محتوى مترجم
المصدر
Monthly Review
التاريخ
2018/3/1
الكاتب
Joel Lexchin

ظلت صناعة الدواء قريبة من أو على رأس قائمة الأنشطة الأكثر ربحية لعقود عديدة. الخرافة تقول إن هذه الأرباح تأتي من إنتاج وبيع العديد من الاكتشافات العلاجية التي ولَّدتها بحوث الصناعة، لكن الحقيقة مختلفة تماماً. في المقام الأول، يذهب ما نسبته 1.3 في المائة من الأموال التي توظفها الصناعة – بعد استقطاعات الضرائب – إلى البحوث الرئيسية، النوع من البحوث الذي يؤدي لاكتشاف أدوية جديدة. ثانياً، معظم الأدوية الجديدة التي تنتجها المؤسسات الدوائية لا تقدم الكثير أو لا تقدم شيئاً على الإطلاق على مستوى الخيارات العلاجية الجديدة. في العقد الممتد بين 2005-2014، ومن بين 1032 عقاراً جديداً وعقاقير قديمة باستخدامات جديدة دخلت السوق الفرنسي، على سبيل المثال، فقط ستة وستون مثَّلت إضافة مميزة، بينما أكثر من نصفها اعتبرت «لا شيء جديداً»، و177 تم تقييمها بأنها «غير مقبولة» لمشاكل خطيرة تتعلق بالأمان وانعدام الفائدة منها.

وتبرر الصناعة أيضاً ارتفاع مستوى ربحيتها بادعاء أن تطوير الدواء ينطوي على مخاطر جوهرية. حيث تؤكد الشركات أن واحداً من كل 10000 جزيء يؤدي إلى اكتشاف دواء جديد. وبالرغم من أن ذلك قد يكون صحيحاً، فإن معظم الجزيئات التي تسقط في الاختبار إنما تفعل ذلك في المراحل المبكرة من البحث حيث تكون التكلفة في أدنى مستوى. إن رقم 2.6 مليار دولار المتداول باعتباره تكلفة تقديم دواء جديد للسوق يأتي من بيانات سرية وبناءً على حسابات قائمة على افتراضات محل شك. فإذا كانت البحوث الدوائية على هذا القدر من الخطورة، فإن المرء ليتوقع أن ثروات الشركات سوف تتعرض لتغيرات من وقت لآخر. لكن على العكس، منذ 1980، كل الشركات الكبيرة كان أداؤها المالي جيداً. كما أشار ستانلي فينكلشتين، طبيب، وبيتر تيمين، اقتصادي، كلاهما من معهد ماساتشوتس للتكنولوجيا، إلى أنه «بصرف النظر عن عدد المرات التي حذر فيها محللو الصناعة من أن انتهاء مدة الاحتفاظ ببراءة الاختراع سوف يؤدي لإفلاس هذه الشركة أو تلك، فإن هذا لم يحدث».

بالرغم من استمرار المستوى المبهر للأرباح، إلا أن الصناعة تتعرض لأزمة ناتجة عن ثلاثة أسباب: حلول تواريخ انتهاء براءات الاختراع الذي كان من المتوقع أن يؤدي إلى تراجع في الأرباح بحوالي 75 مليار دولار في الفترة من 2010-2015، قلة عدد الأدوية الجديدة المكتشفة، وضغوط على التسعير في عديد من البلدان ومن ضمنها، مؤخراً، الولايات المتحدة. هذه الأزمة تمثل انعكاساً لظهور الأمولة، تحول مركز الثقل في النشاط الاقتصادي من الإنتاج إلى المالية كملمح رئيسي للرأسمالية الحديثة. يشير بيدرو كواتريكاساس من أقسام الفارماكولوجي والطب بجامعة كاليفورنيا في سان دييجو إلى أن «حمَلَة الأسهم وأصحاب الاستثمارات البنكية ومحللي الأسواق الذين يعرفون القليل عن اكتشاف الدواء، يضعون ضغوطاً شديدة على المديرين التنفيذيين ومجالس الإدارات طلباً لعائدات سريعة.»

للحفاظ على جاذبيتها بالنسبة للمجتمع المالي، طورت صناعة الدواء عدة استراتيجيات. لقد استنفد نموذج البحث واسع النطاق في الأمراض الشائعة إمكانياته ما دفع الشركات للتوجه نحو النموذج المتخصص للبحث في مجال الأمراض النادرة، وبوجود عدد أقل من المنتجات المحتملة في أقسام البحث والتطوير (R&D)، من الضروري التأكد من أن المنتجات الجديدة قادرة على اجتياز العملية التنظيمية بشكل كامل، من أجل هذا، عمقت صناعة الدواء علاقتها بوكالات التنظيم من أجل مراوغة أو إفساد الهدف من اللوائح، غالباً بالتواطؤ مع الحكومات. ويعد تمديد زمن احتكار بيع المنتجات هو السبيل الرئيسي للصناعة من أجل الإبقاء على حياتها، هذا يؤدي إلى حقوق ملكية فكرية أقوى، في كل من العالم المتقدم والدول النامية التي تمثل مواقع بازغة للنمو. ومع دنو خطر السيطرة على الأسعار، فإن السبيل الآخر لزيادة العوائد هو زيادة عدد الروشتات المكتوبة لكل من الأدوية الموجودة والجديدة. والطريق لتحقيق هذا الهدف هو التحكم في معرفة كيف ومتى يتم وصف الأدوية. إن القادم في هذه الورقة يستكشف النقاط الأربع التالية: تطوير أدوية متخصصة، إفساد العملية التنظيمية، تقوية حقوق الملكية الفكرية، والتحكم في المعرفة المتعلقة بفوائد وأضرار المنتجات الدوائية.

