تعتبر الدهشة هي الأصل في الفلسفة والتفلسف، جعلت الإنسان يدرك الأشياء ويتأمل في حقيقة الوجود والموجودات، كما تستدعي الدهشة درجة عالية من اليقظة والتأهب، انتباه مشدود نحو إزالة الألغاز عن الأشياء، وتنزع عنها ألفتها وبساطتها، دهشة من الأشياء التي لا تُقدِّم نفسها كيقين، مما يزيد من الشك في بلوغ الحقيقة، هذا يعني أن كل كائن يصيبه القلق من العالم والحياة والمصير يزداد تساؤلًا في نزع الغرابة عن كل ما هو غير مألوف، وكل ما لا يفصح عن ذاته في شكل يقين.

لقد حاول الفيلسوف إزالة اللبس والغموض عن الأشياء، عندما وجّه الفكر نحو الأصل والحقيقة، من خلال القول بالمبدأ الذي انبثقت منه الأشياء، وبناءً على القول في الثبات والتغير، هذا الفكر المُتقد، وهذه الحكمة الكبيرة في التأمل والكشف عن خفايا القوانين المتحكمة في الظواهر، انتشلت التفكير الإنساني من هيمنة الأساطير والحكايات الخيالية، ومغامرات الآلهة إلى تشكيل تفكير يهتم بالطبيعة والوجود، ويقلل من التفكير العاطفي والوجداني أو سطوة الحكايات في تفسير الطبيعة بعلل غير منطقية.

فالبداية كانت عظيمة، وما يصير كذلك ينتهي في العظمة والتأثير في العقول والحياة، ميلاد الفلسفة في اليونان كانت لحظة متميزة في انبثاق فكر أصيل ومتنوع يولي أهمية للطبيعة والإنسان، ويرسي دعائم جديدة للقيم الإنسانية.

مهمة الفيلسوف إرشاد العقول وفهم الحياة، وإزالة ترسبات الأفكار السلبية العالقة في الوعي الفردي والجمعي، إثارة العقل للتفكير وترويض الذهن للتأمل في الحياة والوجود، الفلسفة بوصفها فن التفكير، نمط عيش، وتجربة حية في معترك الحياة التي يأملها الفيلسوف، ويسعى جاهدًا في تكريسها، تجربة ذاتية لما يراه الفيلسوف في إقامة عالم خالٍ من الظلم، عالم تسمو فيه إرادة الإنسان في التغيير، ورسم الممكن للمستقبل، ولذلك تتجلى معالم ما قدمه الفلاسفة من تصورات وأفكار ثورية، مهمة تشخيص أزمة الحياة السياسية والاجتماعية، ذلك ينم عن رؤية استشرافية تهدف بالفعل إلى تغيير عالمنا، والعمل على صيانة الحضارة من التوحش والهمجية.

إن رسالة الفلسفة هي تنمية المدارك، وتحسين ملكة التفكير والحكم، والإعلاء من الأخلاق والقيم النبيلة، تنمية الذهن بالمفيد، وتكوين الفرد فكريًا ووجدانيًا، وإثارة السؤال.

مهمة الفيلسوف تعني إذكاء روح النقاش، والحفر في أعماق الذات، والرغبة في المعرفة والفهم، ولذلك كانت لحظة الحكمة مميزة في إيقاظ شعلة الفهم من خلال الاحتكاك بالطبيعة، ومحاولة التجاوز للسائد من الأفكار والمعارف.

تبلورت الفلسفة كمغامرة استكشافية عند اليونان في فهم الوجود والموجود، إنها تجربة حية في تغيير الواقع والعيش طبقًا للعقل.

الإغريق والفلسفة

تفلسف الإغريق ونالوا نصيبًا كبيرًا من التفكير والتأمل في الوجود، فكان للبحث النظري الحر نصيبًا من العناية من قبل الحكماء السبعة.

