القسم الثاني: «القلب الفارغ»

(3)

في البداية، لم يكن «مصطفى» يشترك في المناقشات التي تجرى في ممرات الكلية، لكنه بمرور الوقت بدأ يدخلها بجدية. كان ذهنه المرن، وصوته الرقيق البارد، يعطي لحديثه مصداقية لدى الطلاب. أثناء تلك المناقشات، كانت حدة ذهنه تصل إلى أقصى حد من الرهافة؛ يُحدِّق في وجه ناصر ولا يراه (يقول ناصر بعد ذلك إن الشيطان يتلبّسه) ويبدو مُنحازًا بشكل كامل ضد منطق صديقه، ويرقب تفتُح الأدلة في خياله، كأنه يرى ضوء الشمس ينعكس على الموج.

أربكه هذا الشغف بالحوار، وشعر به نارًا تجعله غريبًا، تلتهمه وتتركه مُستثارًا في نهاية اليوم. يعود إلى البيت، يحبس نفسه في غرفته ويقرأ كل الكتب المتاحة. عرف «مصطفى» أن ما يثيره هو العالم الذي يتفتّح خلف تلك النقاشات، الاتساع المجهول الذي يتبدّى هناك، يُومئ خلف الكلمات والحوارات التي تستكمل نفسها في المقاهي أو في المشي على شاطئ البحر أو أثناء السهر في شقة الطلبة التي كان يستأجرها ناصر.

يخرجون من الكلية، يسيرون بجوار البحر، يقطعون المسافة مشيًا، حتى شقة «ناصر». كم من المرات تكلّم مع مصطفى عن تاريخ الحركة العمالية المصرية من بداية القرن؟ وما ظل «مصطفى» يذكره دائمًا هو تلك الروح الودودة المتوهجة التي كانت تخرج كلمات ناصر مكسوة بها، وربما بأثر تلك الصور الخفية، ظل يحتفظ بصداقة «ناصر» وبحب شعري لبدايات الحركة العمالية.

ذات يوم، كان «ناصر» مُتوترًا وبدا أثناء وجوده في الكلية شاردًا، لم يقف طويلًا أمام مجلات الحائط. كان يطل عليهم في الكلية، ويختفي. أكسبه الغموض، في ذلك اليوم، حيوية وفرحًا. جسده النحيل القصير يتحرك بتحفز؛ وعلى الرغم من برودة الجو، فإن جبهته كانت لامعة بعرق، بدا مُشعًا من الداخل، كأن روحه تسيل تحت جلده.

عندما خرجوا من الكلية كانت السماء غائمة والبحر صاخبًا، ورفع «ناصر» صوته حتى يغطي على صوت السيارات المُسرعة وصوت البحر، فبدا أكثر حماسةً وبريقًا. يومها سمع مصطفى مصطلحًا جديدًا شعر تجاهه بالغرابة واستسلم لحديث «ناصر» المُرتب المُقنع، كأن عقلًا مُشعًا استقر في جوف عقله.

في هذا اليوم سمع مصطفى مصطلح «البرجوازية البيروقراطية»، وقتها كان على وعي محدود بتلك المصطلحات، لكن في السجن أدرك دلالة تلك الكلمات في التمييز بين الفِرق الشيوعية. أثاره التركيب الغريب للمصطلح، واعتبر نفسه جاهلًا، يجب عليه قطع مشوار طويل من أجل الفهم. لم يكن ما أصابه أمام الكلمات الجديدة غير دهشته العادية، لكن بعد عدة أسابع سوف يسمع مصطلحًا آخر، سيُصيبه بألم لن يُشفى منه أبدًا، لأنه لم يستطع أن يفك لغزه إلى أن انفضت تلك الحلقات اليسارية.