من العمومية إلى التخصص

حتى أعوام قليلة مضت، كانت الصناعة الدوائية تعمل وفق نموذج يعتمد أساساً على البحث واسع النطاق مجال الأمراض الشائعة، حيث استهدفت تطوير أدوية لعلاج الأمراض المزمنة التي تسود في البلدان المتقدمة، كأمراض القلب أو السكري، وقامت بتسويقها بكثافة على أمل تحقيق مبيعات بمليار دولار سنوياً. بينما تم تجاهل الأمراض التي تنتشر أساساً أو توجد فقط في البلدان النامية، لأن شعوبها لا تمتلك قوة شرائية ذات قيمة. فمن بين 850 منتجاً علاجياً طُرحت للسوق بين 2000 و2011، فقط سبعة وثلاثون منها (ما نسبته 4%) كانت موجهة للنوع الأخير من الأمراض.

مؤخراً، وبسبب استنزاف الأهداف السهلة، تم الانتقال من نموذج البحث واسع النطاق في الأمراض الشائعة إلى نموذج البحث المتخصص في الأمراض النادرة حيث تستهدف الشركات الأسواق الدوائية الصغيرة بعقاقير يمكن بيعها سنوياً بمئات الآلاف من الدولارات للمريض الواحد. في هذا السياق فإن التحديات التي تواجه الصناعة الدوائية تشبه تلك التي تواجهها الصناعات الأخرى الجوهرية للرأسمالية والتي تتطلب إحداث «تمايز في الإنتاج»، وفي هذه الحالة يعني المزيد والمزيد من الأدوية الغالية لأسواق أضيق أكثر فأكثر، لتحقيق النمو المطلوب. في الولايات المتحدة ارتفعت تكلفة العقاقير المعدِّلة لتطور مرض التصلب المتعدد (عقاقير تؤخر تدهور المرض – المترجم) من 8000 – 11000 دولار في المتوسط في منتصف التسعينيات إلى 60000 دولار سنوياً. في 2013، اجتمع 120 من متخصصي السرطان من أكثر من 15 دولة ليشجبوا أسعار أدوية الأورام الجديدة التي وصلت 100,000 دولار أو أكثر سنوياً. إن فكرة تبرير هذه الأسعار بما تتحمله أقسام البحث والتطوير من نفقات يجب أن تنتهي كما يؤكد المدير التنفيذي السابق لشركة فايزر، هانك ماكنيل، والذي قال: «إنها مغالطة أن يتم الاعتقاد أن صناعتنا، أو أي صناعة، تقوم بتسعير المنتج لاسترجاع إنفاق أقسام البحث والتطوير». الأسعار تتحدد بقدرة السوق على تحملها. فكلما أصبح المرضى أكثر يأساً، ارتفع الثمن الذي يمكنهم دفعه للحصول على الدواء.

فساد آليات التنظيم الدوائي

قبل أن تبدأ الشركات في جني الأرباح من الأدوية التي تصنعها، تحتاج هذه الأدوية إلى موافقة على طرحها في الأسواق. يعد هذا اشتراطاً شكلياً في معظم العالم النامي، حيث قدرة التنظيم الدوائي في ثلث الدول قليلة أو منعدمة. حتى في دول كالهند، التنظيم الدوائي غالباً ما كان صورياً، كما حدث في فحص التركيبات ثابتة الجرعة في 2011-12، وهي المنتجات التي تحتوي على اثنتين أو أكثر من المواد الفعالة. مؤخراً ثبت بالبحث أن الشركات استغلت ميزة تهافت المعايير التنظيمية لـ«تبيع عدة ملايين من جرعات الأدوية ثابتة الجرعة التي تضمنت أدوية مقيدة أو محظورة أو لم تحظَ بالموافقة أبداً في بلاد أخرى نظراً لارتباطها بنتائج عكسية خطيرة بما فيها الوفاة».

تم إفساد التنظيم الدوائي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتأثير من صناعة الدواء. يلاحظ كورتني دافيس وجون أبراهام اللذان يُدرِّسان السياسة الدوائية في الكلية الملكية بلندن أن «الثلاثين عاماً الأخيرة شهدت كثرة من الإصلاحات التي تستهدف التحرر من الإجراءات التنظيمية، ظاهرياً بغرض تعزيز الابتكار الدوائي الذي يُعتقد أنه يحقق المصالح الاقتصادية للصناعة والمصالح الصحية للمرضى في نفس الوقت». يمكن إيجاد تفسير لذلك في «نظرية الانحياز للشركات الكبرى». يقول أبراهام:

تسمح «نظرية الانحياز للشركات الكبرى» باحتمالية خلق حالة استباقية قوية نسبياً تشجع عملية التحرر من الإجراءات التنظيمية لصالح البيزنس بالتعاون مع الصناعة.

يؤكد أبراهام أن الصناعة تستطيع التحكم في التنظيم من خلال التأثير ليس فقط على الوكالات المنظمة، بل أيضاً على الحكومة من خلال التكتلات والهبات المالية وأنشطة أخرى، على سبيل المثال العمل على جعل ممثلي شركة الدواء جزءاً من فرق العمل المسئولة عن تشكيل السياسة الكلية للحكومة. والنتيجة النهائية هي أن الدولة تدعم بنشاط الأهداف التنظيمية الأوسع للصناعة.

تتجلى «نظرية الانحياز للشركات الكبرى» بوضوح في التنظيم الدوائي من خلال اعتماد رسوم الشركات المستخدِمة لدفع ثمن المهام التي تؤديها سلطات التنظيم الدوائي كهيئة الأغذية والدواء الأمريكية (FDA) ووكالة الأدوية الأوروبية (EMA) ووكالة تنظيم الدواء ومنتجات الرعاية الصحية بالمملكة المتحدة (UK MHRA). كانت القيود المفروضة على موارد هيئة الأغذية والدواء الأمريكية (FDA) هي الدافع الرئيسي وراء اعتماد رسوم الشركات المستخدِمة في الولايات المتحدة. التردد المتواصل من قبل الكونجرس حول زيادة ميزانية الـ (FDA) أدى بشكل قاطع لدفع الهيئة للتخلي عن موقفها السابق المعارض لتلقي رسوم استخدام من الصناعة الدوائية. كجزء من قانون عام 1992 الخاص برسوم استخدام الأدوية المقررة بوصفة طبية (PDUFA)، وافقت صناعة الدواء على العمل به بشرط أن تكون الرسوم إضافة للمخصصات التي يقرها الكونجرس، وأن يتم توظيف المال حصراً لزيادة فاعلية وسرعة مراجعة الأدوية الجديدة ذات العلامة التجارية. ونتيجة لهذا، لم يتم السماح لـ (FDA) باستخدام أياً من هذه الأموال الإضافية لمراقبة أمان المنتجات التي توافق عليها إلا في 2007.

