الإسكتشات، بعنوان: «ضحايا النظام»:

يبلغ إبراهيم السادسة عشرة من عمره، وهو طالب في مدرسة ثانوية. مستواه جيد في الدراسة، ويحظى بثقة والديه، يخرج ويعود إلى البيت وقتما يشاء. صداقته لأستاذه في المدرسة، زادت من ثقة والديه فيه، وكان إبراهيم بدوره شديد الفخر بهذه الصداقة، لدرجة أنه لم يتردد في الموافقة حينما طلب منه أستاذه هذا أن يشاركه عملية سرقة منزل فتاة كانت قد رفضت الزواج منه.

لم تتوافر العديد من الاختيارات فيما يتعلق بالمواد الدراسية الخاصة باللغة العامية، والتي تعبّر الكلمة عنها تماماً: «العاميّة»، تعني فيما تعني الـ «شائع، العام، المتعارف عليه». على العكس من ذلك، يطلق على اللغة العربية التقليدية: «اللغة العربية الفصحى»، أو «الفصحى»، ويعتبرها الأكاديميون الغرب: «العربية الحديثة النموذجية»، بالرغم من وجود العديد من الروابط بينها وبين العربية القديمة التي تعود إلى أيام الرسول محمد.

في ذلك الوقت القديم، افتقدت اللغة العربية تقاليد واضحة فيما يتعلق بالتعبير الكتابي، وفي أعين المؤمنين، تعتبر أُميّة النبي محمد دليلاً على الأصل المتجاوز المقدس للقرآن. حتى بالنسبة لشخص متشكك مثل رفعت، كان القرآن جميلاً للغاية، لدرجة تجعل من المؤكد أنه كلام الله.

بعد انتشار الإسلام، أسس العلماء قواعد اللغة المكتوبة. مشاريع كهذه ليست نادرة في الإمبراطوريات الجديدة. في الصين مثلاً، كانت «سلالة هان»، التي ظهرت قرابة عام 206 قبل الميلاد، هي من أسس، ودون ووحد الكونفوشيوسية، والروستية، والصينية الكلاسيكية، في لغة واحدة، وهو الإجراء الذي ساعد على وضع أسس الكتابة للغة. استخدم الهان هذه النصوص التي تعود إلى قرون مضت، كنماذج تساعدهم على وضع المبادئ العامة للكتابة الصينية، فيما يُعرف بالنموذج الكلاسيكي للكتابة الصينية، والتي لم تكن على الأغلب مستخدمة في الحياة اليومية في الصين وقتها.

امتلك العلماء العرب الأوائل تصوراً مماثلاً في العودة إلى الماضي، لكن المادة التاريخية المتاحة لهم، لم تكن بنفس الثراء، مقارنة بالحالة في الصين، لهذا اتجهوا إلى الصحراء. بحثوا عن البدو، والذين ساد الاعتقاد أنهم يتحدثون نسخة أنقى من اللغة، مقارنة بأولئك الذين يعيشون في المدن، حيث تأثرت اللغة بالتعامل المستمر مع الأعاجم. تعامل علماء اللغة مع البدو باعتبارهم قضاة لغة يفصلون في اختلافاتهم، وكان من المعتاد أن يرسل علية القوم أولادهم إلى البادية لاكتساب اللسان القويم.

خلال القرن العاشر، كان الأزهري، وهو أحد المعجميين، محظوظاً – الحمد لله – باختطافه لأن قبيلة بدوية وضعته في الأسر، حيث سمحت له هذه التجربة بإنتاج قاموس: «شرح التصريح»، والذي كانت مقدمته نوعاً من متلازمة ستوكهولم نحوية، موجهاً فيها الشكر لخاطفيه: «كانوا يتحدثون بطبيعتهم الصحراوية، وبغريزتهم غير الملوثة، ونادراً ما كان كلامهم يحتوي على خطأ أو زلل نحوي».

عملية وضع قواعد للغة العربية المكتوبة، كانت لها أهداف متقاطعة في الواقع، ومتزامنة مع انتشار اللغة المنطوقة.