وقتها، لم يكن «حسين الديب» موجودًا. كان قد قُبض عليه منذ عدة أشهر في كرموز، لكنه كان حاضرًا في أحاديث «ناصر»، يطل عليهم من سجنه، مُعطيًا كلماتهم واقعًا وحياة، وينزع الألوان من أحاديث «مصطفى» التي غدت باهتة بمرور الوقت. كانت المهمة مقدسة وجدّية، أجمل وأرقى من اللعب العقلي. كانوا يصنعون التاريخ على حد تعبير «مُحب».

ذات يوم، عندما كانوا عائدين في الليل، وجلسوا ليُدخنوا على مقعد أمام البحر. قال «محب» يومها، بعد صمت لم يكن فيه غير صوت الموج:

كيف سينظر إلينا التاريخ؟

كان الصوت خافتًا ومؤثرًا، حتى أن «مصطفى» أنصت بشدة كأنه يسمع «التاريخ» يتلصّص على جلوسهم المنعزل أمام البحر، كأنه كامن في الأصوات السرية العابرة، شبحًا مهيبًا يُسيطر على العالم، يُومئ بوجهه العجوز ولحيته الطويلة البيضاء.

عندما خرج «حسين» من السجن ظلّ عدة أيام في قريته، ثم عاد إلى الكلية. ورآه «مصطفى» يتحدث بجرأة عن تكوين لجان الشوارع وغيرها من التنظيمات، له طريقة أخرى في الحديث وإدارة النقاشات. نبرته ساخرة وفكهة، وجسورة، وكان عدوانيًا فيما يخص الأفكار المخالفة. في تلك الفترة تحطم زهو مصطفى بقدرته الذهنية، في أحاديث قصيرة مع «حسين»، وعندما حاول في إحدى المرات أن يناقشه بتلك الطريقة السقراطية، صمت «حسين» طويلًا وحدق في وجهه وقال:

أنت برجوازي صغير.

رنّت الكلمة في ذهن «مصطفى» رنينًا غريبًا، بدت له مثل «فأر صغير». كان «حسين» قد لوى شفتيه وهو ينطق الكلمات كأنه يبصق، ورسّخ هذا الاشمئزاز الذي أحاط بالكلمتين، الجو العدائي للحوار. بدا لمصطفى أن الأسئلة الجذرية التي تعتمد على أدوات الاستفهام: لماذا؟ وكيف؟ هي التي فجّرت هذا الاتهام. وفي مثل هذا الجو لم يكن قادرًا على أن يسأل: ماذا يعني برجوازي صغير؟ وظل محمومًا في تلك الليلة، فحياته كلها قد اندرجت تحت نوع من الاشمئزاز لم يعرفه قبل ذلك.

لم تنفع حيله المعتادة؛ لا التمدد أمام السماء، ولا البقاء طويلًا في الظلام، في أن يفهم. حاول، دون جدوى، أن يفكك اللفظ، يدخل أعماقه، كما كان يدخل أعماق مسائل الرياضيات، لكن اللفظ استمر يلوح كغرفة مؤصدة بقفل صدِئ.

ظل قلقًا، في تلك الليلة، بمشاعر متناقضة. في البداية عرف أن حسين كان يهرب من المناقشة، لكن تلك الحقيقة تلاشت تحت ركام المهانة وعدم الفهم. وفي خلفية ذهنه لاح له -دون أن يقدر على الاعتراف- أن تأثير الحكم وصدقه آتٍ من ظل الزنزانة الذي يحيط بحسين.

كان عليه أن يُحدِّد ما هو «البرجوازي الصغير»؟ ما هي الحقارة التي يضمها وضع البرجوازي الصغير، حتى تجعل المرء يقشعر من الكلمة عندما تنطق، كأنما يرى فأرًا؟

انقطع عدة أيام عن الذهاب إلى الكلية، كانت الكلمات ترن في جوفه بصدى غريب، وتعيد ترتيب وقعها ورنينها، على نحو يُرسّخ من غرابتها، تبدو له أحيانًا على شكل حشرة هائلة وضيعة، والصغر هنا كان صفة إدانة، لكن ما نوع الإدانة؟ هل هي الخسة؟ كان للفظ مداخل لا يعرف كيف يتعرّف عليها.