يعاد تفعيل قانون رسوم استخدام الأدوية المقررة بوصفة طبية (PDUFA) كل خمس سنوات، التجديد الأخير كان في 2012. أحد الملامح الرئيسية للقانون (PDUFA) أنه يتضمن أحكاماً تلزم الـ FDA بإدخال تحسينات مستمرة على نسبة الموافقات على طلبات الأدوية الجديدة في فترات زمنية معينة. فمع براءات اختراع محدودة المدة، كلما امتد وجود الأدوية في السوق، تعاظم العائد الذي تجنيه الشركات التي تسوقه. إن الـ (PDUFA) يعني زيادة أرباح الشركات عبر تسريع عملية طرح الأدوية الجديدة في السوق.

قبل عام 1989، تلقت وكالة مراقبة الأدوية (سلف وكالة تنظيم الدواء ومنتجات الرعاية الصحية MHRA) في المملكة المتحدة 65% من تمويلها من رسوم الاستخدام و35% من الضرائب. لكنها في هذا الوقت أصبحت تحصل على 100% من تمويلها من رسوم المستخدِم كانعكاس لفلسفة حكومة تاتشر المحافظة حول ضرورة أن يصبح العلم «أكثر استجابة» لاحتياجات الصناعة.

وفي الاتحاد الأوروبي ككل، يبدو أن فلسفة رسوم المستخدِم تم قبولها بعد أن دشنتها الوكالة. وقد أصبح السؤال بعدها: ما الأولويات التي تتم خدمتها، أولويات الجمهور أم أولويات الصناعة؟ تشير الأدلة إلى أن رسوم الاستخدام لطالما كانت لها انعكاسات سلبية على السلامة العامة.

في الولايات المتحدة، يعد الزمن القياسي لمراجعة طلب تسجيل دواء جديد ثلاثمائة يوم، لكن بموجب الــ PDUFA، يجب على الـ FDA الانتهاء من 90% من الطلبات الجديدة خلال هذا الإطار الزمني. إذا لم يتم تحقيق هذا الهدف فإن تجديد رسوم المستخدِم قد يكون مهدداً، ما يعني حرمان الوكالة من نسبة أساسية من عوائدها. عملياً، يبدو أنه كلما اقتربت الـ FDA من الموعد الأخير لاتخاذ القرار، فإنها تتساهل حيال معايير تقييم الأمان. وبالمقارنة بالأدوية التي تمت الموافقة عليها في أوقات أخرى، فإن احتمال سحب الأدوية التي أجيزت خلال شهرين قبل انتهاء المهلة لأسباب تتعلق بأمانها كان أكبر بخمس مرات، كما أن احتمال تمييزها بتحذير الصندوق الأسود، الذي يعد تحذير الأمان الأكثر خطورة الذي يمكن أن تطلبه الـ FDA، كان أكبر بـ 4.5 مرة تقريباً.

في الاتحاد الأوروبي، حين يتم تقديم طلب اعتماد دواء جديد لوكالة الأدوية الأوروبية EMA، تكون المنظمة مسئولة عن اختيار ما يُسمى بالمقرِّر والمقرِّر المشارك، الذين هم، وكالات التنظيم الوطنية التي سوف تتولى التقييم الفعلي لطلب الدواء الجديد. ولأن معظم وكالات التنظيم في دول الاتحاد الأوروبي تتلقى تمويلها إلى حد كبير من رسوم المستخدِم، فإنه دائماً ما يكون بينها منافسة على أدوار المقرِّر والمقرِّر المشارك من أجل الحصول على دخل.

تلك المنافسة تضع الوكالات الوطنية تحت ضغط كبير من أجل التكيف مع أو التفوق على الإطار الزمني للموافقات على الأدوية والمقدر بـ 210 أيام، حيث تبحث الشركات عن معدل موافقات عالٍ، وهو واحد من المعايير الرئيسية التي تعتمد عليها لترشيح المقرِّر والمقرِّر المشارك. من بين خمس عشرة شخصية تنظيمية من ألمانيا والسويد والمملكة المتحدة قابلها أبراهام وجراهام لويس من جامعة يورك، خمسٌ منها وافقت على أن هذا الإطار الزمني يعد تهديداً للصحة العامة، وخمس آخرون اعتقدوا أن هذا التهديد محتمل بالفعل.

في نفس السياق، انتهت لجنة شكَّلها مجلس العموم البريطاني للبحث في تأثير الصناعة الدوائية إلى أن «وكالة تنظيم الدواء ومنتجات الرعاية الصحية MHRA مثل العديد من هيئات التنظيم الدوائي، ممولة بشكل كامل من الرسوم التي يدفعها هؤلاء الذين يستهدفهم التنظيم. غير أنها، عكس كثير من المنظمين، تتنافس مع الوكالات الأوروبية الأخرى للحصول على دخلها من الرسوم. وقد أدى هذا الوضع إلى مخاوف بشأن احتمال أن تفقد رؤيتها لضرورة حماية وتحسين الصحة العامة فوق أي شيء آخر بينما هي تسعى لكسب دخلها من الرسوم التي تدفعها الشركات».