في أقاليم الإمبراطورية الإسلامية، مثل مصر، تعلّم الأوائل اللغة العربية بطريقة غير رسمية، وكانت النتيجة تبسيط العديد من القواعد النحوية. وكرد فعل، طوّر العلماء، في الاتجاة المقابل، لغة جميلة المنطق، لكنها شديدة الصعوبة. يجادل عالم اللغات التطورية تشارلز فيرجسون، والذي يُدرّس في جامعة ستانفورد، بأنه لا يوجد أي دليل، على أن لغة القرآن، كانت اللغة الأم لأي مجموعة من البشر.

بقيت الفصحى، عبر القرون، بعيدة عن لغة الحياة اليومية، مما حافظ عليها مستقرة، ربما كنهر توقف عن التدفق. في القرن التاسع عشر، بتأثر من ضغوط الاستعمار والتحديث المستمرة، شعر بعض المصريين أن الفصحى لم تعد ملائمة للعصر. كان هناك دائماً كتابات بالعامية المصرية، وعدد من المثقفين الذين يدعون إلى التوسع في اسخدامها، الأمر الذي كان يثير قلق المحافظين من أضرار ثقافية متزايدة.

كتب أحد المحررين في جريدة الأهرام، عام 1882:

سيؤدي التزايد في استعمال العامية إلى فقدان لغة أجدادنا لكل ما تحمله من ميزات، لا سمح الله. كيف يمكن أن نؤيد لغة ضعيفة، التوسع في استخدامها يعني حتماً تنحية اللغة المقدسة الأصيلة؟

حدثت هذه الجدالات في أماكن أخرى من العالم، خاصة تلك التي كانت لها صراعاتها أثناء الانتقال إلى الحداثة. في الصين مثلاً، ساعدت الحركات السياسية أثناء عامي 1910-1920، في إنهاء استخدام اللغة الصينية الكلاسيكية، واستخدام لغة الأقاليم الشمالية، والتي تعرف الآن بالـ «مندرينية». لكن التغيير كان سهلاً بالنسبة للصينيين، والذين كانت لغتهم ترتبط بكيان سياسي واحد، والأهم، لم يكن لها ارتباط بأي نص مقدس.

خلال أواخر القرن التاسع عشر، قرر منظرو الـ «نهضة العربية»، تحديث الفصحى، دون التدخل بشكل عنيف في هيكلها، أو تغيير قواعد المصطلحات الأساسية. تم صك مصطلحات جديدة باستخدام أصول تقليدية، كلمة الـ «برقية» أتت من «برق». «أليس هذا فاتناً؟»، هكذا أضاف رفعت بعد شرح المثال.

كلمة «قطار»، كانت تستخدم قديماً لوصف قوافل الجمال. بعض التعابير الجديدة كانت حتى أكثر خيالاً، الـ«قاطرة»، هو وصف كان يستخدم لوصف أول جمل في القافلة، وتم استلهامه في وصف الجرار الذي يسحب عربات القطار، كذلك الهاتف، وهو أحد أوصاف صوت الرعد.

للأسف لم تنج كل هذه الكلمات، وهذه الأيام يضطر الواحد للرد على أرقام غريبة خاطئة على هاتف البيت، الذي اكتسب اسماً مستعاراً من لغة أخرى: التليفون.

حاول الفرنسيون، في مرحلة ما أثناء احتلال الجزائر، أن يستبدلوا اللغة الفرنسية بالفصحى في المدارس. لكن المسئولين البريطانيين لم يحاولوا فعل شيء مشابه في مصر، وإن كان بعض الإنجليز اقترحوا أن استعمال اللغة العامية في التعليم، قد يرفع معدلات الأشخاص القادرين على القراءة والكتابة. وبمرور الوقت، ربط العرب بين أي تشجيع على استخدام العامية في الكتابة، وبين الاحتلال.

