دون مقدّمات أعلن برلمان البيرو الأربعاء 7 ديسمبر/ كانون الأول 2022 عزل رئيس البلاد وتعيين نائبته مكانه. في نفس اللحظة أدّت دينا بولوراتي اليمين الدستورية كرئيس مؤقت للبلاد بدلًا من «بيدرو كاستيو» المعزول. دينا، المحامية البالغة من العمر 60 عامًا، سرعان ما عرّفت نفسها بأنها دخلت التاريخ باعتبارها أول امرأة تتولى منصب الرئيس في البلاد. لكن وسط كل هذا التطورات والأحداث التي صدمت المواطنين يتقافز سؤال بديهي، لماذا وكيف؟

التصويت على عزل كاستيو لم يكن الأول، بل هو التصويت الثالث لعزل الرجل. رغم أنه في السلطة منذ 18 شهرًا فحسب. لكن يبدو أن النخبة السياسية في البيرو لم تستوعب وصول ذلك المعلم الريفي لرئاسة البلاد بصورة غير متوقعة، وسرعان ما حاولت تدارك نفسها بانتزاع السلطة منه. فقد ظهر الرجل على الساحة السياسية بشكل مفاجئ، وصدم الجميع بحصوله على 50.12% من الأصوات في الجولة الثانية من الانتخابات. ضد كيكو فوجيموري، ابنة الرئيس الأسبق، ألبرتو فوجيموري، المدان بالفساد.

لم يكن الرجل مشهورًا بشكل كبير. وُلد في قرية صغيرة، ولد وسط تسع أخوات، لوالديّن أميّين. وعمل فيها مُدرسًا لمدة 24 عامًا. ترشح لمنصب عمدة قريته عام 2002، لكن مر الأمر دون أن ينجح أو حتى يراه أحد كمنافس. أول دخوله للمعترك السياسي كان عام 2017 حين قاد إضرابًا، اتسعت رقعته فأصبح إضرابًا وطنيًا، وأُجبرت الحكومة على دفع زيادة في المرتبات كي ينتهي الإضراب.

 منذ تلك اللحظة وكاستيو رأى شرارة الرئاسة، فصوّر نفسه دائمًا خادمًا متواضعًا للشعب، واختار أن يقضي معظم حملته الانتخابية الأخيرة متجولًا على ظهر الخيل. حملته أصوات الناخبين الريفيين الذين نشأ معهم إلى كرسي الحكم. خصوصًا أن رسالته الثابتة في كل خطاباته تقريبًا أن شعب البيرو لن يبقى فقيرًا بينما بلادهم غنية. لكن ظلت خطاباته وحلوله لمشاكل بلاده تظهر ضعف خبرته السياسية وافتقاره لعديد من الأدوات التي تؤهله للحكم أو لتنفيذ أفكاره الخاصة.

ما العجز الأخلاقي؟

على الجهة المقابلة كان كاستيو، البالغ 53 عامًا، نفسه قد أصدر قرارًا بحل البرلمان الذي تهيمن عليه المعارضة. كما أصدر قرارًا بفرض حظر تجوال، وأشار إلى أنه سيُسيّر الحكم في البلاد بمراسيم تشريعية يصدرها هو. بالطبع توالت المواقف المعارضة لهذه القرارات، لذلك قرر أعضاء البرلمان الاجتماع سريعًا، وفي وقت أبكر مما كان متفقًا عليه لمناقشة عزله للمرة الثالثة، وصوّتوا في هذا الاجتماع لعزله بغالبية 101 صوت من أصل 130 نائبًا.

البند الرسمي الذي اعتمد عليه البرلمان في مناقشة قرار العزل هو بند العجز الأخلاقي. فقال البرلمان إن الرئيس عاجز أخلاقيًا عن إدارة البلاد. يشيرون بذلك إلى سلسلة من الأزمات عصفت بفترة حكمه القصيرة، ففُتحت معه 6 تحقيقات، وأجرى 5 تعديلات وزارية، بجانب حدوث احتجاجات واسعة في أنحاء متفرقة من البلاد.

تتميز البيرو بأنها طبقًا لدستورها يمكن عزل الرئيس إذا قام بارتكاب مخالفات سياسية، عادية في الدول الأخرى، وليس شرطًا أن يقوم بخرق القانون أو ارتكاب جريمة فعليّة. تلك السلاسة في الإجراءات، والاتساع في تفسير العجز السياسي والمخالفات السياسية، جعلت عزل الرؤساء في البيرو أمرًا معتادًا ومتكررًا فيها.

فكاستيو هو ثالث رئيس يُعزل منذ عام 2018 فقط، وبموجب نفس بند العجز الأخلاقي. وفي نفس لحظات التصويت يُؤدي النائب اليمين الدستورية مثلما فعلت دينا، لتُكمل هي ولاية الرجل حتى يوليو/ تموز 2026. العزل المتكرر خلق حالة من الاضطراب السياسي في البلاد وجعل عديدًا من مشاكل البيرو مزمنة، وعلى رأسها مشكلة انعدام الاستقرار.

فقد تولى رئاسة البيرو 3 رؤوساء مختلفين في 5 أيام فقط عام 2020. وبعزل كاستيو وتولية دينا تصبح هي الرئيس رقم 6 الذي يحكم البلاد منذ عام 2016، بمعدّل رئيس كل عام. لفهم ذلك يكفي معرفة أن التصويتين السابقين لعزل كاستيو كان أحدهما بسبب تصريحه بأنه سيجري استفتاء شعبيًا على منح بوليفيا التي لا تُطل على المياه منفذًا إلى المحيط الهادئ. فلم يكن الأمر فرمانًا أو إعلانًا دستوريًا، بل إعادة الأمور للشعب كي يقرر، لكن رغم ذلك جرى التصويت على عزله بتهمة العجز الأخلاقي.

