القسم الثالث: «رجل المرآة»

(2)

الرجل الذي يتمشّى في السماء، جاء لنجدتي في هذا اليوم، وفي الأيام التالية، وبدأ يرفع بصره وينظر في وجهي، عندما يقترب من النافذة. عدت أفكر في «حسين» وفي جريمتي، وانمحت القشرة اللامعة من السكون والبعد التي لفتني، واتخذت أفكاري طابعها القديم، وكأنني أعيش في هذا العالم مرة أخرى وأنني لم أبتعد أبدًا.

كانت مواد البقالة قد انتهت، وبعُدت المسافة بيني وبين حذري. لم أعد أتهيّب النزول إلى الشارع منذ أن بدأ هذا الشخص يتجوّل في السماء. ربما كنت مبهورًا بتلك الرؤية التي ألهتني عن حذري. كنّا في الضحى، عندما تخلو الشوارع، ويصبح للمقاهي مذاق أحبه.

اشتريت البقالة، وأربكتني نظرة البقال المستريبة، أو خُيِّل إلي أنها مستريبة. كان ينظر إليّ من خلف فاترينة زجاجية، يقطع الجبن، وينظر إليّ، والسكين تتباطأ في يده، كأنه على وشك الحديث، لكنه يصمت. أخذت أشيائي في كيس من البلاستيك وخرجت.

في المحطة النهائية للترام القديم الأصفر، يقف ترام مفتوح الأبواب، والسائق يتحدث مع الناظر وهو يضع قدمه على أول الدرجات ويهم بالصعود ولا يفعل. سرت بجوار سور مدرسة ابتدائية وجاءت سيارة حمراء مسرعة، وألقت على ملابسي نثارًا من الماء المتراكم بجوار الرصيف.

عندما عبرت شارعًا به أشجارة كثيفة، كان التلاميذ قد بدأوا يخرجون من المدارس، خُيِّل إليّ أنني أعود من سفر طويل، ولمست الخطر، بسبب إحساسي المُباغت برائحة البحر، حيّة، بعيدة، وهّاجة، في ضوء الشمس المشرق فوق النوافذ والشرفات. كدت أعبر الطريق، ثم النفق، وأسير بجوار سور الإستاد الرياضي، ثم أعبر خط الترام وأصل إلى البحر. قلت: سوف أستبدل شوقي بالجلوس في المقهى، واخترت مقهى منعزلًا، وجلست في الداخل مستمتعًا بالدفء، وجو مدينتي الغائب عني.

في كل لحظة أرفع عيني وأنظر إلى الشارع عبر الزجاج. كنت في حماية الزجاج. هكذا خُيِّل إليّ، عندما رأيت الرجل الذي يتجوّل في السماء يسير في الشارع، وحيدًا له نفس السمات. بدا لي أنه يقصد نفس المقهى، لكنه عبر الشارع إلى الرصيف، ووقف على محطة الترام أمام باب بيت قديم تطل من فنائه أشجار الفيكس ذات الأوراق العريضة. ظلّ يُحدِّق باتجاه المقهى، وشعرت بنظرته الفاحصة تخصني، بل تُوحي لي بالاقتراب لأنه لا يقدر عليه.

دفعت الحساب، وخرجت مسرعًا من المقهى، وكدت أقفز في باب الترام المفتوح، لكني فكرت أنه سيركبه أيضًا. رأيته ما زال واقفًا هناك، مثلما كان، يُحدِّق في المقهى كأنني لم أغادر مقعدي. لم أجرؤ على الاقتراب منه، واستبد بي رعب كاد يدفعني إلى الجري. أنقذتني في تلك اللحظة سيارة أجرة قادمة، رفعت لها ذراعي ونطقت اسم المكان، ولمحت الدهشة في عيني السائق، لأن المسافة كانت قصيرة؛ مجرد شارعين، لكني لم أعبأ به، ورحت أتطلع إلى الخلف من زجاج السيارة، وألمح الرجل ما زال واقفًا على محطة الترام.

في شقتي كنت ما أزال مضطربًا. حاولت ترتيب أفكاري دون جدوى. حيّرتني مظاهر الرعب التي طبعت أفكاري، وظهرت في ارتعاشات خفية ليدي وشفتي، ورحت أقول لنفسي، ألم يكن هذا ما تمنيته؟ ألم أكن أتمنى وهو يتجول في السماء أن يهبط إليّ الأرض، لنتحدث معًا؟ إذن لماذا تمتلئ أذني بهذا الأزيز؟

وعندما جاء المساء، كنت خجلًا من فراري أمام الشخص الذي تمنيت أن أتحدث معه، وظلّلت أحدق في السماء حتى جاء الليل دون أن يظهر هذا الطيف مرة أخرى.