وظل راقدًا حتى أخبرته «نفيسة»، ذات يوم، أن أصدقاءً ينتظرونه في الصالون.

استقبل، في هذا اليوم، «ناصر» و«حسين» في غرفة الصالون الواسعة. كان المساء يدخل من النافذة، وهواء المغرب يهز فروع الشجر الناشفة. الستائر المرفوعة ثقيلة، وبدت الغرفة غريبة في عيني مصطفى، بضخامة أثاثها.

كان كمن يكتشف، لأول مرة، هذه الغرفة التي توجد كمزار في كل البيوت، مُغلقة على أشباحها، تلف كراسيها أغطية بيضاء من قماش رخيص، وأحيانًا، وفي بيت خالٍ من النساء مثل بيتهم، كان الغبار يتم تنفيضه من فوق الكراسي والضيف واقف بالباب، وعندما يدخل الغرفة، فإنه لا يشاهد فقط بقايا الأشباح النائمة، ولكن أيضًا يشم رائحة التراب الثقيلة التي تحيط بصور الموتى المُعلَّقة في براويز ثقيلة على الحائط.

شعر بالخجل من غرفة الصالون الهائلة، وعدّها الدليل الدامغ في نظر «حسين» على البرجوازية الصغيرة. كان الاتهام قد التصق به بسبب تلك الغرفة الضخمة، والملاءات التي تغطي الكراسي، حتى أنه راح يفكر بحنق في لون الكراسي، وتذكّر على نحو خاطف، أحد الأعياد البعيدة، عندما لمّت عمته كل ملاءات البيت بما فيها أغطية الكراسي لتغسلها، بدت له الكراسي باللون الكحلي اللامع وبأياديها المذهبة، كموتى خرجوا من قبورهم، غرباء عُراة، يتخبّطون في تلك الأضواء الباهرة ليوم وقفة عرفات.

بعد ذلك، لم يستقبل «مصطفى» أصدقاءه في غرفة الصالون مرة أخرى. في تلك الفترة زادت زيارات «حسين». في ليالي الشتاء، في بيت اعتاد على السكون بعد صلاة العشاء. كان «حسين» يدخل بجزمته «الضباشي» ومعطفه الشهير، كأنه جزء من الليالي الشتوية التي تغمرها عواصف البحر.

اكتشف قلق أبيه من تلك الزيارات، عندما أخبره «محمد»، ذات مساء، بأنه يرغب في الحديث معه. كان أخوه، بعد خروجه من الجيش، قد افتتح مكتبًا صغيرًا للمحاسبة في وسط البلد، وغدا مُقبلًا على الحياة بعد عمله في أحد البنوك الكبيرة.

خرجا معًا، لأول مرة منذ فترة طويلة، منذ الأيام البعيدة التي كان يصحبه فيها إلى دور السينما، وفي مقهى أمام البحر حدّثه «محمد»، بنبرة جادة، بأنه لا يجب أن يستقبل «حسين» في البيت مرة أخرى.

خُيِّل لمصطفى أنه يسمع صوت أبيه، فشعر بإهانة مضاعفة. عالج الأمر بالصمت، لأنه لم يكن يجرؤ على مخالفة الأب، لكنه استبدل زيارات «حسين» المُحرَّمة بالكتب الشيوعية التي عرف أن أباه لو رآها فسوف يموت، وظل يبحث في هذه الكتب عن إجابة سؤال واحد: ماذا يعني برجوازي صغير؟ لكن دون جدوى.

كل التفسيرات التي وجدها لم تساعده على فهم هذا الاشمئزاز الذي رآه ذات يوم على وجه «حسين الديب» وهو يلقي في وجهه هذه التهمة كبصقة، وظل يقرأ في هذه الكتب حتى وجدها البوليس مفتوحة على سريره في تلك الليلة الباردة من ليالي يناير/كانون الثاني عام 1977.