هل الملكية الفكرية «حق»؟

حقوق الملكية الفكرية هي المصدر الرئيسي لزيادة عائدات وأرباح الشركات الدوائية. في السياق الدوائي المعاصر، تعد براءات اختراع المنتجات نفسها والبيانات التي تولِّدها الشركات أثناء إجراء التجارب السريرية قبل التسويق لتقييم أمان وفاعلية منتجاتها هي موضوعات حقوق الملكية الفكرية الأساسية. كلما كانت حقوق الملكية الفكرية في الدولة أقوى، استطاعت الشركات الحفاظ على احتكارها لمنتجاتها لمدة أطول، وازدادت الأرباح التي تجنيها منها. لذا، فمن غير المفاجئ أن نجد الصناعة الدوائية تذهب إلى أبعد مدى ليس فقط لحماية حقوق الملكية الفكرية بل أيضاً لتقويتها.

واحدة من التجليات المبكرة لهذا الهوس بحقوق الملكية الفكرية كانت التكتل الذي قادته الصناعة وأدى إلى إصرار الولايات المتحدة على أن تقوم كندا بتفكيك نظامها للترخيص الإجباري في مقابل توقيع الاتفاق الأمريكي-الكندي المبدئي للتجارة الحرة في 1987 ثم الاتفاق الأمريكي الشمالي للتجارة الحرة في 1994. في ذلك الوقت، كان الترخيص الإجباري يقلص الإنفاق الكندي الإجمالي على الدواء بحوالي 15%. (تسمح الرخصة الإجبارية لمُصنِّع عام (Generic Product دواء مثيل يحتوي نفس المادة الفعالة وله نفس استخدامات منتج الشركة صاحبة العلامة التجارية Brand Name Product صاحبة الاختراع – المترجم) بإنتاج عقارٍ ما حتى وإن كانت براءة اختراعه لا زالت سارية.)

في الولايات المتحدة، تمثَّل آخر انتصارات حقوق الملكية الفكرية الأقوى في حق التسويق الحصري لمدة 12 عاماً لمنتجات حيوية، وهي التي يتم تصنيعها من خلايا حية. هذه الأعوام الاثنا عشر جاءت على هيئة أربعة أعوام لحق حماية البيانات، وثمانية أعوام إضافية لحق الاستخدام الحصري للمنتجات الحيوية. هذا يعني أن الـ FDA لن توافق على مثائل حيوية – المكافئ للمنتَج المثيل Generic Product – في خلال هذه الأعوام الثمانية. بشكل ما، يمكن لحماية البيانات أن تكون أكثر أهمية للشركات من براءات الاختراع، حيث إنه لا يمكن منازعتها على حصانة البيانات أمام النظام القضائي بنفس طريقة براءات الاختراع.

ومع أن المنتجات الحيوية تمثل أقل من 1% من الروشتات المكتوبة في الولايات المتحدة، فإنها تمثل ما نسبته 28% من الإنفاق على الدواء، وهذا الرقم سوف يرتفع في المستقبل. على سبيل المثال، Cerezyme، علاج لمرض جوشيه Gaucher disease، مرض وراثي نادر ناتج عن نقص في بعض الإنزيمات (من أعراضه حدوث تجمعات دهنية على بعض الأعضاء كالكبد والطحال يؤدي لخلل في وظائفهم – المترجم)، تكلفته 200,000 دولار للمريض الواحد سنوياً.

دولياً، وبدعم قوي من الصناعة الدوائية، ضغطت حكومة الولايات المتحدة لضمان إدراج آلية فض المنازعات بين المستثمر والدولة (ISDS) في اتفاقيات التجارة الدولية. تسمح ISDS للشركات بمقاضاة الحكومات. وقد استخدمت Eli Lilly (شركة دواء أمريكية –المترجم) أحكام آلية فض المنازعات ISDS في اتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية لمطالبة الحكومة الكندية بـ500 مليون دولار بعد أن ألغت المحاكم الكندية براءات الاختراع لاثنين من أدوية Lilly. وبالرغم من التأثير الواضح لأحكام حقوق الملكية الفكرية في اتفاقيات التجارة على الوصول للدواء في الدول المتطورة حيث تؤدي إلى تأخير وصول المثائل Generics للسوق، فإن العواقب على الدول النامية تكون أكثر تدميراً. على سبيل المثال، بموجب القوانين الحالية لبراءات الاختراع، 68% من مرضى فيروس نقص المناعة المكتسب – HIV في فيتنام يتلقون العلاجات المضادة للفيروسات التقهقرية – Antiretroviral، لكن تلك النسبة كانت لتتراجع إلى 30% بموجب اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تم تعطيلها. (اتفاقية ضمت اثنتي عشرة دولة تمت صياغتها في أكتوبر 2015 وتوقيعها في 2016 لكنها لم تدخل حيز التنفيذ – المترجم).

يمتد تاريخ الضغوط التي مارستها الصناعة الدوائية من أجل حقوق ملكية فكرية أقوى لأكثر من ثلاثة عقود، بدأت بجولة المحادثات التجارية في أوروجواي والتي نتج عنها في النهاية قيام منظمة التجارة العالمية. لعبت فايزر ومديرها التنفيذي في ذلك الوقت، إدموند برات، دوراً رئيسياً في إقناع حكومة الولايات المتحدة بجعل حقوق الملكية الفكرية موضوعاً أساسياً في المحادثات.

والنتيجة أنه في 1994 تم الاتفاق على الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية – التريبس (TRIPS)، التي تطلبت معايير موحدة لبراءات الاختراع لكل البلاد الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، ما يعني براءات اختراع لمدة عشرين عاماً للمنتجات الدوائية وتقييد استخدام الترخيص الإجباري كوسيلة لتسريع ظهور المثائل – Generics.

