القسم الثاني: «القلب الفارغ»

(4)

رأى «منار» في الفترة التي سبقت عمله في الصحراء، في الوقت الذي بدأت تسيطر على حياته كآبة لازمته سنوات طويلة بعد ذلك، كان لا يعرف ماذا يفعل بنفسه، لم يكن السجن مرهقًا في حد ذاته، بل ما فعل السجن بأبيه، فقد تسلّل إليه موت أبيه باردًا وكئيبًا؛ ظلًا أسود ظل ينمو في قلبه بلا نهاية حتى حوّله إلى قطعة فحم لا تصلح للاشتعال. التجربة المريرة التي خاضها في انهيار «حسين» وسفره إلى الخارج، وزواج «نفيسة»، من الممكن اعتبارها أسبابًا واضحة لهذا الظل الأسود الذي عمّ حياته، لكنه بقي، طويلًا، يبحث عن أمر آخر.

رآها ذات يوم في إحدى الندوات مع صديق كان يعمل بالمسرح، وعرف منذ اللحظة الأولى أنه سيتعلّق بها. كانت علاقاته السابقة هامشية وبسيطة، ولم يكن في ذلك الوقت قد عرف الجنس إلا مرات قليلة، وأغلب تجاربه كانت في الحقيقة تجارب فكرية. سارا معًا في شوارع وسط القاهرة، حيث كانت تنوي شراء بعض الكتب عن فن التصوير، وعندما وقفا في مكتبة أنيقة راحت تستشيره في كل ما تشتريه. في النهاية نظرت إليه وقالت:

متى جمعت كل تلك المعلومات عن فن التصوير؟

قال:

هويت التصوير، لكني لم أجرؤ على ممارسته.

نظر في عينيها وقال:

نوع من الحصر المبكر.

لم يرها بعد ذلك، لكنه كان يسمع تفاصيل عن حياتها في السنوات التي قضاها في الصحراء. كانت صورتها تبدو له كأنها تحمل كل الضوء الذي يرغب أن يعم حياته، تأمّل كثيرًا وجهها المستدير المرح وعينيها السوداوين، هناك، في عزلته في الصحراء، حيث عمل لمدة عامين مُترجمًا لبعض المهندسين الأجانب الذين كانوا يرسمون مسار خط أنابيب بترول في الصحراء الشرقية.

كان يتعب أحيانًا من تأمل موت أبيه الذي رفض رؤيته منذ دخوله السجن. يفكر في تفاصيل تلك الأيام، يتذكر وجه عمته الباكي وهي تقول: «لقد رجوته وقبّلت يده لكنه يرفض»، «قلت له دعه يراك». يتذكر الغرفة المغلقة حيث ظل أبوه مريضًا لعدة أشهر، وفي الليل عندما تشتد عليه آلام السرطان، كان «مصطفى» يسمع أنينًا خافتًا يتردد في البيت النائم، تبكي عمته صامتة، وهي ترى أخاها وسندها في الحياة يتهاوى، و«مصطفى» كالشبح يخرج من البيت في الصباح ويعود آخر الليل.

أدام «مصطفى» التفكير في قسوة أبيه، لكنه لم يتخلص من الألم، كلما فكر أن الرجل الذي أدار المعاهد الأزهرية بحزم، وتربى على أن كل شرور العالم تكمن خارج الدين، حمل معه إلى الموت لعنة لم تكن تخطر بباله، حتى لو كانت من صنع خياله.

في الصحراء، عندما يتعب من مشاعر الذنب، كان يفكر في وجه «منار»، لكنه لم يكن يستمر طويلًا في ذهنه، فما يلبث أن ينخطف منه بسرعة أمام السحب القادمة من تأمل حياته الباطنية، وبسبب تكرار المحاولة مئات المرات أخذ الوجه ضوءًا مضاعفًا، لكنه بعد أن عاش عدة سنوات مع «منار» نظر إلى هوسه بوجهها في الصحراء على أنه وهم، وفكّر أن المرء لا يمكن أن يعيش حقيقة واحدة طوال حياته غير حقيقة ذنوبه، فما يظنه الآن حقيقة، يصبح -في نظام آخر من الوعي- مجرد وهم.

