القسم الثاني: «القلب الفارغ»

(8)

حمل كرتونة الكتب ونزل إلى شقة أبيه. حبات النفتالين صغيرة داكنة اللون، ترقد على سطح الكتب، والغبار يغطي حواف الكرتونة. مجلدات «لينين» بأغلفتها البنية، وكتب «كارل ماركس» ما زال عليها جيوب الأغلفة الخضراء، وصورته تطل من تحت الغبار بعيون مرهقة ولحية كثيفة لشخص مُتعب. رَغب مصطفى في أن يقرأ الفقرة الأولى من كتاب «الدولة والثورة»، التي يتحدث فيها لينين عن المفكرين الثوريين، الذين تضطهدهم البرجوازية في حياتهم، وبعد موتهم تُقيِم لهم التماثيل، وفى الوقت نفسه تشوه أفكارهم وتنزع عنها روحها الثورية.

ظلت صورة ماركس حية في ذهنه، وهو يفكر في أمور تخص تلك الفترة البعيدة، وكلما استدار أو سكن، تطل عليه تلك العيون ذات النظرة الفاحصة، وتعجب من إصرار الروس على تصدير كتبهم بصور للمؤلفين [تذكر صورة فيودور دوستويفسكي] تكشف العذاب الصامت الذي عاناه هؤلاء البشر.

فكّر في الأثر السيئ لهذه الصور، فمحتويات الكتب تتسلل إلى ذهن الإنسان تحت تأثيرها، ويظل هؤلاء المفكرين موجودين على الأغلفة كأنهم حرّاس عالم من الشقاء. تذكّر أنه لم يستطع إكمال أي من تلك الكتب بسبب الجدية القاتمة والصليب الخفي الذي يحمله المؤلفون، لذلك قرأ كتاب «الدولة والثورة» في طبعة محلية من دون صور، بغلاف أحمر من أغلفة الكتب الشعبية.

صورة ماركس أخذت اليوم نوعًا آخر من الوجود، كانت مختلفة عن تلك الصور القديمة التي تُخبِرك بأن الأمر أكثر جدية وعمقًا مما تتحمّله روحك الهشة. عرف الآن لماذا لم يعتبر نفسه أبدًا أحد أفراد هذه المنظمات، كان غير قادر على مساواة نفسه بتلك الجدية والمصير الإنساني الشاق المحمول على أكتاف هؤلاء الرجال. كانت المهمة فوق طاقته.

اكتسبت صورة ماركس اليوم معنى إنسانيًا رقيقًا، بعدما شهدت ما صارت إليه أحداث التاريخ. فلماذا أخذت هذه الصبغة الرقيقة وتخلصت من روحها الصلبة وعذابها، هل خضعت هي الأخرى للزمن؟

فكّر ساخرًا، إن إهمال شخص لمدة خمسة عشر عامًا تحت سرير لا بد أن يُعلِّمه الحكمة، ونحن في الغالب نتعرّف على ما فهمناه في الماضي لكننا لم نره وقتها بوضوح. وراح يفكر أن صورة «ماركس» كانت على الدوام بهذا الشكل. فلو تأملها- في ذلك الوقت- بعمق وإخلاص، لربما رأى المستقبل.

أخرج كل الكتب وتفحّصها؛ قرأ فقرة من هنا وفقرة من هناك؛ وأخذ يستعيد في ذهنه تلك الأيام البعيدة التي كان يتصرّف فيها بحكم العناد فقط؛ تقوده رغبته في الخروج عن سيطرة أبيه، أو ربما رغبة في لفت نظر الرجل الذي لم يتحدث معه أبدًا، وكان دائم الانتقاد له، وقال له ذات مرة عندما اختبأ وحده في شقة الدور الأرضي وراح يُضيء شموعًا ليوحي لهم بأن عفاريت تسكن البيت:

لماذا أنت غريب على هذا النحو؟

قبل أن يُغلِق الكرتونة، لمح كتابًا قديمًا بغلاف ورقي متآكل. عادت إليه أمسية بعيدة كان فيها في القاهرة والتقط ذلك الكتاب من سور بيع الكتب القديمة، كان غلافه الأصفر مهترئ الحواف هو ما أوحى إليه بأنه التقط كنزًا، وتأكّد من حدسه عندما قرأ العنوان «مذكرات آكل أفيون»، وذلك في ضوء المساء المتلاشي، وصخب الميدان يأتي إليه خافتًا.

قرأ مصطفى الكتاب مرات كثيرة في تلك الأيام، وتعرّف بعده على أشعار «بودلير»، وتذكر بشكل خاطف أن الكتاب كان يحوي فقرات مكتوبة بالحبر على هوامشه، أشعار قصيرة لذلك الرجل الذي امتلكه قبل أن يصل إلى سور بيع الكتب القديمة.

