القسم الثاني: «القلب الفارغ»

(6)

سمع صوتًا خافتًا في التليفون، يطلب شيئًا كالدواء، بدا له صوت امرأة في الأربعين، مريضة، وما إن وضع السماعة بعد أن أخبرها بخطأ الرقم، واستدار ليعود إلى النوم، حتى أدرك أن الصوت يشبه صوت «منار». مرقت في ذهنه فكرة الانتحار، ورأى ظلًا من الجنون في نظرة عينيها وهي تقول: «لا تقطع الجوابات». أدار رقمها لكن أحدًا لم يرد.

قضى أمسيته يبحث عنها في أماكن تواجدها في وسط البلد. عاد إلى بيته غاضبًا، وعكف على ترجمة الجزء الباقي من تقارير العمل. بعد نصف ساعة، بدأ الصداع يحزم رأسه، لكنه لم يكف عن التفكير في «منار»، في رغبتها في تحويل الكوابيس إلى حياة اعتيادية، إنها عبقريتها التي لا يعرفها غيره. كما أن تعلقها بالسواد عميق كأنه ضوء، وتمتلك تلك الفضيلة النادرة؛ فضيلة إهدار الذات.

قال في نفسه وهو يلم الأوراق ويعيدها إلى حقيبته: تحاول بكل الطرق التأثير عليّ… إنها لا تفهم.

أخذ حمامًا باردًا علّه يتخلص من رغبته في شرب الخمر، لكن الرغبة ظلّت مُتشبثة بخياله. راح يفكر في المحاولات التي بذلتها «منار» لدفعه إلى الحديث أو الحب. تذكّر نبرة صوتها الجادة التي تكشف له الآن مدى ضلالها، ومدى ما تفعله الأفكار النسوية في بعض الأرواح الأصيلة، إذ تُشكِّل جدارًا زجاجيًا من المفاهيم يرين العالم من ورائه، ويقضين وقتًا طويلًا أسيرات الأفكار التي يحاولن التخلص منها. قالت منار بجدية:

كأنك تريد أن تجعلني سيدة بيت… يبدو أنك لا زلت تحن إلى رائحة البصل التي تفوح من ثياب النساء.

حاول النوم دون جدوى، فنداء الخمر يوالي الضغط عليه، ويهم بدفعه طوال الوقت إلى الشارع. كان حزينًا من أجل الألعاب التي تحاول «منار» استدراجه بها. وفي الصباح كان الصداع يكاد يحطمه، فقال في نفسه وهو يرتدي ملابسه: عليّ أن أتحمل قليلًا.

بعد عدة ليالٍ أنجز التقارير المتأخرة، وتملكّته نوبة حنين مفاجئة للسفر. كان يرغب أن يرى عمته، لكنه كلما تذكر المعركة الضارية التي يخوضها أخوه من أجل بيع البيت، تفقد مدينته بريقها، ويشعر بأنه محاصر.

في المقهى رأى ناصر وأصدقاءه. كانت منار تجلس بجوار النافذة الزجاجية ترتدي بلوفر ثقيلاً أزرق، وتُدخِّن. كان الجو باردًا في تلك الليلة، وعيون منار واسعة واضحة النظرة، لم تنظر إليه عندما جلس، فسألها من فوره:

– طلبتِني عدة مرات وحددتِ لي ميعادًا.

ابتسمت شاردة وقالت:

– فعلًا؟

طلب فنجانًا من القهوة وشعر بأنها تخوض معارك لا معنى لها، قال في نفسه: «لو تفهم، فقط تفهم، ولا تخضع لتك الأفكار التي تكوِّنها عني وعن نفسها». لكن السؤال الساخر كان ينتظره أيضًا في ذهنه: «وهل ترى أنت الحقيقة؟ هل تظن أنك تعرف أكثر منها؟».

قالت منار:

– سافرت فجأة إلى قرية بالقرب من المنصورة، لي أصدقاء قدامى هناك، ولم أستطع العودة، إلا بعد عدة أيام.

كانت تبدو حزينة، ذلك الحزن الشفاف الذي يعقب ممارسة الحب، عندما تفرغ كل شوقها الجسدي ويصبح الجسد فارغًا وخالصًا من نفسه، هناك صفاء من نوع غريب كان يراه على وجه منار في مرات حبهما القليلة، تتحول إلى إنسانة شفّافة رقيقة وتفقد كل هوسها وعنفها. بدت له في المقهى، في حالة من الإشباع الجنسي مما دفعه ليبتكر قصة خيالية عن علاقات غامضة في أماكن بعيدة تحن لها، فتذهب إلى هناك تطفئ شهوتها وتعود. أماكن بعيدة، تمتلئ بأصوات جديدة ومناخ مختلف لممارسة الجنس.

نظرت في عينيه، وقالت:

– لا تصدقني؟ أنت حر.