التمسك بالفصحى كان شيئاً محوريا للقومية العربية أثناء الخمسينات، لأن اللغة خلقت رابطاً عبر العالم العربي. لكن ناصر، وهو أكبر قومي عربيّ على الإطلاق، استوعب أهمية العامية المصرية. عادة ما كان يبدأ خطاباته بالفصحى، ثم يطعّم كلامه بالعامية، وعند لحظة الذروة، يصبح خطابه بالكامل معتمداً على لغة الشارع. كان لابد من سماع هذه الخطابات للتأثر بها.

في مصر، عادة ما يتم تحويل خطابات الشخصيات السياسية إلى الفصحى قبل طبعها في الصحف. هناك دائماً بعض الاستثناءات، مثل الحوار مع سوزان مبارك، والذي استخدم العامية لرسم صورة أكثر قبولاً، وتواضعاً: «أكلت طبق فاكهة صغير».

ترجمة الكلام العامي إلى الفصحى قد يكون بهدف تشذيب كلام السياسيين كذلك.

على سبيل المثال، في أبريل عام 2016، ناقش الرئيس السيسي مع ممثلي فئات المجتمع المختلفة عملية الإصلاح السياسي. قال، متحدثاً للمصريين، ببعض اللعثمة:

المثالية اللي بتنادوا بيها دي في الكتب، لكن منقدرشي كل شيء بالورقة والقلم تفكروا فيه وتطالبوا بيه الدولة، لأ مش هيحصل، لازم نعرف كدا إنه مش كل حاجة بنتمناها بنعرف نعملها، لكن إحنا ماشيين في طريق بننجح فيه كل يوم عن اليوم اللي قبله.

في جريدة الأهرام المصرية، تم نشر هذا الكلام كالآتي: «المثالية توجد في الكتب فقط، لكننا نمضي في طريق النجاح، ونحقق النجاحات يوماً بعد يوم».

أي مصري سيعرف أن السيسي لم يستخدم الفصحى بالفعل. يقول لي محمود عبد الله، مدير مشروع جامعة ميدلبري الصيفي لتعلّم اللغة العربية: «عدد قليل من الناس يستطيع التحدث بالفصحى طول الوقت». أخبرني أنه حتى علماء اللغة أنفسهم، أو أئمة المساجد، ورجال الدين، الذين يحفظون القرآن، سيخطئون في بعض الأحيان، لو طُلب منهم الحديث بشكل ارتجالي. ولهذا يبطئون من إيقاع كلامهم حينما يتحدثون بالفصحى، لأنهم يخافون من ارتكاب الأخطاء.

أراد رفعت، بعد الإنقلاب، أن يؤمن بالسيسي. في يناير عام 2014، وبعد تردد الشائعات حول ترشّح السيسي لرئاسة الجمهورية، درّس رفعت لنا أغنية شعبية عنوانها: «كلنا بنحب السيسي»، تقول:

العالم كله قال: بتفكرنا بمانديلا، وزعيم الأمة جمال (عبد الناصر).

في ربيع هذا العام، ترشّح السيسي، وانتخبه رفعت. لكن حملة الرئيس الجديد ضد الإرهاب، تضمنت قمعاً لكل معارضة محتملة، وعشرت الآلاف من السجناء. بدا واضحاً أن الرئيس السيسي يفضّل المشاريع العملاقة اللامعة، على الاستراتيجيات الاقتصادية المدروسة. بحلول عام 2015، بدأت عصبية رفعت في التزايد. كان يعاني من قرحة تلتئم ببطء في قدمه، ولم يساعده الطبيبان اللذان ذهب إليهما. عادة ما كان يوجه رفعت انتقاداته لمنظومة الرعاية الصحية، وانحدار المجتمع بشكل عام في مصر: «بالطبع كان ناصر ديكتاتوراً، لكن طريقته نجحت على الأقل، ما فائدة أن تكون ديكتاتوراً، دون أن تنجح في أي شيء؟».