كان هدف الصناعة الدوائية هو أن تتبنى كل الدول نفس حقوق الملكية الفكرية المطبقة في الولايات المتحدة، بصرف النظر عن مستوى تطورها وقدرتها على توفير الدواء لسكانها بسعر يمكن تحمله. معظم الدول لم تتبنَّ الحماية الكاملة لبراءات الاختراع حتى السبعينيات أو بعدها حين وصل الناتج المحلي الإجمالي (GDP) للفرد عشرات الآلاف من الدولارات، بينما طالبت اتفاقية التريبس TRIPS الدول النامية التي لا يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي مئات أو آلاف قليلة من الدولارات بتطبيق نفس المعايير.

نظراً لقوة حقوق الملكية الفكرية، واجهت العديد من الدول النامية بحلول عام 2000 موقفاً وصلت فيه تكلفة العلاج الثلاثي لفيروس نقص المناعة المكتسب 10,000 دولار للشخص الواحد سنوياً، في حين كانت القدرة على الحصول على مثائل رخيصة الثمن على وشك الانتهاء في المستقبل القريب.

في مواجهة زيادة معدلات الإصابة بـفيروس نقص المناعة HIV وهذا الارتفاع في أسعار العلاج، مررت حكومة جنوب أفريقيا في أواخر التسعينيات قانون تعديل مراقبة الأدوية والمواد ذات الصلة، والذي سمح بإحلال مثائل لأدوية انتهت براءات اختراعها واستيراد نسخة غير مزيفة لأدوية ما زالت براءات اختراعها سارية من دولة أخرى بدون الحصول على تصريح من صاحب حق الملكية الفكرية. رداً على هذا، خلال عام 1998، قامت تسع وثلاثون شركة تصنيع دوائي، بدعم من حكومة الولايات المتحدة (خلال إدارة كلينتون) والمفوضية الأوروبية، بمقاضاة حكومة جنوب أفريقيا مدعين أن التشريع قد انتهك كلاً من اتفاقية التريبس TRIPs ودستور الدولة. في النهاية، في مواجهة معارضة شعبية واسعة، سحبت حكومة الولايات المتحدة دعمها للقضية، وبدون الدعم الأمريكي تنازلت الشركات عن القضية.

منذ ذلك الوقت، استخدمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اتفاقية التريبس TRIPS كحد أدنى لمعايير حقوق الملكية الفكرية المقبولة وحاولت تعضيد قوتها في اتفاقيات التجارة المتتالية بإدراج أحكام جديدة أكثر تشدداً. بعض النتائج تمكن رؤيتها في تمديد براءات الاختراع لمدة أطول (يمكن تمديد براءات الاختراع لأكثر من عشرين سنة) وفي إزالة الاعتراض على براءات الاختراع قبل منحها. وكما كانت العواقب فيما يخص إمكانية الحصول على أدوية نقص المناعة المكتسب HIV في فيتنام، تؤدي الأحكام المتشددة لحقوق الملكية الفكرية في اتفاقيات التجارة الحرة إلى تقييد كبير لإمكانية الحصول على الأدوية المصروفة بوصفة طبية.

تقدم تايلاند مثالاً من عدة أمثلة على الكيفية التي تقوم بها الحكومات والصناعة بإرهاب الدول النامية باستخدام حقوق الملكية الفكرية. بسبب الارتفاع الكبير لأسعار الدواء وضرورة الحصول على أدوية حيوية، أصدرت تايلاند في 2006 رخصة إجبارية لتصنيع ليبونافير/ريتونافير lopinavir/ritonavir، تركيب دوائي لعلاج فيروس نقص المناعة HIV. وقد كتب المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي لوزير التجارة التايلاندي شاكياً من الخطوة. وردت شركة آبوت Abbott، المصنعة للوبينافير/ريتونافير liponavir/ritonavir، بسحب كل طلبات الأدوية الجديدة من هيئة الغذاء والدواء التايلاندية بما فيها النسخة الثابتة حرارياً المطلوبة بشدة من لوبينافير/ريتونافير.

حين يتم إنتاج أدوية مثيلة Generics من خلال التراخيص الإجبارية، تسارع الشركات صاحبة العلامة التجارية بإدانة هذا الإجراء. وقد أشار مارين ديكر، المدير التنفيذي لشركة باير Bayer، إلى الترخيص الإجباري باعتباره «محض سرقة» على الرغم من أنه شرعي تماماً بموجب اتفاقية التريبس TRIPS. بالإضافة إلى ذلك، حين كان ديكر يتحدث عن المنتج الجديد شديد الفاعلية سوبوسبوفير (سوفالدي) sobosbuvir الذي أنتجته شركته لعلاج الالتهاب الكبدي الوبائي سي، علق قائلاً:

نحن لم نطور هذا الدواء للسوق الهندي، كي نكون صادقين. أعني أننا طورنا هذا المنتج للمرضى الغربيين القادرين على دفع تكلفته، بكل أمانة.

التحكم في المعرفة

يمكن للتجارب السريرية التي تفشل في البرهنة على الفاعلية أو تثير مخاوف خطيرة بخصوص الأمان أن تؤثر بشكل درامي في مبيعات المنتجات. في يوليو 2002، توصلت التجارب السريرية التي أجرتها مبادرة صحة المرأة إلى أن مركب الإستروجين/البروجستين المستخدم في العلاج الهرموني البديل (HRT) (علاج لتخفيف أعراض ما بعد انقطاع الطمث لدى النساء – المترجم) يؤدي لزيادة احتمال الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وسرطان الثدي لدى النساء بعد انقطاع الطمث. بحلول يونيو 2003، تراجعت الروشتات التي تحتوي عقار Prempro، مركب الإستروجين/البروجستين الأكثر مبيعاً، بنسبة 66% في الولايات المتحدة.