فعلى منوال الحكيم «طاليس»، صار أغلب الحكماء في القول بالمبدأ، والتفسير للطبيعة باللوغوس بعيدًا عن سطوة «الميتوس». اهتمام الحكيم بالنجوم وحساب الكسوف والخسوف لم يكن من فراغ سوى محبة الحكمة والرفع من شأنها، وحاجة الحضارة للتفكير الصائب. طريق شاق وصاعد نحو الحقيقة واليقين، محاولة في فهم الممكن، استنارة للعقل، وتوهج للذهن عندما نفهم الأشياء بالعقل، ونرسي المعرفة بتفسير الأشياء من خلال العلل المادية، نثير الجدل بالتناقض، يبدو أن الفلسفة اليونانية بدأت من فكرة غريبة، الموضوعة القائلة إن الماء أصل الأشياء [1]، هذه الفكرة وما تنطوي عليه من أبعاد وقيمة فلسفية وعلمية هي نتاج للتفكير الحر وللعبقرية العلمية الفذة.

المبدأ الناظم للتغيير هو «اللوغوس»، ما يحتويه من معان كالمنطق والكلمة واللغة والناموس، جدل الإنسان مع الطبيعة، وجدل الذات مع الواقع، ولادة فكر مغاير، ولما تبدلت معالم التفكير الفلسفي من الأسطورة إلى الفلسفة، كانت الشرارة الأولى في عملية التغيير للنظرة الخاصة بالإنسان نحو ذاته والعالم، نواة صلبة في عملية انبثاق للحكمة.

عندما قال فلاسفة مدينة «ملطية»، إن أصل العالم هو الماء أو الهواء أو النار أو اللامحدد، فليس من المؤكد أنهم يقصدون «عناصر» بالمعنى المادي للكلمة [2]، القدرة الخلّاقة على الإبداع والتميز من فكرة غريبة كسبب في اندهاش الإنسان إلى تبلور فكر عقلاني، فعل التفلسف كما حدده الفيلسوف «كارل جاسبرز» مبني على أربعة أصول، وهي: الدهشة، والشك، وشعور الإنسان بالضياع، والحاجة للتواصل، من رحم العلم تبلورت الفلسفة، ومن العبقرية العلمية جاءت الأسئلة الفلسفية تُلقِي بالتفكير في  غمار الجدل والتناقض.

سؤال فلسفي عميق وجوهري في الثابت والمتغير، لا تُفسَّر الطبيعة إلا بعللها. سؤال الفيلسوف مُنطلِق نحو غاية معينة، منبع التفكير الفلسفي هو الدوافع الذاتية والموضوعية، لا يسير الفيلسوف وفق ما تقتضيه المعارف العامة، طريقه محفوف بالمخاطر، شيئًا خارقًا ومدهشًا بعيدًا عن منفعة الإنسان الفورية، تفكير بمثابة منعطف في مسار التفكير والحقيقة، نتفلسف عندما نكون سعداء، ولا نعني أن الفلسفة يمكنها مضاعفة أمراض شعب يعشق الحرية، كما قال نيتشه، إلا عندما لا تكون الفلسفة مالكة لكل حقوقها، بهجة الفرد وسعادة المجتمع المنفتح مقياس الحياة في تدفقها وأساس عملية الإبداع بكل حرية.

إن الفلسفة لخطيرة حين لا تكون مالكة لجميع حقوقها، وهذه الشرعية لا تمنحها إياها إلا عافية الشعب [3]، طريق الفلسفة يبدأ بالحرية والتحرر، ويتجه صوب العدالة والحقيقة، ومسلكها ليس سهلًا ولا في المتناول، لكن عندما يتبلور التفكير الفلسفي ويتغلغل في العقول يؤدي للتغيير، ذلك ميزة الفلسفة والفائدة من عمل الفيلسوف، روح الإغريق كانت جلية في التخلص من الغريزة والاندفاع، أبدعوا في ميلاد الحكمة، وتكوين المذاهب الفلسفية.