مرة زارتنا سيدة في منتصف العمر، تعيش في نفس البناية التي نحضر فيها دروسنا، توقفت عندنا لتبادل الحديث بعض الوقت، كانت ترتدي ثياباً فاخرة، وتشتكي من الشباب الذين يتظاهرون ضد السيسي قائلة: «يجب أن يعطوه الفرصة ليصلح الأمور». هز رفعت رأسه موافقاً، لكن عندما بدأت المرأة في التحدث عن الفقراء الذين توفر لهم الحكومة الكهرباء والغذاء مجاناً، والدعم الذي تقدمه على السلع، امتقع وجهه، وجحظت عيناه. استطاع البقاء صامتاً حتى رحلت، لكنه انفجر بمجرد مغادرتها:

هؤلاء هم من أفسدوا كل شيء، حصلوا على كل شيء تحت حكم السادات ومبارك، لم نكن أبداً هكذا!

كنت أنا وليزلي نمزح مع رفعت دائماً قائلين إنه يعيش في نوستالجيا وحنين لا ينقطع للماضي. لكنه بدا مستاء بحق في هذا اليوم. كان تشاؤمه العابث، يتحوّل إلى شيء أكثر تشوشاً.

إحدى مآسي مصر المعاصرة، هو الفشل في خلق طبقة وسطى واسعة، ونابضة بالحياة، كان هذا قلب رؤية جمال عبد الناصر الاجتماعية. أنشأت حكومته وقتها مراكز حكومية لتشجيع الفنون والمسارح، وتوسّع النظام التعليمي الحكومي على مقياس عملاق، ليتيح فرصة دخول الجامعات مجاناً لملايين المصريين، لكن اتضح أن احتماليات الرفاهية المستقبلية، كانت سراباً بالكامل. نمت المدارس بسرعة كبيرة، دون إصلاحات مناسبة، أو تدريب للأساتذة، وكانت نسخة ناصر من الاشتراكية، كارثة اقتصادية. استطاع المصريون الذهاب إلى الجامعات، لكنهم لم يجدوا عملاً بعد تخرجهم، لهذا يعمل المهندس – في كتاب «دردشة» – كنادل في مقهى. يعتبر هذا أحد التفسيرات المهمة في أن الجماعات الإسلامية الأكثر عنفاً، خلال فترة الثمانينات والتسعينات، ضمّت عدداً ممن يندرجون في جامعات صعيد مصر كتابعين لها، حيث اكتشف التلاميذ القادمون من أعماق الريف، أن طموحاتهم ليس لها أي معنى.

بالنسبة لرفعت، والذي يعتبر نفسه عضواً في الطبقة الوسطى، فإن مصر أصبحت مكاناً وحيداً. انهار نظام التعليم، ويعاني أغلب المواطنين من الفقر، ويُستدرجون إلى الدين كمهرب، بينما تدير الطبقة العليا ظهرها إلى المجتمع، تعيش في مُجمّعات سُكانية مغلقة ذات بوّابات، وتعلم أبناءها في مدارس دولية.

مثّل ميدان التحرير تقارباً لفترة وجيزة: كان أغلب المنظمين ينتمون إلى الطبقة العليا، بينما يتبعهم ملايين من الطبقات الأفقر. لكن هذا لم يستمر. بعد الانطلاقة الأولى، لم تستطع هذه المجموعات بناء جسور يعبرون من خلالها الفجوات التي تفصلهم عن بعضهم البعض.

في خريف عام 2015، توقفنا أنا وليزلي عن حضور الحصص لبعض الوقت. كان هذا عامنا الخامس والأخير في مصر. وكنا مشغولين بالبحث خارج القاهرة. راسلت رفعت عبر الإيميل عدة مرات، وتحدثت معه تليفونياً، أخبرنا أنه يتطلع إلى عودتنا. كانت حالة قدمه تسوء، وحين حادثته مرة في أواخر شهر نوفمبر، بدا وكأنه على وشك البكاء.

في الشتاء، قضينا رحلة طويلة في صعيد مصر. بعدها راسلت رفعت كي أرتب معه حصة جديدة. لكنه لم يرد. لهذا اتصلت بالهاتف. لم يرد أحد. حادثت أحد إخوته، والذي يعمل في «كلمات»، ساد صمت طويل بعد أن ألقيت عليه التحية.

قال أخيراً: «رفعت توفي».