لتجنب هذه السيناريوهات وضمان الزيادة المستمرة للعائدات، انتقلت الشركات من التحكم في تطوير أدوية جديدة إلى التحكم في المعلومات حول هذه الأدوية، بما يضمن لها أن رسالتها هي تحديداً التي تصل للأطباء والمرضى. تمول شركات الدواء كل التجارب السريرية ما قبل التسويق تقريباً، سواء تلك التي تتم على أساسها الموافقة على دواء جديد أو استخدام جديد لدواء موجود بالفعل. تلك التجارب هي أساس المعلومات عن الدواء وبالتالي فإن نتائجها شديدة الأهمية. كممولين، تسيطر الشركات على كل الجوانب المتعلقة بتلك التجارب، بدءاً من تصميمها الأولي مروراً بطريقة إجرائها وتحليل نتائجها، وكيف سيتم إبلاغ وكالات التنظيم الدوائي – FDA مثلاً – بها، هل سيتم نشرها أم لا، وكيف، انتهاءً بكيفية تقديمها للأطباء.

الانحياز للشركات يبدأ من تصميم التجارب. حين يكون الدواء الجديد تحت الاختبار فإنه تتم مقارنته بدواء آخر موجود بالفعل في السوق، من الممكن اختيار جرعات أقل أو أعلى من الدواء المقارن، لتقليل فاعليته أو زيادة أعراضه الجانبية. في الثمانينيات، كانت الأسباب الأكثر شيوعاً لإيقاف التجارب في المراحل الأخيرة من البحث، بما فيها علاجات السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية وعدوى حديثي الولادة، هو الاعتبارات المالية (43%) مقارنة بالفاعلية (31%) والأمان (21%).

تضمنت الأسباب المالية محدودية السوق المستهدفة، عدم كفاية العائد المتوقع على الاستثمار، وتغيير أولويات البحث في أعقاب عملية دمج للشركات. مع ذلك، فإن إيقاف التجارب لأسباب مالية فقط يعد خرقاً للمادة 6 من إعلان هلسنكي، المعيار المعترف به دولياً لإجراء البحوث السريرية. تنص المادة السادسة على أنه «في البحوث الطبية التي ينخرط فيها البشر، فإن سلامة الفرد موضوع البحث يجب أن تكون لها الأولوية على كل المصالح الأخرى». إن إيقاف التجارب قبل اكتمالها فقط لأسباب مالية إنما يعني بكل تأكيد أن «تغيير خطط العمل ربع السنوية أو تغيير المديرين التنفيذيين» له الأولوية على «الإجراء المسئول للبحوث الطبية التي تتضمن مهمة اجتماعية أو مسئولية أخلاقية التي تتجاوز خطط العمل ربع السنوية أو تغيير المديرين التنفيذيين».

هناك دليل على أن الشركات لا تقدم كل البيانات التي توفرها التجارب السريرية للسلطات التنظيمية وأنه يتم تقديمها بطريقة مضللة. لقد فشلت شركة ميرك في تقديم بيانات معدلات الوفاة في إطار زمني لـ FDA بعد تجربتين لاستخدام مادة Rofecoxib في مرضى آلزهايمر أو الاعتلالات الإدراكية الأخرى. بينما قدمت شركة جلاكسوسميثكلاين لـ FDA بيانات عن عقار Salmetrol لعلاج الربو تقلل بشكل واضح من الأخطار المتعلقة باستخدام العقار.

واحد من الأمثلة المعروفة جيداً للطريقة التي تغير بها الشركات تفسير التجارب بين وقت إبلاغ الـ FDA بنتائجها ووقت نشر هذه النتائج بالفعل، كانت الدراسة التي اختبرت فاعلية عقار Celecoxib، من مجموعة مضادات الالتهاب غير الاستيرودية NSAIDS ومسكن للألم من إنتاج شركة فايزر. التجربة المنشورة التي اعتمدت على بيانات ستة شهور، أكدت الأثر الوقائي لـ Celecoxib والذي يعطيه ميزة على مضادات الالتهاب التقليدية في تقليل خطر نزيف المعدة. مع ذلك، فإن الدراستين اللتين ضمهما المنشور الخاص بالدواء استمرتا فعلياً لمدة اثني عشر وستة عشر شهراً. وعبر 12-16 شهراً، لم يكن هناك اختلاف في الآثار الجانبية على الجهاز الهضمي بين المرضى الذين استخدموا Celecoxib وهؤلاء الذين استخدموا مضادات الالتهاب التقليدية.

إن كتابة الظل في الصناعة الدوائية تعني عملياً أن الشركات أو من يعمل باسمها، تستأجر كتَّاباً طبيين ليكتبوا خطاباً أو مقالاً لمجلة علمية بناءً على البيانات التي تملكها الشركة. ثم تسعى الشركة لدى باحث أكاديمي يوافق على وضع اسمه على المقال أو الخطاب، عادة مقابل المال أو من أجل القيمة الأدبية لامتلاك منشور علمي. في النهاية حين تتم طباعة المقال، لا يعلم أحد بالدور الذي لعبه كاتب الظل في إنتاجه. لقد جندت شركة ويث كُتَّاب ظل للدفاع عن ملياري دولا مبيعات سنوية جنتها من عقاريها Premarin و Prempro المستخدمين كعلاج هرموني بديل، قبل وبعد منشور مبادرة صحة المرأة الذي أشار إلى أن أخطار أدوية العلاج الهرموني البديل تفوق فوائدها. هذا وتؤكد وثائق المحكمة أن كتاب الظل لعبوا دوراً رئيسياً في إنتاج ست وعشرين ورقة علمية دعمت استخدام العلاج الهرموني البديل. لم تكشف المقالات عن دور ويث في إطلاق وتمويل هذا العمل.

هناك أمثلة عديدة على النشر الانتقائي لتجارب كانت نتائجها سلبية. فمن بين سبع وثلاثين دراسة عن مضادات الاكتئاب اعتبرتها الـ FDA إما سلبية أو موضع تساؤل، اثنتان وعشرون منها لم تُنشر أبداً. الفشل في نشر البيانات قد يؤدي إلى المبالغة في تقدير فاعلية المنتجات والتقليل من شأن أضرارها. البيانات المنشورة بالغت في تقدير فاعلية عقار REBOXETINE المضاد للاكتئاب مقارنة بالعينة الوهمية PLACEBO حيث قدرتها بـ 115% وكذلك قللت من شأن أضراره.