عرف كثيرًا من حكايات عشقها، التي كانت منتشرة في أوساط معارفها، وبذخها في إهدار نفسها، وسمع عن رسومها الفاضحة؛ فقد رسمت التواليت مُجسمًا بألوان صاخبة كلوحة إعلانات، وكانت في حالة هياج، فقد بذلت جهدًا ضائعًا كما قالت، لأنها تمنّت لو استطاعت بطريقة ما أن تُصوِّر الرائحة التي تفوح منه عقب أداء هذا الفعل الحيوي، وأسمت هذه اللوحة «التحليق في الفضاء». وسمع أحيانًا تفاصيل دقيقة لممارستها للحب الذي كانت تطلق عليه اسمًا مرتبطًا بصفة «الأسود»: الدوامات السوداء، الجحيم الأسود، وذلك بعد أن رسمت ذات يوم لوحة، عبارة عن مسطح مدهون بالأسود، وأسمتها «الحب»، ومنذ ذلك اليوم وهي تطلق على كل أفعال الحب اسمًا موصوفًا بلفظ «أسود».

عندما عاد من الصحراء، توسّط له أخوه لكي يستقر في فرع الشركة في العاصمة. وقتها لم يكن يدرك أهداف أخيه، لكن أحاديثه عن بيع البيت أصبحت واضحة بمرور الوقت، وكان عليه أن ينتظر عدة سنوات حتى يرى تلك الأحاديث العابرة وقد تحوّلت إلى شهوة عارمة، بسبب أوضاع طارئة لم تكن في الحسبان؛ فبسبب زلزال 1992 والآثار التي ترتبت على إغلاق كردون المباني، صعدت أسعار العقارات بصورة لم تكن في الحسبان، والبيت القديم الذي كان يساوي عدة مئات من الآلاف وصل ثمنه، بسبب قرار إداري، إلى عدة ملايين.

بعد عودته من الصحراء رأى منار كثيرًا، كانت مُبهِرة في تلك الفترة، ولم يكن هناك مجال للحديث معها في غير الفن. في مرات قليلة مضيا معًا في الشوارع، وذات يوم قبّلها وهي تصعد إلى شقتها. كان ضوء المساء موشى بآخر أشعة الشمس، تشبّثت بطرف قميصه ثم تسلّلت يدها مباشرة إلى جسده. دخل شقتها، لأول مرة، وظلّت رائحة الأصباغ وزيوت الرسم تسيطر على خياله كلما فكر في ذلك اليوم.

كان المكان غاصًا بتلك «النكوشة» التي ضغطت عليه كثيرًا بعد ذلك، لكنه في ذلك اليوم عاش تجربة مُخالفة لكل ما قامت عليه حياته، لعادات الوضوء والصلوات في مواعيدها، وعندما نعس قليلًا حلم بأبيه يصلي الفجر، وصوت عمته في المطبخ. فتح عينيه، لا يعرف ما الذي أرعبه عندما اكتشف أنه موجود في شقة غريبة، ومنار عارية بجواره.

قالت له في إحدى المرات إنها أحبته لأنها أدركت أنه الشخص الوحيد غير الأخلاقي الذي قابلته، لكنها اكتشفت بعد ذلك أنه بلا قلب، وضحكت وهي تقول إنه يُشكِّل التحدي الذي عليها اجتيازه:

يجب أن أخلق لك قلبًا.

ويبدو أن هزيمتها كانت مُحقَّقة، بسبب الروح الباردة التي تتفتح في كيانه، والعزلة التي راح يوغل فيها يومًا بعد يوم. يقوم من النوم في الصباح بروح أكثر كآبة، ويؤدي أعماله اليومية بآلية من فَقَد الحياة. وبعد عدة أعوام عندما بدأت رغبته في القتل تطل في أفكاره، كانت رحلته مع منار قد شارفت على النهاية.

في كل وقت راحت تُظهِر تعبها من صمته وانغلاقه، لكنه كان يعرف أن أكثر ما وُجِّه إليها من إهانة هو كفه عن ممارسة الحب معها. قالت له ذات يوم بصراحة:

أنا أريدك.

قال مصطفى بعصبية:

افهمي. لا أريد أن أثبت ذكورتي. لا أريد. اعتبريني ميتًا. ليس لي رغبة في ذلك.

قالت:

وماذا تفعل بتلك الطاقة؟

أجابها:

أوجهها لتدميري.

كانت منار تتعب منه، وكان يكف هو الآخر عن الحديث، كأنما دخل المناطق الخطرة، يظل يحدق في مُحدِّثه بعيون واسعة لها لون أخضر داكن، تظهر مُنداة من خلف نظارته التي لا يكف عن العبث بها، أو مسح عدساتها، كطفل يهرب من الإجابة عن سؤال محرج.