صدمتني الكلمة بأقسى ما يمكن. كان رفعت بالتحديد هو من علمني ماذا تعني.

لم تكن مسألة تجديد اللغة من المواضيع المطروحة خلال أحداث الربيع العربي. ربما كانت هذه الجدالات مهمة لأجيال النهضة والقومية العربية، لكن هذه المسألة كلها، استقرت في الوعي العام، ولم تعد تثير جدلاً، على الأقل فيما يتعلق بالمصطلحات السياسية. الفصحى دائماً هي لغة الخطاب الرسمي، وهي لغة الصحافة، وغالبية الإصدارات الإعلامية، لكن الدارسين وعلماء اللغة، لا يزالون من وقت لآخر يشيرون إلى بعض المشاكل.

في عام 2003، نشرت نيلوفار هايري، وهي عالمة أنثروبولوجيا لغوية في جامعة جون هوبكنز، كتاباً بعنوان «لغة مقدسة، ناس عاديون»، وفيه ترفض استخدام الاصطلاح الأكاديمي «العربية الحديثة النموذجية»، مفضلة الإشارة إلى الفصحى باعتبارها: «العربية الكلاسيكية».

تخبرني نيلوفار: «اللغة الحديثة بالنسبة لي، هي لغة أم لشخص ما. هذا جزء من فهمي للمصطلح. إنها تعاصر متحدثيها منذ البداية»، أشارت كذلك إلى أن بلداناً مثل سويسرا الألمانية تملك نوعاً من اللسان المزدوج، أو القدرة على التحدث بلغتين، لكن الفارق هو أن الألمانية السويسرية، والألمانية العليا، لغتان على قيد الحياة بالفعل، ويتم استخدامهما في الحديث. «يتعرض الأطفال العرب – أثناء تعلّم اللغة – لموقف لا أعتقد أن أي مجموعة شبيهة من الأطفال تتعرض لمثله في العالم».

يعرض كتاب هيري عدم الارتياح الذي يشعر منه كثير من المصريين ناحية الفصحى. علاقة يغلب عليها الفتور. أغلب الناس يفهمونها جيداً، لأنهم يسمعونها بشكل متكرر، لكنهم يعانون عند النطق بها. الكتابة بالفصحى تتطلب خطوة لا توجد بالضرورة في معظم اللغات، تفسّر لي: «أنت تترجم نفسك عبر وسيط لغوي تملك سيطرة ضعيفة عليه».

بعد نشر نتائج دراستها، هوجمت هايري من عدد من الباحثين الغرب المختصين في شئون الشرق الأوسط. تؤمن هايري أن خلفيتها كامرأة مسلمة من إيران، درست اللغات وليس الدراسات الإقليمية، ربما قد يكون سبباً في رغبتها في تتبع موضوع حساس من الناحية السياسية فيما يتعلق بالدراسات الشرق أوسطية. لكن هناك مصريين يحملون نفس الرأي. ليلى أحمد مثلاً، وهي بروفسورة في جامعة هارفارد ديفينتي، نشأت في القاهرة، وصفت كراهيتها للفصحى أثناء طفولتها في كتاب سيرة ذاتية بعنوان «الممر الجانبي»، وفيه تتذكر صراخها في وجه مدرس اللغة العربية: «أنا لست عربية، أنا مصرية! ونحن لا نتحدث بهذه الطريقة». هاجم إدوارد سعيد كتابها بشدة. وأعتبره جزءاً من الوعي الاستشراقي في التعامل مع اللغة العربية. في مقال نُشر بعد وفاته، كتب سعيد: «قراءة كلام ليلى أحمد المثير للشفقة، يجعل المرء يشعر بالأسف لأنها لم تكلف نفسها عناء تعلم لغتها الخاصة».

وجهة نظر ليلى أحمد هي أن الفصحى، من الأساس، ليست لغتها الخاصة. كما أنها ليست لغة إدوارد سعيد نفسه، وهو الذي نشأ في القاهرة والقدس، واعترف في إحدى مقالاته، أنه رغماً عن النشأة، لم يكن أبداً مرتاحاً في التعامل مع الفصحى. حكى سعيد عن تجربة ذهابه إلى القاهرة لإلقاء محاضرة، كباحث مُحتفى به، وعن تعبير أحد أقربائه الأصغر سناً عن إحباطه من ضعف فصاحة إدوارد سعيد، الذي يصف نفسه كشخص«ما زال يتسكع على هامش اللغة».