توضح الوثائق الداخلية لشركة جلاكسوسميثكلاين الاختلافات بين النتائج الفعلية لدراسة تناولت أمان وفاعلية عقار PAROXETINE المضاد للاكتئاب في المراهقين، والطريقة التي تم بها تقديم البيانات في النموذج المنشور. ادعى المنشور أن «عقار PAROXETINE جيد التحمل وفعال لعلاج الاكتئاب الحاد في المراهقين». في المقابل، واعتماداً علي بروتوكول المردودات الرئيسية والثانوية (بروتوكول لتقييم فاعلية الدواء يعتمد على تقسيم المردودات المتوقعة إلى واحدة رئيسية وأخرى ثانوية – المترجم) «لم يكن هناك اختلاف واضح في الفاعلية بين الـ PAROXETINE والعينة الوهمية على المردودين الرئيسيين أو المردودات الستة الثانوية» كما تم ربط الـ PAROXETINE بأضرار من ضمنها زيادة في الأفكار الانتحارية.

أخيراً، تدرك الشركات أنها تواجه نقصاً في المصداقية حين تقدم أدلة علمية على أفضلية منتجاتها للأطباء مباشرة. ولتجنب هذه المشكلة، توظف الشركات أطباء وباحثين مشهورين باعتبارهم «قادة رأي رئيسيين». من المهم أن تحافظ الشركات على وهم أن «قادة الرأي الرئيسيين» مصادر مستقلة للمعلومات للحفاظ على ثقة الأطباء الذين يستمعون إلى عروضهم التقديمية. ومع ذلك، فإن قيمة هؤلاء القادة العلميين بالنسبة للشركات تصبح محل شك تحديداً حينما يبدءون بالتصرف بشكل مستقل ويحيدون عن الرسائل التي تروجها الشركات. وقد كتب أحد هؤلاء سلسلة من التقارير العلمية حول دواء معين تصنعه شركة لطالما تحدث باسمها، وقد وضع المنتج في موضع أقل أفضلية من دواء يصنعه المنافس. وبمجرد أن أصبحت تلك التقارير متاحة للجمهور، انخفضت الدعوات التي تلقاها للتحدث من أربع لست مرات شهرياً إلى صفر.

من الممكن بناء عالم أفضل

في ورقة غير منشورة، يلاحظ الاقتصادي البريطاني آلان ماينارد أن:

تتوقع النظرية الاقتصادية أن المؤسسات سوف تستثمر في فساد قاعدة الأدلة حيثما تتخطى الفوائد حجم النفقات. إذا كان الكشف عن التلاعب سيكلف المنظمين غالياً، فإنه يمكن توقع إفساداً واسعاً لقاعدة الأدلة. الاستثمار في التلاعب بقاعدة الأدلة، سريرياً واقتصادياً، سوف يكون تفصيلياً وشاملاً في الصناعة الدوائية، ليغطي كافة جوانب عملية التقييم. مثل هذا الاستثمار من المرجح أن يكون واسعاً لأن الخطابات العلمية والسياسية ذات طبيعة تقنية ومفهومة لفئة قليلة ما يجعل كشفها صعباً ومكلفاً.[1]

مع أن الصناعة الدوائية تبدو خصماً لا يُقهر، فالأزمة أيضاً أنه فقط عبر مواجهتها هناك فرصة لتبني طرق جديدة لطرح الأدوية في الأسواق بأسعار معقولة وتلبي الاحتياجات الطبية الحقيقية بدلاً من البحث عن تعظيم الأرباح. يوفر معهد ماريو نيجري في إيطاليا – تأسس في بدايات الستينيات – طريقة بديلة لإجراء البحوث الفارماكولوجية. وهو على استعداد لقبول الأموال من الشركات الدوائية لإجراء البحوث، لكنه يصر على صيانة استقلاله بتصميم التجارب وإجرائها وجمع وتحليل البيانات وتسجيل النتائج بدون تدخل الجهة الممولة. بالإضافة إلى ذلك، يرفض المعهد تسجيل أي براءات اختراع ولا يطالب بأي شكل من أشكال حماية حقوق الملكية الفكرية ويوفر جميع البيانات مجاناً. وأخيراً، إن المعهد يرفض أي تمويل في حال أجمع علماؤه على أن النتائج لن تؤدي لأي تقدم على مستوى الصحة العامة.

ومع أن نموذج معهد ماريو نيجري يستحق الاقتداء به على نطاق واسع، فإنه ما زال يتيح للشركات اختيار الأدوية التي يتم التركيز عليها وأسعارها النهائية. وللتعامل مع هذه القضايا، كانت هناك اقتراحات مطروحة منذ ما يزيد على عقد من الزمن لتحفيز أقسام البحث والتطوير نحو منتجات تلبي الاحتياجات الطبية الحقيقية بدلاً من السعي فقط نحو تعزيز الأرباح، وربط العوائد التي تجنيها الشركات بالقيمة العلاجية للمنتجات وليس بأسعارها. قدم السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز قانون تمويل جائزة الابتكار الدوائي الذي كان ليفصل حوافز البحث والتطوير عن أسعار الدواء العالية عبر جوائز تحفيز الابتكار. «يمكن للحوافز أن تستهدف الأهداف الرئيسية مثل المنتجات الموائمة لأولويات البحث من منظور صحي».