اعترته في تلك الفترة رغبة في شرب الخمر، كان يشرب في كل وقت تقريبًا، يرجع من عمله في الثالثة بعد الظهر، يستريح في شقة أخيه في وسط البلد، ثم ينزل في المساء، إذا لم يصادف أحدًا من أصدقائه يندفع إلى محل قريب في زقاق ضيق تعرّف على رواده، ويجلس هناك حتى منتصف الليل.

يقول في حالات يأسه: «من اللائق لحياة بائسة أن تدمر نفسها»، وقبل أن يغادر البار، يعطي الجرسون العجوز حسابه ويقول: «من المرعب أن يخلو العالم من الروايات». تجعله الخمر مُتوترًا. يتناول «رواية» من فوق منضدة صغيرة بجوار سريره، ويظل يقلب صفحاتها حتى يتركها مفتوحة ويسقط في النوم.

كان يتساءل كثيرًا عن سر تعلقه بمنار، وأهمية الحياة، وما يمكن أن يفعله بها. في أحيانٍ أخرى يفكر في حديث أخيه عن أهمية الزواج وتكوين أسرة والعيش مثل الناس، لكنه كان يشعر بأن حياته قد فسدت؛ أفسدها شيء لا يستطيع الإمساك به، ذرات صغيرة من غبار تراكم على حياته وأفقدها بهجتها.

كثيرًا ما في «نفيسة» التي أحبته بنفس الجدية التي تدير بها حياتها، لكنه لم يكن قادرًا على التفكير فيها كزوجة، رغم أنهما تعرّفا معًا على البدايات الأولى لتشكل الرغبة الجنسية. يفكر أنها تنظر إلى الحياة بطريقة لا يمكن أن يتلاءم معها، جادة حتى وهي في ذروة اليأس، «منار» هي الشخص الوحيد الذي يمكن العيش معه، فهي تملك نفس الضياع الفطري.

كان ميعاده في العمل في التاسعة صباحًا، يستيقظ قبل ذلك بقليل، يأخذ حمامًا، ويذهب إلى العمل. لم يكن عمله في الشركة مهمًا؛ عبارة عن ترجمة بعض المراسلات والتقارير الصناعية عن مناطق الحفر في الصحراء الشرقية، وفي أحيانٍ قليلة يترجم بعض الأبحاث الجيولوجية التي تُرهِقه بسبب دراسته الأدبية. لكن العمل يصبح مثيرًا، عندما يكلفه مدير المكتب بترجمة بعض الأبحاث لابنته في كلية العلوم. ترجم ذات يوم مقالًا جميلًا عن أعشاش الطيور، ما زال يذكر تفاصيله، وما زال يضمر حبًا خبيئًا لدراسة علم الأحياء، غير أن هموده وإرهاقه النفسي لم يُوفِّرا له أبدًا العكوف على مشاريعه الهشة.

خلت حياته في تلك الفترة من أي أحداث، وتشبثت به أحلام يقظة، اعتبرها تسليته الوحيدة أثناء النهار. ذات يوم كان جالسًا في المقهى في الصباح، عندما تخلو الشوارع وتصبح القاهرة مكانًا مقبولًا للحياة. تنتشر في الشوارع طبقة رقيقة من الضوء الباهت المُتسرِّب من سُحب عملاقة بيضاء تعبر السماء. كثيرًا ما يترك عمله في ذلك الوقت وينزل إلى المقهى لاحتساء قهوته. لم يكن يتعدى الوقت الذي يستغرقه غير عشرين دقيقة أو نصف ساعة على الأكثر. في ذلك اليوم كان يفكر في إجازة، في الراحة، ولأنه لم يكن يريد الذهاب إلى مدينته الساحلية وقضاء اليوم مع عمته و«نفيسة» وزيارة بيت أخيه، فإن أحلام اليقظة راحت تسيطر عليه، وتخيّل نفسه قادرًا على القيام بتلك السفرة التي ظلّ يحلم بها، وحيدًا في الصحراء الشرقية.

رأى في هذا اليوم التلال البعيدة تُولَد في نور الصباح من الضباب من جوف الليل الذي يمضي بعيدًا، ورأى أنه عسكر في خيمة صغيرة في أحد الوديان، كل يوم يقطع مسافة طويلة سيرًا على الأقدام، ويرسم -في الليل- المناظر التي رآها، على ضوء فانوس خيمته، يُفرِغ المعلومات التي جمعها طوال النهار، عن طبيعة التربة ونوع التلال وطبيعة النباتات، ويصف نوع الضوء ولونه ودرجة بريقه، ونوع الصمت الذي سرى في هذا اليوم، ويقوم في الصباح ويسير في اتجاه آخر.