منعه ضوء المساء الشحيح من مواصلة القراءة، ولاحظ أنه لم يسمع صوتًا يصدر عن شقة عمته. قام وأشعل ضوء الغرفة وترك الكتاب موضوعًا أمامه على المنضدة الصغيرة في الصالة، لا يستطيع التخلص من إحساس مؤكد أن ذلك الكتاب كان يقود خطواته، وأن الرغبة المريرة في أن يغادر الإنسان نفسه كما يغادر بيتًا قديمًا تعب من الإقامة به، كانت آتية من تلك الأوراق.

هربًا من تلك الصور، صعد إلى شقة عمته في المساء، ورأى محمد ومعه طبيب كان قد انتهى من فحص العمة، التي ظلت ترفض رؤية محمد.

قال وهو يغادر البيت:

– مرّ عليّ.

قال مصطفى:

– سأتصل بك.

– الأولاد يريدون أن يروا عمهم، يعرفون أن لهم عمًا على الورق [وابتسم].

سهر مصطفى بجوار عمته. قالت نفيسة قبل أن تعد العشاء:

– اذهب الليلة لتسترح.

– لا رغبة لي في النوم.

قالت بصوت هامس:

– بطّلت الشرب؟

– لا أعرف. ربما.

– أنت تتصرف وكأنك لن تموت، لن تُحاسَب، ألم تُفكِّر أبدًا في يوم الحساب.

قال:

– أشعر أنني في يوم الحساب.

ابتسمت، فقال:

– والله أتكلم بجد، أشعر بأنني أحُاسب على ذنب لا أعرفه، وأنني في الحياة الآخرة.

اعتبرت نفيسة ما قاله مجرد مزاح، لكنه عندما نزل إلى شقة أبيه وحاول النوم، تأكد من أنه لم يفكر أبدًا بأن هناك يومًا آخر، وأن ما يعيشه هو آخر يوم. لم يكن لهذه المشاعر أي علاقة بالإيمان. كانت إحساسًا غامضًا بأنه يُحاسب من قبل قوة لا يستطيع فهمها، وبسبب إرهاقه وخوفه، وجد نفسه يسقط في نوم لزج.

كان ينتظره على بابه شخص له ملامح أجنبية، مُمزَّق الملابس كشحّاذ في قصة لتشارلز ديكنز، يقوده في حواري لندن؛ البيوت حجرية مُغطاة بهباب المناجم، وخنقة شيء يُشبه الصور البائسة لأحياء العمال في القرن الـ19، كان الرجل يتحدث معه عن المتحف البريطاني، حيث كفّوا عن اقتناء الكتب، وأصبحوا يبيعون الأفيون، وعندما اقتربوا من مبنى المتحف القديم الضخم، سمع صوت أبيه من فوق المنبر يختم الخطبة قائلًا:

إن الجحيم هو المأوى.

استيقظ في وقت متأخر من اليوم التالي مُرهقًا. كانت كرتونة الكتب ما زالت على الأرض في الصالة. حملها، وتركها فوق دولاب المطبخ القديم.

في شقة عمته عرف أن نفيسة لن تذهب إلى العمل، وأنها أنهت إجراءات أجازتها، ومن يوم السبت ستبقى في البيت. أخبرها بأنه سيزور محمد، لكنه ظلّ يتمشّى في شوارع غارقة في الضوء الفضي ليوم من أيام الشتاء، وقضى بعض الوقت، في مقهى قديم على البحر يُتابع الموج يرتفع، والدنيا توشك على المطر، لكنها لا تمطر، وفي الثانية ظهرًا، كان يطرق باب شقة أخيه.

دخل بيتًا مؤثثًا بنوع جيد من الأثاث، وحملته البراويز والصور المُعلقة على الجدران إلى التفكير بأن هذا النوع من البيوت يشكل طموحًا لطائفة من شباب هذه الأيام، فكّر في منار وفي حقها في احتقار تلك الحياة الفارغة. لم ترق له صفة «الفارغة» التي أطلقها على الحياة، إذا كانت «فارغة» فلمَ الضغينة والنزاع إلى حد الموت، لمَ تتقطع العلاقات وينطفئ البشر؟

كان يفكر على هذا النحو، وهو ينظر إلى صورة أبيه المُعلّقة في برواز داكن اللون يتناسب مع قدم الصورة، وأدرك أن صورة أبيه في بروازها القديم، هي الشيء الوحيد الذي يتنافر مع هذا الجو.