من العلم جاءت الفلسفة، ومن الأسطورة انبثق الفكر الفلسفي يسائل الطبيعة والإنسان معًا، كان الحكماء السبعة بالفعل عظماء، إلمامهم بالحكمة وانفتاحهم على تراث الحضارات الأخرى في الشرق مهم للتفكير بمنطق جديد، تحمّسوا للفلسفة واندفعوا أشد اندفاع نحو فهمها.

يروي «أفلاطون» عن سقوط «طاليس» في حفرة حيث ضحكت عليه فتاة وسخرت من فعله، كان «طاليس» مشدودًا للسماء يتأمل النجوم والأفلاك. بدوره يسخر «أفلاطون» من رد فعل الفتاة، ويشير للتباين بين طريق الفيلسوف وطرق العوام.

الفلسفة تجربة حية

الفلسفة بنت عصرها وفق تعبير هيجل، زمانها مُلخَّص في الفكر ومُنعكِس عليه، قراءة تاريخ الفلسفة لا يعني التماهي والتطابق بين تفكير اليوم والأمس، واقع الفلسفة يفرض علينا إلتماس الأدوات المنهجية والوسائل المساعدة في عملية الفهم، ما توفره من أدوات علمية، ومنطق التفلسف في آليات كالسؤال والشك والتحليل والتفنيد والنقد، تراكمات في المواقف وتعدد في المذاهب الفلسفية يثري الإبداع، ويساهم أكثر في استيعاب عصارة العصر.

حكمة اليونان القدماء كانت مفيدة في بناء متين للفكر الفلسفي، التفكير معهم والعودة لاستلهام طرائق في إنتاج المعرفة والحقيقة، النظر في الثابت والمتحول، المثالية والمادية والعقلانية، التدرج في المباحث الفلسفية الكبرى كلها، تاريخ الفلسفة وما يقدمه من مشكلات فلسفية، وما يطرحه من مواقف فلسفية، لا تزال مهمة الفيلسوف هي تحليل مشكلات عصره ليصل إلى مفهوم الواقع يلائم هذا العصر بقدر الإمكان. [4]

نزل الفيلسوف من برجه العاجي حتى يُلامس الواقع المادي، عملية الانتقال من الذاتي نحو الموضوعي يعني وحدة الأفكار في بعدها الفكري والعملي، لا تخلو الفلسفة من تجارب حية في غمارها يحيا الفيلسوف، ويترك بصمة على النفوس التوّاقة للمعرفة والحرية.

سقراط الفيلسوف الأثيني الذي هام بالفكر والبحث عن الحقيقة، اعتبر المعرفة الصائبة موجودة في داخل الإنسان، يكفي تأملها واستخراجها بآليات التأمل والجدال، يتفلسف من خلال الإقرار بفكرة أن المعرفة تذكر والجهل نسيان، تجربة الفيلسوف خارج أسوار المؤسسات وكل ما هو رسمي سوى تلقين الناس فن الحقيقة، روح التفلسف يتبلور في الساحات العمومية، وبالنقاش المُعمَّم الذي يتشكل داخل الحلقة السقراطية وفي أجواء يطبعها السجال.

إن توليد الأفكار يسبقه الاعتراف بالقصور المعرفي، الشر ناتج عن الجهل وعدم القدرة على تعليم فن الحقيقة، الاستنارة بالحكمة الهادفة أيقظ شعلة المعرفة في نفوس الناس، لأننا لا نفعل الشر إلا جهلًا، وعندما نقبل على الخير، فذلك دليل على حسن تعلمنا.

آليات سقراط في التعليم تجربة حية في لقاء يومي مع أطياف متنوعة من المجتمع الأثيني، في قلب الحوار يشتد الكلام عن قضايا فلسفية، ويزيد النقاش في الكشف عن تناقضات المحاورين، الذين يدركون قدرة سقراط في الحوار والمناورة، فلا ينتهي لنتائج نهائية، إنه يُولِّد المعرفة، ويعمل على ترك انطباع لدى الخصوم في الإقرار بعدم الفهم، وتلك حيلة لا تعني التواضع بقدر ما تشير إلى الزيادة في شرارة النقاش.