أمريكا قررت أولًا

كاستيو تلقى الأمر بهدوء. بعد عزله غادر القصر الرئاسي مع حرسه الشخصي، وتوجه إلى مقر شرطة ليما. مكث في المقر وأظهرته المقاطع المصورة التي أذاعها المدعي العام جالسًا في المكتب محاطًا بعديد من عناصر الشرطة ومُدعيّن عامين. ويقود كل هذا الفريق ماريتا باريتو كمنسقة للفريق، التي صرّحت بأن كاستيو موقوف بتهم تتعلق بالفساد.

أنصار كاستيو لم يكونوا بنفس هدوئه، فانتقدوا بشدة الإطاحة بقائدهم. وصرح عديد من العسكريين المتقاعدين والنشطيين، بأنهم يرفضون اختطاف الرئيس بتدبير وخيانة من الكونجرس، على حد وصفهم. لكن على الجهة الأخرى يقول معارضوه، والمؤسسات الرسمية مثل المدعي العام، إن عديدًا من الدعوات توالت ضد الرجل منذ لحظة توليه الرئاسة.

منها اتهامات بالكسب غير المشروع، وكذلك عرقلة العدالة، إضافة لاتهام يرجع إلى فترة انشغاله بالتعليم والأكاديميا، وهو سرقة أطروحته الجامعية. كما قدم المدعي العام شكوى دستورية في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2022 يتهمه فيها بقيادة منظمة إجرامية تضم عددًا من أفراد أسرته وحلفائه. بجانب عديد من التحقيقات الأخرى والاتهامات. وهذه هي المرة الثاتية التي جرى فيها التصويت على عزله.

كاستيو أعلن قبل عزله بساعات أن الوضع أصبح لا يُطاق، وأن الكونجرس متآمر ضده، لهذا فهو يرى ضرورة حله وتكليف آخرين بصياغة دستور في غضون تسعة أشهر. لكن الرد الحاسم على هذا التصريح أتى من الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يأتي من داخل البيرو، فقد قالت إنها تطالب كاستيو بالتراجع الفوري عن قراره. لكنها عادت في تصريح مُكمّل لتضيف أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر الرجل رئيسًا للبلاد.

ثم بعد بدأ إجراءات التصويت على عزله خرج المتحدث باسم الخارجية الأمريكية قائلًا إن الولايات المتحدة قصدت أنه طبقًا لما يقوم به الكونجرس في البلاد فإن كاستيو لم يعد ممكنًا وصفه بالرئيس، بل بالرئيس السابق. مضيفًا أن المشرعين اتخذوا إجراءات تصحيحية تتماشى مع قواعد الديمقراطية.

لا نهاية في الأفق

 يتجاهل المتحدث الرسمي حقيقة أن البرلمان تسيطر عليه أغلبية يمينية، وأن كاستيو يساري، فاحتمال المؤامرة والتربص يظل قائمًا حتى تثبت الاتهامات بالأدلة القاطعة. لكن تبقى حقيقة أخرى أن الرجل فاز برئاسة البلاد بفارق 14 ألف صوت فقط. فرئاسته منذ اللحظة الأولى كانت تبدو قصيرة الأمد. فمستوى الدعم الذي حظي به من أنصاره أنفسهم كان قليلًا جدًا. كما أن تغيير مجلس الوزراء باستمرار كان كفيلًا بإفقاد مؤيديه، قبل معارضيه، الثقة في طريقة إدارته للبلاد.

كما أن نائبته التي أدّت اليمين الدستورية وفي نفس اللحظة قالت إن الفساد الحكومي هو من أسقط كاستيو، كانت قد طُردت من حزب بيرو الماركسي، الذي أوصل كاستيو للسلطة، فقد كانت مناهضة للرجل ونائبة له في نفس الوقت. ما يعني أيضًا أنها تتولى الحكم دون حزب يدعمها، وبتفويض شعبي ضعيف، فعليها أن تبدأ في التواصل مع النقيضين وتجمعهما على طاولة واحدة لتوحيد الجميع.

الأمر الذي يبدو صعب المنال في ظل الانقسامات المزمنة التي تضرب البلاد. وينذر تاريخ البيرو بأن طريقة الحكم التي يرتضيها الجميع لم تكن سلمية دائمًا. فقد أصبح ألبرتو فوجيموري بطلًا قوميًا حين حاصر البرلمان بالدبابات عام 1992. ووصل آلان جارسيا لحكم البيرو، وبات بطلها، حين سحقت قواته أعمال الشغب في السجون عام 1986، وقتل 300 سجين وقتها. حتى اليسار فقد قام بانقلاب عسكري حاصر به وسائل الإعلام عام 1974، وفاز بدعم غير مسبوق من المثقفين واليساريين.

وسياسة الانقلابات في دول أمريكا اللاتينية من السياسات المحببة للولايات المتحدة الأمريكية، لذا فعلى ساسة البيرو الانتباه قبل أن يقعوا في فخّ دبلوماسية الانقلابات الأمريكية التي قد تودي بالبلاد إلى مصير قاتم يُضر اليمين واليسار، ويسحق الشعب أكثر وأكثر.