القسم الثاني: «القلب الفارغ»

(2)

بعد ذلك بعشرين عامًا، فَهِم أن حالة التوهج تمس الإنسان ولا تتركه، عندما أراد «ناصر» إصدار مجلة غير دورية، في مواجهة دوريات المؤسسات الحكومية. كان يرى في ذلك الإصرار رغبة في العودة إلى حالة التوهج التي جرّبها «ناصر» في الجامعة، وأصبح غير قادر على الخلاص منها، كان من وجهة نظره محبوسًا في سجن تلك السنوات البعيدة.

لم يستطع أن يبوح له بذلك، وعندما لاحظت «منار» أنه لا يشارك في المجلة سألته عن السبب، فقال:

إنني لا أصلح لهذه الأعمال، كنت طول عمري هكذا، دخلت السجن خطأ.

ذات يوم، أخبر «منار» بما لا يقدر على مواجهة ناصر به، فقالت له غاضبة:

لماذا تُجرِّد كل شيء من محتواه وتنظر إلى المظهر فقط؟ ولماذا ترد المظهر أيضًا إلى حالة من الاستعارة، ولا ترى المضمون الذي يكمن فيه؟ لماذا ترى الأسباب التي يطرحها مجرد غطاء لأسباب أكثر خفاء؟ لماذا لا ترى دوافعه كحقيقة؟ وتنظر إلى حركته على أنها «غطاء»… مجرد صدى لأيام الجامعة؟ لماذا تصر على أن كل شيء لا يمثل نفسه، وترى الزيف كأنه الجوهر؟

أصابت «منار» الهدف، وبدأ، يومها، يفكر في أن الخطأ يكمن في عقله الذي يرى كل شيء مظهرًا لأمر آخر، ألفاظًا لا تعني مدلولها الحرفي، بل أمورًا أخرى نعجز عن الاعتراف بها، أن نكشفها لأنفسنا، لكنها تأخذ مجراها وتُجبِرنا على وجودها بعد أن تأخذ رداء نوافق عليه.

أليست هذه هي آلية الحلم؟

قالت «منار»:

لماذا تُصوِّرنا على أننا نعيش الحياة بآلية الأحلام؟ نعيش لا وعينا مُخبَّأ في أردية من الحياة المعقولة، أليس هذا ما تقصده؟ ألا تقول إن «ناصر» يعيد، بطريقة شبحية، إنتاج تلك المتعة الطفولية القديمة في تغيير العالم التي جرّبها أيام الجامعة، وأنه لا يعني الأهداف الواقعية التي تقصدها دورية ثقافية، بل يعني استعادة أيام التوهج التي عاشها؟ ألسنا بهذا الشكل نعيش الحياة كمظهر؟ ألا ترى أن هذا هو كابوسك الخاص وقد ترك ظله على العالم الذي تعيش فيه؟

استغرق «مصطفى» طويلًا في التفكير في حديث «منار»، وبدا له أمرًا شديد الغرابة أنها وصلت إلى الفكرة التي كانت تتحرك في أعماق عقله، غير قادر على الإمساك بها. لكنه رأى أثناء ذلك كم هو صعب أن يعيش المرء وهو يرى العالم غارقًا في الكابوس، ولا يستطيع أن يعرف هل هو كابوسه الخاص أم أن العالم فعلًا كابوس.

كان التفريق بين الموقفين شديد الصعوبة. البداهة الأولى، التي كان من الصعب قهرها -على الأقل في الوقت الذي غرق فيه في شرب الخمر- أنه يعيش كابوسه. لكن الشك أحاط بتلك المُسلّمة من كل الجهات، وكشفت له أفكاره عن أن واقعية الكوابيس، ظاهرة في الأغطية الفكرية التي يسحبها الناس على علاقاتهم. كان الفارق رهيفًا، شغله واستثار حاسة اللعب الذهني، وأدرك أن الفارق بين الحالتين يكمن في أن الشخص الذي يعيش كابوسه الخاص سيرى نفس الصور لم تُغيِّر عينيه وطريقة نظرته، أمّا إذا كان الفضاء الذي يعيش فيه المرء كابوسًا، فإن تغيير العين والنظر لن يُحرِّره.

ويبدو أن «مصطفى» بحكم نزعته الذاتية ورغبته المضمرة في اتهام نفسه، سلّم برأي «منار» بأنه يرى كابوسه الخاص، وبدى له أن كثيرًا من أحداث حياته من الممكن تأويلها على أنها محاولة للفرار من الأسر، واتخذ من هذه المحاولات دليلًا على أنه يعيش كابوسًا، فالشخص الواقع في أسر كابوس يحاول الخلاص منه باليقظة، وربما جاءت فكرة القتل كأداة لنفي الكابوس، وربما أراد أن يتخلص من نفسه باعتباره الأرض التي نبت فيها الكابوس، ضاربًا عرض الحائط بكل الحجج التي كانت تتحرك في ذهنه، كأدلة على أنه يعيش في عالم كابوسي.

لم يلتفت إلى تلك الشواهد التي تراكمت في ذهنه عن أن الحياة مجرد «مظهر». فعلاقات الحب مظهر للرغبة الجنسية، وعلاقات الدم والصداقة مسميات أخلاقية لمصالح اجتماعية واقتصادية، والزواج سوق لبيع النساء، والفن الذي يحاول أن يقيم الأدلة على أن الظلمة التي نعيشها هي وضع وجودي لا يمكن الخلاص منه يساهم في ترسيخ الكابوس، والفن المضاد الذي يدّعي كشف الزيف وتعرية الأوضاع الظالمة للبشر ينطلق من مسلمة أن البشر غارقون في الكابوس ويحاول إيقاظهم (تنويرهم). والثورة نفسها أليست محاولة لليقظة؟ ألا يُطلقون كلمة «أيديولوجية» على عملية إعادة إنتاج الحياة المادية في الذهن بشكل مخالف لحقيقتها، وهو الأمر نفسه الذي يطلق عليه -هو- الكابوس؟ أليست هذه التسمية -الأيديولوجية-هي غطاء للكابوس؟

ورغم تراكم تلك الحجج، فإنه لم يُصدِّق غير أنه يعيش كابوسه الخاص. واتخذ من الغضب، الذي رافق تفكيره، دليلًا على حماقة أفكاره. واعتبرها آتية من المنبع الفكري التي أتت منه أفكاره الصبيانية القديمة عن الزمن، لها نفس الإحساس المشين، كأنها لعب أطفال، وفسّر كل ذلك على أنه محاولة للهروب من كابوسه الخاص.