لكن إدوارد سعيد لا يحاول طرح السؤال الأهم: لو أن شخصاً متعلماً مثله يعاني في التحدث بالفصحى، كيف هو الأمر إذن بالنسبة للباقين من الناس؟

يعاني أكثر من ربع المصريين من الأمية، وتزداد النسبة خصوصاً بين السيدات، اللواتي تقل فرصهن في التواجد في بيئات تستعمل الفصحى.

الراحة في أثناء التعامل مع اللغة هي أمر آخر. «الناس لا يكتبون بالفصحى عادة، لأنهم لا يشعرون بالثقة في قدرتهم على الكتابة بها، بالإضافة إلى القلق من عدم اتقانها». هكذا أخبرتني مديحة دوس، وهي أستاذة في اللغويات العربية، وفقه اللغة، بجامعة القاهرة.

ربما تكون صعوبة الفصحى، قد أسهمت في أن يصبح من المعتاد استخدام لغات أجنبية لتعليم الطلبة الجامعيين المجالات التقنية. كان هذا هو الحال حتى أيام الملكية واستمر بعد توسّع ناصر في سياساته المتعلقة التعليم العالي. في الجامعات الحكومية، يتم تدريس الرياضيات، والطب، وبعض العلوم الصلبة* باللغة الإنجليزية.

احتاج الأوروبيون، منذ قرون مضت، إلى اللغة العربية من أجل دراسة الطب، لكن في الوقت الحالي، حتى طلاب الطب المصريون لا يستخدمون العربية في دراستهم الطبية. تقول ليلى دوس: «ما يحدث هو إبقاء اللغة العربية محصورة للمعارف التقليدية، يجعل هذا اللغة أكثر محافظة».

يؤدي الوضع إلى عمليات انتقال مربكة. يبدأ الطالب الجامعي الذي يدرس الرياضيات مثلاً، في كتابة المعادلات بأحرف لاتينية وإغريقية، ويقرأها من اليسار إلى اليمين، في سنته الجامعية الأولى، حين يتحول المنهج إلى اللغة الإنجليزية، وذلك على عكس ما كان يفعل طوال فترة دراسته في فصول مدرسته الثانوية، حيث الدراسة باللغة العربية.

يرى هاني الحسيني، وهو أستاذ رياضيات في الجامعة، أن هذه التغيرات تربك الطلبة، وهو يعتقد أنه يجب استخدام اللغة العربية بالكامل في التدريس، يضيف في نفس الوقت: «لكن هذا الأمر يحتاج إلى مجهود كان يجب بذله منذ 150 عاماً، علينا أن نترجم كثيراً، وأن ننتج أعمالاً أصيلة باللغة العربية».

بعض علماء اللغة الذين تحدثت معهم، مثل محمود عبد الله من جامعة ميدلبري، يعتقدون أن المشكلة الرئيسية، هي في عدم الاهتمام بتعليم الفصحى، وأن المنظمات الحكومية التي يفترض بها تنظيم سياسات التعلّم، ضعيفة ومشتتة، وبلا رؤية. في جميع الأحوال، تبقى النتيجة هي أن المثقفين والمتعلمين العرب ينجرفون بعيداً عن لغتهم الخاصة، وحتى الأطفال القاهريون المنتمون للطبقة الوسطى أو العليا، يتلقون تعليمهم، بشكل أساسي، باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، في مدارس خاصة.

يخبرني أشرف الشريف، وهو أستاذ للعلوم السياسية بالجامعة الأميركية، أن عدداً كبيراً من تلامذته المنتمين إلى الطبقة العليا، يستطيعون بالكاد الكتابة بالعربية، ويعتقد أن لهذا الأمر عواقب سياسية معتبرة. يقول أشرف: «هؤلاء من سيقومون بوضع السياسات العامة لبلد لا يعرفون عنه شيئاً. لو تحدثنا بشكل عمليّ تماماً، فإنهم قد تحولوا إلى أجانب. إنهم مستشرقون».