بقيت حزينًا، بسبب إدراكي أنه غادر السماء نهائيًا، وبسبب عدم فهمي للأسباب التي دفعتني للفرار أمامه. من غير الحقيقي أن أقول إنني لم أنم في تلك الليلة، لكن النوم كان سحابة من الصور، والإحساس بالندم، وشعورًا طاغيًا بأنني فقدت القدرة على إدارة حياتي.

فتحت عيني على صوت قريب. شخص يهمس في أذني:

– ألا تعرف منْ أنا؟!

ابتسم ابتسامة متواطئة وقال:

– فكر قليلًا… ألم تُحطِّم المرايا التي شكّلت بيتي؟

وحدّق في وجهي وهو ما زال يبتسم:

– جمعت نفسي من المرايا التي حطّمتها. وقلت أعيش بعيدًا عنك. ربما أجد حريتي. ربما أتحرر من أسر أوهامك، وخيالك المريض.

وقبل أن يستدير ليعبر طريقًا مُظلمًا، قال بجدية:

– لماذا تُصرِّ، قل لي بجد، لماذا تُصرِّ على الهرب مني؟

صحوت في الصبح، ووجدت نفسي أرتدي ملابسي وأستعد للنزول. جلست على نفس المقهى، لكنه لم يأت. كرّرت النزول عدة أيام متوالية، لكنني فقدت أثره. لم يعد يتجول في السماء، ولا في الشوارع، وخطر ببالي أن أستعيده من خلال شراء مرايا جديدة.

أنام نومًا مُضطربًا، وأصحو وأنا أشعر أن الكوابيس تستنفذني. كان «حسين» يزورني، ومعصمه ملفوف بشاش أبيض، ويتحدث معي ولا يشير مطلقًا إلى موته، وأسمع صوت «محمد» ينادي على العمال، وصوت الكراكات تهد البيت، وعمتي تُحدِّق في سقف القبر وتنصت للخطوات التي تمر في الخارج، وتقول: «سيعاقبكم، لن يترككم تفلتون بذنبكم». أفتح عيني وأسمع صوتي وهو يقول: «لن أسمح لك بهدم البيت… إنها تُلقي علينا باللعنة من قبرها»، ثم سمعت الصوت مرة أخرى واضحًا له نفس نبرة صوتي الخافتة:

– أحقًا لا تعرفني؟!

فتحت عيني على الفور، وشعرت بطيفه يتوارى في الشقة الخالية، وشممت الرائحة التي تفوح من ملابسي عندما كنت أعود من المشي على شاطئ البحر. خُيِّل إليّ في هذا اليوم أنه حمل السنارة وذهب يصطاد، وعرفت أنني قد أجده هناك يجلس في ركن منعزل كما كنت أفعل. نزلت مرة أخرى ضاربًا عرض الحائط، بفكرة أن «محمد» قد يراني من سيارته على الكورنيش وهو راجع من العمل.

ركبت سيارة أجرة أقلّتني إلى الكورنيش. عرفت أن هيئتي أصبحت مُلفِتة للنظر، لأن السائق كان ينظر إلي بدهشة في المرآة، تحسّست لحيتي، وحاولت أن أساويها بكفي، مدّدت يدي إلى شعري وسوّيته علّه يهبني هيئة شخص قادم من بيت.

هبطت على رصيف الكورنيش. الشمس مشرقة، والمقاهي مفتوحة، والهواء يُحرِّك المفارش الخضراء للمناضد المرصوصة على الرصيف. لمحت بعض الشباب والبنات يتجولون على الجانب الآخر، هادئين، يُحرِّك هواء البحر ملابسهم ويدفعهم إلى الأمام.

تنسّمت هواء البحر كالعطر، كأنني عشت عمرًا طويلًا في سرداب. كانت فرحتي حسية، تنميل في جسدي، وطغيان مشاعر لا أعرف مصدرها، كأن جسدي قد صحا من القبر، أو نُزعت عنه طاقية الإخفاء. كنت أتعرف لأول مرة على أشياء مدفونة في مشاعري، لحظات قديمة لم أدرك وجودها، استيقظت. الأيام البعيدة التي كنت أجلس فيها، ساكنًا أمام البحر وسنارتي في الماء، عادت بتفاصيلها، كان جسدي مليئًا بحياة حاولت القضاء عليها بالهرب والعزلة دون جدوى.

الأوهام التي سيطرت عليّ في الأيام الأخيرة، ما هي إلا نداء البحر، وقد تخفّى في صور غريبة، حتى يستطيع إخراجي من القبو، ولأن الأعشاب التي نميتها كانت كثيفة، والمسافة قد باعدت بيني وبين الباب، فكان على النداء أن يتخفّى في أكثر الصور غرابة، حتى لو كانت صورة رجل يقوم من المرايا ويحمل السنارة ويذهب إلى الصيد.