بل ما هو أكثر من ذلك، كان ما اقترحه آرثر شافر، مدير مركز الأخلاقيات المهنية والتطبيقية بجامعة مانيتوبا، حول «فرضية المصادرة». وهي تعني أن منظمة كالمعهد الوطني للصحة أو ما يقابلها في البلدان الأخرى سوف يكون عليها تنظيم وإدارة التجارب السريرية والبيانات الناتجة عنها، على أن يأتي تمويلها من الضرائب التي تدفعها الصناعة الدوائية و/أو عائدات الضرائب العامة. «لن يكون مسموحاً لشركات الدواء الدفع مباشرة للعلماء نظير تقييم منتجاتهم، بدلاً من ذلك، فإن العلماء سوف يعملون لدى وكالة الاختبار».

دين بيكر، مؤسس مشارك لمركز البحوث الاقتصادية والسياسية في واشنطن، يذهب إلى ما هو أبعد حيث يجادل حول نظام للتجارب السريرية ذي تمويل عام، بينما تتم تغطية تكلفة التجارب في الولايات المتحدة من خلال أسعار الأدوية التي يخفضها برنامج التأمين الدوائي لكبار السن (ميديكير) وغيره من مشروعات الرعاية الصحية العامة.

بعض أنظمة الصحة الوطنية حققت نجاحاً نسبياً في الحد من الإنفاق الإجمالي على الدواء من خلال آليات متنوعة. تضع كندا حداً أقصى للسعر التمهيدي للأدوية ذات براءات الاختراع الجديدة. والنتيجة أن أسعار الأدوية ذات العلامة التجارية أقل بنحو 50% في المتوسط عن الأسعار في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن المعيار الذي تستخدمه كندا هو متوسط السعر في سبع دول أخرى، بعضها من الأعلى في العالم على مستوى الأسعار، ويعد هذا واحداً من الأسباب التي تجعل كندا البلد الرابع عالمياً في النفقات على الدواء بـ 713 دولاراً للفرد الواحد.

من خلال نظام الامتيازات الدوائية الذي يغطي جميع السكان، تناقش أستراليا الأسعار على نطاق وطني. وإذا لم تدرج الأدوية في الكتيب الحكومي للأدوية فإن مبيعاتها تتأثر بوضوح. لذا فإن أستراليا قادرة على الوصول بأسعار الأدوية ذات العلامة التجارية إلى مستوى أقل بنسبة 9-10% من نظيرتها في كندا. بينما تعتبر نيوزيلندا أكثر قوة في هذا المجال حيث تستخدم نظام المزادات التنافسية للأدوية المثيلة، والتسعير المُقارن للأدوية ذات العلامة التجارية. يعتمد التسعير المقارن على تصنيف الأدوية في مجموعات تضم كل منها الأدوية ذات الخصائص العلاجية المتكافئة بالنسبة لمشكلة مرضية معينة، وتشتري الحكومة الدواء الأقل سعراً في المجموعة. باستخدام كلتا المقاربتين وغيرهما، استطاعت نيوزيلندا خفض إنفاقها على الدواء في 2012 إلى 777 مليون دولار نيوزيلندي بدلاً من 2.34 مليار دولار نيوزيلندي متوقعة على أساس الإنفاق الدوائي عام 2000.

ومع ذلك، وبرغم النجاحات المتحققة في السيطرة على الإنفاق الإجمالي، لا توجد دولة متطورة واحدة لديها الرغبة في تحدي نظام الملكية الفكرية الراهن، والذي يؤمن احتكار الدواء لمدة تصل لعشرين عاماً ويمنع ظهور مثائل Generics رخيصة الثمن في السوق. كل أجهزة التنظيم الدوائي يتم تمويلها من رسوم المستخدِم بدرجات متنوعة، لترسيخ نظام يجعل المنظمين يستشعرون احتياجات الصناعة الدوائية حين يتعلق الأمر بإجازة دواء جديد. وأخيراً، فإن التجارب السريرية لا زالت تحت سيطرة شركات الدواء على مستوى العالم. بينما لا زال التواصل بشأنها مع ممارسي الخدمة الطبية والمستهلكين سيئ التنظيم، حتى في بلاد كنيوزيلندا، ما يعني أن المعلومات حول الدواء تبقي محدودة بالنسبة للأطباء والمرضى على السواء.

شركات الدواء شديدة القوة نظراً لثروتها. وهي تكتسب تلك القوة بالتواطؤ الفعال من قبل الهيئات التنظيمية والحكومات التي تراقب تلك الهيئات. إن اعتماد رسوم المستخدِم كان يعني أن القيم التجارية حلت محل الصحة العامة على قائمة أولويات منظمات كـ FDA. وخلال هذا، تتم إجازة الأدوية بأدلة علمية ضعيفة، والنتيجة أدوية منخفضة الجودة ومزيد من مشاكل الأمان المرتبطة بالأدوية التي يتم تسويقها. زيادة قوة حقوق الملكية الفكرية من خلال اتفاقات التجارة الدولية والثنائية تساعد في حماية أرباح المؤسسات، ولكنها تعني أيضاً، على مستوى عالمي، تقييد الوصول للأدوية الضرورية خاصة بالنسبة للبلدان النامية.

أخيراً، الصناعة قادرة على احتكار المعرفة فيما يتعلق بقيمة المنتجات الدوائية، ليس فقط على حساب ما يعرفه الأطباء، بل الأكثر أهمية، بما فيه من ضرر لصحة الناس. في نفس الوقت، وبينما تكتشف الصناعة وسائل التعامل مع أزمتها الداخلية، الأزمة التي تعد جوهر التنظيم الرأسمالي للصناعة الدوائية، هناك أيضاً اقتراحات جدية للحد من قوتها ولضمان تطوير وتسعير الأدوية لتلبية الاحتياجات الصحية الحقيقية وليس لتحقيق أرباح متعاظمة على الدوام.[2]


المراجع
  1. Alan Maynard, personal communication with the author, 2001
  2. As of this writing, two physician organizations, one in the United States (Physicians for a National Health Program) and one in Canada (Canadian Doctors for Medicare), have developed a comprehensive strategy to restrict the power of the pharmaceutical industry and to improve access to medications.