لم يأخذه لهوه مع أولاد أخيه، الذين أحاطوه بصخبهم، يحملون رسومه القديمة، عن التفكير في انطباعاته. وطول الوقت الذي قضاه يرسم لهم صورًا ضاحكة لأسماك تطير بأجنحة، وفُرش أسنان لها أنياب كأنياب الحيوانات، كان يفكر أن بهجته هشة وخالية من البهجة.

خُيِّل إليه أن تلك القناعة بدأت في أيام مرض أبيه. كان راغبًا بشدة أن يرى الرجل الراقد في غرفته، يفصل بينهما باب مغلق، وقد حوّله سرطان العظام إلى هيكل، لا يعرف شكله إلا من حكايات عمته وبكائها المتواصل. ذات ليلة انتظر حتى نام البيت، تجرّأ وفتح باب الغرفة، وتردد ذلك الصوت الخشن للمفصلات الصدئة. سمع صوتًا واهنًا في الظلام يقول: «منْ؟»، ويُنصِّت، ثم أنَّ أنينًا خافتًا وكرّر: «منْ؟» بصوت أكثر خفوتًا، وأعقبها صمت كالظلام.

رغم الضوء الواهن الآتي من النافذة المشرعة في تلك الليلة الشتوية، فإنه لم يتبيّن غير شبح نحيل، ممدد على الفراش.

طول الغداء لم تفارقه صورة أبيه بجسده الضخم، وعمامته الأزهرية ووجهه الصارم. الصورة في مواجهته. استدار محمد وألقى نظرة سريعة على الصورة، وقال:

– لو كان موجودًا لحُلَّت كل المشاكل.

في حجرة مغلقة، بها مكتبة كبيرة، ومكتب أنيق بالقرب من النافذة، وبرواز كبير لآية قرآنية، عرف مصطفى أن أخاه مُرهق بليال طويلة من الحسابات والحلم بالمشاريع التي تنتشر على ساحل المدينة الغربي. البيت القديم هو الكنز الذي سيُموِّل كل تلك الأحلام، أراد أن يُنهى كل شيء بسرعة، فقال:

– لا أعرف ما الذي تريده مني، أنت وعمتي.

شرح محمد أمورًا كثيرة تخص الأسواق، والفرص التي لن تتكرر، وظروف العمة نفسها التي يمكن أن تتحسّن، إنها تحتاج إلى مصاريف علاج ضخمة، والمعاش لا يكفي شيئًا والأرض في البلد إيجارها ملاليم، ونفيسة أيضًا تحتاج نفقات لتغطي أبحاثها.

قال مصطفى:

– ماذا ستفعل؟

رد محمد:

– إنها تضيع حياتنا بكاملها.

ثم أخبره، إن نفيسة فوضته أن يفعل أي شيء من أجل إقناع أمها ببيع البيت. هي لا تريد أن تظهر في الصورة.

قال مصطفى في النهاية:

– أنت تعرف أن «دماغها ناشفة»، ولن توافق على ذلك. لماذا تقيم عداوة بينك وبينها؟ انتظر قليلًا.

قال محمد بعصبية:

– الموضوع لا يحتمل التأجيل. البلد غير مستقرة والقوانين تتغير بشكل دائم، القانون الذي يهبك الآن ثروة بحكم الصدفة، من الممكن أن يأخذها منك في اليوم التالي. وأمامي مشروعات مهمة وتحتاج تمويلًا.

فرد مصطفى:

– أعرف أنها لن توافق، ماذا نفعل؟ نقتلها؟

عندما ترك بيت أخيه، شعر بالمدينة تضيق عليه. ركب سيارة أجرة إلى وسط المدينة، أصبح وحيدًا مرة أخرى، تذكر محمد وهو يقول:

لا أعرف ماذا تنتظر، الأمر يخصك مثلما يخصني، أم أنك لا تريد نصيبك؟

راح يُنصِت إلى صوت المطر فوق سطح السيارة، والرخات الكثيفة على الزجاج، لم تكن المسّاحات بقادرة على إزاحتها. عندما مرت السيارة بجوار محطة ترام، رأى سيدة تجري وتقف تحت مظلة المحطة، وفي مداخل البيوت، كانت هناك مجموعات من البشر تحدق في المطر. الشوارع خالية، والأسفلت يلمع، وفي سوق جانبي رأى الرجال يشدون المشمع فوق عربات الفاكهة والبرتقال يشع بلونه الزاهي.

عاد إلى البيت في وقت متأخر، وجد نفيسة ساهرة بجوار سرير عمته وفي يدها كتاب، أخبرها بأنه سيسافر غدًا.