رحت أتمشّى غير عابئ بالبحث عن الرجل الذي يتجول في السماء. أسير بسرعة، أو ألتقط صدفة، أو أتأمل زجاجة خمر فارغة ملوثة بالرمل، وأحيانًا أجلس وأنظر في هذا الاتساع صامتًا. عندما أوشك المساء أن يحط ويُوقعني في أوهامي، اندفعت أسير في الشوارع، حتى وجدت نفسي في منطقتي، واضطرب قلبي وأنا أقترب من الشارع، وألمح البوابة الحديد الكبيرة لبيتنا. لم تكن نافذة واحدة مُضاءة، فكرت في «نفيسة»، وقلت في نفسي ربما سافرت إلى الخارج لتكمل دراستها، لكن البيت لم يُهدَم. طمأنني هذا، ورجعت مرة أخرى إلى سيري في الشوارع بلا هدف.

أحاطتني نظرات مُستطلعة وأنا أمشي في الشوارع التجارية الغاصة بالناس رغم برودة الجو، وتمنيت أن تُمطر حتى يبتل جسدي بماء قادم من أماكن بعيدة، من بحيرات لم أرها من قبل، من تجوال في السماء. كنت أريد أن يلمسني شيء من دفء الأكوان غير المحدودة، ومن تلك القوانين السرية التي تُكوِّن المطر، وتصنع حركات النجوم، كنت أريد أن ألتقي بكل هذا البعد والقرب.

بقيت أدور في الشوارع التجارية وأتفرج على الفاترينات وأتأمل شكل المباني القديمة للمدينة، كأنني ألمسها بمشاعري، مثلما تمنيّت أن تلمسني القوانين الخفية للحياة.

عدت إلى بيتي مرهقًا ودائخًا، تمنيت أن تكون هناك مرآة، كي أرى وجه الإنسان الذي أكونه، الذي له مذاق المطر، والريح والأفكار الهشة المراوغة، وفاترينات الشوارع التجارية. لكن كل ذلك تبدّد أثناء النوم، إذ راحت تستيقظ عشرات من الصور الفوتوغرافية، وتأخذ حيوية المشاهد السينمائية، بعدما لضمت بها تأملاتي، وأعطتها صفة الحركة.

صورة قديمة لأمي بضفائرها الريفية، جاء في أثرها المرة الوحيدة التي اصطحبني فيها أبي للعزاء في إحدى القرى البعيدة، ثم جاءت صورة القرية، وظهرت أشباح في ملابس سوداء طويلة تتضخم ظلالها على الجدران الطينية، بسبب مصابيح الجاز ضعيفة الإضاءة، ثم جاء أبي وأخذني من يدي. كفه كبير خشن، وكفي تائه فيه. أبي يقف شامخًا في فناء المعهد الأزهري، والرعب يتسلل إلى قلوب التلاميذ، وملأ فكري على نحو باهر الوضوح، اللقاء الوحيد بيننا قبل موته، كان قد خضع أخيرًا لإلحاح عمتي. يجلس على الكنبة في الصالة، وفي يده جريدة الأهرام، قال لعمتي:

– اتركينا وحدنا.

لم ينظر إليّ في التو، بل ظل صامتًا ينظر عبر الشرفة المفتوحة إلى الظلمات التي تنتشر بلا نهاية، قال بصوت هادئ:

– أريد أن أسألك سؤالًا واضحًا، أجبني عليه إجابة واضحة.

بقيت صامتًا. ما زلت أتذكر الوهن الذي أصابه في تلك اللحظة؛ وهن شبيه بالصوت المتلاشي لجرس بائع الفول في أيام رمضان.

قال:

– هل تؤمن بالله؟

لم أستطع أن أقول الحقيقة، لم أكن أعرف هل أؤمن أم لا. لكني وجدت نفسي أقول بسرعة وكأني أفر من عقاب:

– أؤمن.

ربما أدرك ببصيرته كذبي وجُبني، وربما هزمه جبني أكثر من الكذب، ربما تحمّل عدم إيماني، لكنه لم يتحمّل جبني وخوائي، لأنه بدا أكثر انطفاءً من أي يوم رأيته فيه وهو يقول بلهجة خافتة:

– اخرج، ولا تُريِني وجهك بعد اليوم.

كادت هذه الصورة أن تُلقِيني في كابوسي مرة أخرى، فقد وجدتها ماثلة في خيالي، عندما فتحت عيني على ضوء الصباح، وسمعت صوت القطار يتلاشى، لكن الأمس -بل ثرائه- كان حاضرًا على الضفة الأخرى، وقلت لنفسي:

حتى الطفل عندما يخرج من الرحم، فإنه يظل يحمل قدرًا من ظلماته في مشاعره.

كان عليّ أن أحلق شعري، وأشتري بما تبقى لي من نقود ملابس جديدة، وفي المساء كنت أطرق باب السيدة صاحبة الشقة وأسلِّمها المفتاح، وأستقل سيارة أجرة إلى بيت أخي.

(انتهت الرواية)