يقلّ كذلك عدد الأشخاص القادرين على تمييز الخصائص الثقافية المميّزة للفصحى. يخبرني يوسف رخا، وهو روائي شاب موهوب، أن هنالك رابطة قوية تنشأ بالطبع حين يستطيع شخص متعلّم أن يقرأ نصوصاً بلغة قديمة، لها صلة قوية بالكتابات المعاصرة، لكنه في نفس الوقت، يعتقد أن الإبقاء على هذا الشكل التقليدي له كلفة عالية. ويضيف: «لو حفظت شيئاً ما لفترة طويلة، فربما يفسد، مجاز نقاء اللغة، له مجاز مقابل، وهو التعفّن».

تلقت رواية رخا الأولى، «كتاب ختم السلطان»، إشادة تتعلّق بمزجها المبتكر بين الفصحى والعامية المصرية.

خلال القرن الماضي، رفض الكثير من الناشرين كتباً تستخدم العامية المصرية. حتى الروايات التي تتناول الحياة اليومية، مثل ثلاثية نجيب محفوظ، كانت تستخدم الفصحى، التي لا يستخدمها أي مصري في كلامه عادة، كلغة حوار. ما زالت العامية المصرية تفتقر إلى قواعد إملاء، لكن استخدامها تزايد خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، أحد الأسباب المهمة التي تفسّر ذلك هو الإنترنت والرسائل النصيّة.

يستطيع كاتب مثل يوسف رخا، هذه الأيام، أن ينشر كتاباً لغته العامية المصرية، لكن أمراً كهذا يأتي متأخراً جداً، يقرأ الناس بالكاد كتباً عربية من أي نوع. بالنسبة لرواية رخا الثالثة، فهو يكتبها بالإنجليزية، وذلك لاجتذاب القراء بشكل أساسي. ربما استقبل النقاد رواية «كتاب ختم السلطان» جيداً، لكنها باعت أقل من 5 آلاف نسخة. بالنسبة لرخا فالكتابة بالإنجليزية ستريحه من التفكير في مسألة الفصحى في مقابل العامية. ويستطيع الآن التفكير في أشياء أخرى، ويضيف: «لن يكون ربع تفكيري وانتباهي موجهاً إلى طبيعة اللغة التي أعبر بها عن نفسي».

شعرت أنني أتحول إلى شخص «عصبي» على حد تعبير رفعت، في أيامي الأخيرة بالقاهرة. كنت أصطحب ابنتيّ بالسيارة، كل يوم، عابراً نهر النيل. كانت هذه المحنة –أبواق السيارات، الانحناءات المفاجئة، أماكن التوقف غير المسموح بالوقوف فيها لأي داعٍ – تتركني منهكاً بحلول الساعة الثامنة صباحاً.

لكي أساعد نفسي على الاسترخاء قليلاً أثناء القيادة، كنت أستمع إلى قائمة مصطلحات سجّلها رفعت على ملفات صوتية. بعض هذه المصطلحات كانت تختص بمصطلحات «ميدان التحرير»، والتي انجرفت إلى الماضي: «ديموقراطية»، «استفتاء»، «انتخابات». والبعض الآخر كانت مواضيع تتعلق بحصص رفعت. كنت أعبر النهر بينما أستمع إلى صوته وهو يقول:

لن أسامحك على ما فعلت. سأشرح لك كل شيء غداً. لا تضيع وقتي رجاء.
هل سنقضي الليل كله نتحدث عن هذا الفيلم السخيف؟

مررت بـ «كلمات» عدة مرات لأزور رأفت، أخو رفعت. سماهما والدهما تيمناً بلاعبي كرة قدم كان يحبهما، كانا يلعبان لفريقين مختلفين، لهذا لم يكن هنالك أي ارتباك، حتى دخل الاسمان إلى نفس العائلة. أسسا «كلمات» سوياً. وحطمت رأفت وفاة أخيه، كان يعاني من سنة سيئة، انهار زواجه قبل عدة شهور، وبقي طريح الفراش لمدة أسابيع بسبب انزلاق غضروفي، وانتقل إلى المدرسة ليعيش هناك في النهاية، حيث لم يعد أي تلاميذ تقريباً. قال لي رأفت: «أنا اتحسدت».