وأدارت وجهها إلى الخارج، همس ناصر في أذنه بأن «منار» سوف تُصمِّم غلاف المجلة وسوف تُعدّها فنيًا.

قالت منار:

– سنقضي رأس السنة في الإسكندرية، هل ستأتي معنا؟

قال:

– لا أظن… عندي عمل.

نام مرهقًا، لا يجد طريقة يتخلص بها من أفكاره حول «منار»، لمَ تُصر على الالتصاق به كبعوضة؟ ولمَ تضطهده، وتحاول استفزازه بكل الطرق؟ ولمَ يتعلق بها على هذا النحو؟ ظل يحدق في الظلام علّه يتبين حقائق بعيدة خفية يحرمه من إدراكها، دوران أفكاره في مسارات تحمل نفس النتف من الانطباعات.

في نفس يوم عودتها من الإسكندرية، اتصلت به. كان صوتها مبحوحًا وكأنها واصلت الصراخ في غرفة مظلمة، قالت:

– تعالَ بسرعة أنا أموت.

لم يستطع أن يفهم الأسباب التي تجعلها مريضة على هذا النحو، وحاول أن يستوضح الأمر. قالت كلامًا مشوَّشًا، عن أن أختها بدأت تطاردها، وأنها أرسلت بلطجية، رأتهم يجلسون أمام البيت وأنها خائفة، سألها:

– ولماذا تفعل أختك هذا؟

قالت غاضبة:

– تعال، وسوف أتحدث معك في كل شيء.

وبعد صمت قصير قالت منار وكأنها تتذكر:

– تقول إنني عيشتي حرام في حرام، وأنها لابد أن تُعيِدني إلى الطريق القويم… تعرف أن زوجها من الإخوان ويملأ رأسها بهذا الكلام.

قال مصطفى:

– لكنها لا يمكن أن تفعل معكِ هذا. هي أختكِ الكبيرة، وهي تحبكِ. أنا أعرف هذا. تريدكِ أن تعيشي حياة مستقرة هذا ما عرفته.

قالت منار صارخة:

– ياه على تخلّفك يا أخي. أنت لا تفهم كل شيء. طول عمرها تغير مني، كنت دائمًا أتفوق عليها في ممارسة الرياضة، وفي العزف على «الأكورديون»، وكان الشبان الذين تقع في حبهم يحبونني. إنها لا تنسى تلك الضغائن القديمة.

ارتدى ملابسه على عجل، واستقل سيارة أجرة، وصعد إلى شقتها، وطرق الباب عدة مرات دون جدوى. ظل واقفًا في ظلمة السلم وقتًا طويلًا ينظر خائفًا إلى الباب الموصد، كأنه لعنته. كل إنسان يُولد بلعنة خاصة، وهو يشعر أن الأبواب المغلقة قدره. لاح له، على نحو خاطف، باب غرفة أبيه الموصد. طرق الباب مرة أخرى، لكن الصمت وحده كان يتردد هناك، وخُيِّل إليه أنها اتصلت به من مكان آخر، فنوع الصمت الذي يحيط بالبيت أكّد له أنها لم تعد إلى شقتها منذ عدة أيام.

قصد من فوره بيت أختها. كانت على وشك الخروج من البيت. اعتذر عن الزيارة المفاجئة، وأخبرها أنه قَلِق على «منار»، وحكى لها عمّا سمعه منها، بدا الوجه أكثر حزنًا، وقالت بصوت هادئ:

– لم أرها منذ ثلاثة أشهر.

ولاحت له ألاعيب منار فجة، والحكايات الخيالية التي تؤلِّفها نوع من الاختلال النفسي، سمع أختها تقول:

– طردتها من بيتي. ليس لي أخت.

لا تريد لأبنائها أن يعرفوا أن لهم «خالة» بهذا الشكل. حاول مصطفى أن يُهدِّئها، وتحدث عن موهبة منار الأصيلة، ولوحاتها التي تُعرَض في الخارج. قالت الأخت إنها لا تنكر كل ذلك، لكنها تعترض فقط على طريقة حياتها:

– ترسم كما تشاء، لكن لا تعيش بهذا الشكل.

حاول مصطفى أن يقول إنها حرة في اختيار الحياة التي تحياها، لكنه أدرك أن كلامه ليس في محله.

فكّر وهو يهبط السلم أن منار تمارس كذبًا لا يحتمله، لكن ناصر أخبره أنها لم تكن طبيعية في الإسكندرية، حاولت أن تنزل البحر بملابسها في عز البرد، وأنهم منعوها بالقوة. كانت تنظر إليهم كأنها لا تعرفهم. أثناء عودته إلى البيت فكّر أنها تصنع جحيمًا لنفسها. كل ذلك لأن أختها طردتها من بيتها، كانت لا تُصدِق أنها مطرودة من جنة الحياة العائلية.