إنه البحث عن الحقيقة من أفواه الكل، إنه التحول في عملية المعرفة من الطبيعة إلى الإنسان، كانت «والدة سقراط» مُولِّدة، وكان هو يردد أنه يمارس نفس المهنة التي كانت تمارسها أمه، التوليد، صنعة الولادة، كان يُولِّد النفوس، لم يكن يُعلم معرفة آتية من الخارج، إنما يُوقِظ لدى الآخرين حس الحقيقة، ذلك الحس الذي يحوزه الشخص أصلًا، لكنه يكون مُخدَّرا، وسريع الإرضاء. [5]

تجارب حية في مضمار الحياة، لكن مفعول الفلسفة يعطي نتائج حسنة في استنباط ثقافة معينة، تساهم في تشكيل وعي حضاري، وتجديد الفكر، وما يتناسب والعصر.

لقد قيل إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء وأدخلها لكل البيوت، بمعنى أن تجاربه اليومية وفاعليته في تلقين الناس كانت سبيل الوصول للحقيقة صائبة، تلك كانت بالفعل أهم انشغالات الفيلسوف في زمن القرن الرابع قبل الميلاد.

والمرور للفكر الحديث ظلت الفلسفة كذلك محكومة بسياق العصر، مشكلات فكرية تتعلق بالوجود والطبيعة والذات والسياسة والقيم، إعادة النظر في المعرفة من خلال مسح الطاولة، محاولة نقد أسس المعرفة وسبل بنائها، طاقة العقل وكيفية تطويع الطبيعة والسيطرة على العالم، قراءة متينة في سبل تحقيق المجتمع المدني والدولة العقلانية، هاجس الفلاسفة في التنوير والعقلنة، وفي الفكر المعاصر مشكلات فلسفية ودور الفلسفة في تشخيصها على غرار ما هو سائد في الطب النفسي، الحفر في الأعماق وترسبات الأفكار حسب الفيلسوف «فوكو»، وتحرير التفكير من التمركز، وزحزحة اليقين والنظر للحقيقة كمفهوم نسبي، ومحاولة التجاوز للمفاهيم الثابتة، نظرة الفيلسوف استشرافية للمستقبل، عندما يقدم آراء.

فالحقيقة لا تنال إلا عندما يعي المرء التناقضات، ويحملها إلى تركيب جدلي في الكل الذي تصدر عنه، والذي به يبلغ الآن حال الوضوح الكامل [6]، إنسان اليوم نتاج مجموعة من الإكراهات والحتميات، عصر التقنية والاغتراب، عصر الصورة والرتابة، عندما يدعونا الفيلسوف «هايدغر» للعودة خطوة أخرى للوراء، فهذا دليل على افتقارنا للحكمة، وما نعانيه من استلاب من جرّاء هيمنة التقنية والعصر التقني. تفكيرنا ينصب على اليومي، وسؤالنا عن الوجود يتوارى في ركام الأزمات والحقائق المزيفة. ويبقى مصيرنا على المحك.

المراجع
  1. فريدريك نيتشه، “الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي”، ترجمة: سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1983، ص46.
  2. جان هرش، “الدهشة الفلسفية”، ترجمة: محمد آيت حنا، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2019، ص11.
  3. الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، مرجع سبق ذكره، ص48-49.
  4. عبد الغفار مكاوي، “لم الفلسفة”، مؤسسة هنداوي، 2020، ص 102.
  5. الدهشة الفلسفية، مرجع سبق ذكره، ص31.
  6. كارل ياسبرس، “عظمة الفلسفة”، ترجمة: عادل العوا، منشورات عويدات بيروت –باريس، الطبعة الرابعة، 1988، ص176.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.