لم يعرف رأفت سبب الوفاة. في خريف عام 2015، شخّص الأطباء قرحة قدم رفعت بتشخصيات متناقضة، البعض رأى أنها قرحة، البعض اعتبرها سرطاناً، أحد الأطباء وضع كريماً على القدم المصابة، وطلب منه أن ينتظر.

سافر رفعت إلى لندن، حيث قام الطبيب هناك بعمل اختبارات الدرن، وتنظيف الالتهاب، وقال إنها ستحسسن، لكن الأمور تدهورت. رفض بعض الأطباء في مصر التعامل مع الحالة، خوفاً من أن يُعتبروا مسئولين عن أي مضاعفات تحدث. رفض رفعت دخول المستشفى، وعندما أجبره أقرباؤه أخيراً، كان يعاني بالفعل من صعوبة في التنفس، وتوفي في اليوم التالي. سبب الوفاة الرسمي كان الدرن. بالرغم من شك عائلته في دقة هذا.

كان رفعت قد التقط صورة لالتهاب قدمه قرب النهاية. في الصورة، يظهر أن مشط القدم بالكامل قد تآكل، بالإضافة إلى فجوة بحجم كرة التنس، محاطة بأنسجة ميتة بألوان سوداء وبنية وخضراء. عندما طلبت المشورة من بعض أصدقائي الأطباء الأميركان، كان تعليقهم أنه حتى بعد أن يتغلب الجسم على الليمفوما، فإن الجهاز المناعي يكون قد ضعف بدرجة كبيرة. وأفضل تخمين ممكن لهذه الحالة، هو أن رفعت عانى من عدوى ما، تسببت في صدمة إنتانية في النهاية. لكنهم لم يجزموا بهذا التفسير. أجمعوا أنهم لم يروا حالة شبيهة. أصابني هذا بالغثيان، شخص متعلّم مليء بالحياة، يموت بهذا الشكل وهو لم يتجاوز عامه السابع والخمسين.

في أحد الأيام، ذهبت لزيارة البيت الذي تعيش فيه عائلة رفعت، في بناية بشرق القاهرة. قابلت شقيقته وردية، وأخ آخر اسمه طارق، تحدثنا عن رفعت، وكم كان مختلفاً.

قال طارق: «كان يرى أنه من العادي أن تخرج المرأة، وأن تسافر، لكننا لم نكن كذلك».

علّقت وردية: «لم نحب طريقته، لكنه كان على صواب. نكتشف الآن أنه ما كان يقوله صحيح».

بسبب تشجيع رفعت أصبح ابنها أستاذاً للغة العربية.

وردية هي الأقرب شبهاً بأخيها، من بين جميع الأشقاء. لها ذات العين الحادة، وهيكل الوجه، حتى عندما تحيط هذه الملامح بحجاب أسود. كنا في رمضان. وكانت العائلة صائمة، لكنهم بداع من الأدب، قدموا لي الشاي، والذي رفضته لنفس السبب. تقول وردية: «كان لرفعت أراؤه الخاصة، وكان لي آرائي، آراؤه حديثة، وآرائي قديمة».

بين وقت وآخر، وعندما تذكر اسم رفعت، كانت تردد اسم الله بالتزامن، وكنت أتمتم بنفس الرد الذي كان رفعت قد علمني إياه. الله يرحمه. الله يرحمه. الله يرحمه.


الهوامش* العلوم الصلبة: مصطلح يصف العلوم العملية، لأن مصطلحاتها صلبة وتعبّر عن حقائق واضحة، في مقابل العلوم المرنة، مثل العلوم الاجتماعية، والتي تتميّز بمرونة مصطلحاتها ونظرياتها.