في الحلقة السابقة من «فلسفة الدين في عقل المصري القديم (1-2)» تناولنا بدايات الفكر الديني في حضارة أجدادنا، والذي ارتبط أول الأمر بتأثره بظواهر الطبيعة، وتفاعله الفكري معها، والذي تجلى في تقديس بعض ظواهر الكون؛ كالنيل والشمس، بما في ذلك أيضًا بعض الحيوانات والأشجار، وكانت هذه الأفكار والمعتقدات مهد الفكر الديني عند المصري القديم، وبداية رحلته الفلسفية نحو تفسير تعقيدات هذا الكون العظيم، وقد تبلور سعيه هذا في بعض من الأفكار التي وصلتنا عبر التدوين؛ سواء كان على أوراق البردي أو الآثار، أو نصوص الأهرامات.

أهم الآلهة في مصر القديمة
أهم الآلهة في مصر القديمة

فمنذ بداية حركة التاريخ والفكر الديني عند المصريين القدماء يرتبط بالسياسة ارتباطًا لصيقًا، وليس من شك أن الدين كان له بالغ الأثر في إرساء قواعد النظام السياسي القوي الذي يحكم مصر العليا والسفلى في دولة مركزية موحدة، ويتجلى هذا الطرح في ارتباط أهم أربع نظريات للخلق عند المصريين القدماء بأسماء مدن كانت لها الغلبة والسيادة في مصر القديمة، وربما لا تعدو نظريات الخلق اليوم عن كونها مجرد أساطير خطّها الإنسان القديم، لكن تلك الأساطير حينها كانت هي فلسفته الخاصة التي حاول من خلالها تفسير نشأة هذا الكون الواسع، وفي رحاب فلسفة القدماء، دعونا نستعرض نظريات الخلق الأربع:


نظرية «أون»

صيغت النظرية في مدينة «أون» (هليوبوليس – عين شمس)، والتي تأتي أهميتها السياسية من كونها المدينة التي شهدت الاتحاد الأول بين مصر العليا والسفلى، الذي حدث نحو ٤٠٠٠ ق.م، بينما تميّزت أيضًا بتطور الفكر الديني بين جنباتها؛ حيث بزغت نظرية «أون»، والتي سميت بنظرية «التاسوع»، وتكونت النظرية من تسعة آلهة على رأسها الإله آتوم، وهو من الفعل «تِم» أي الكامل أو التام، وتقول النظرية -كما أفاد نص الأهرام رقم ٦٠٠- بأن هذا العالم كان عبارة عن محيط أزلي من الماء وأن آتوم وقف على التل الأزلي (البنبن) وقذف من مَنِيِّه شو (الهواء – ذكرًا)، وتفنوت (الرطوبة – أنثى)، ويلد شو وتفنوت بدورهما جب (الأرض – ذكرًا)، ونوت (السماء – أنثى)، وفي الجيل التالي، يلد جب ونوت ولدين وبنتين، (أوزير وإيزه) (وست ونفتيس).

وترتبط أهم الأساطير الدينية في مصر القديمة بتلك النظرية؛ حيث صورت الصراع بين الخير والشر، متمثلاً في الصراع الذي حدث بين أوزير وست؛ حيث قام ست بقتل أوزير وتقطيع أوصال جثته إربًا، وبعثر أجزاءها في البلاد، ثم تقوم إيزه زوجة أوزير بتجميع تلك الأجزاء ويعود للحياة لتنجب منه حورس، والذي تقوم بإخفائه، ليعود حورس بعد ذلك للانتقام ويقتل عمه ست بعد مجموعة من الأحداث.

آلهة نظرية أون
آلهة نظرية أون
الإله آتوم
الإله آتوم

نظرية منف

نشأت النظرية بمدينة «منف» -تقع على بعد ٢٢ كم جنوب القاهرة- التي كانت عاصمة الاتحاد الثاني الذي حدث عام ٣٤٠٠ ق.م، بقيادة الملك مينا -كما ورد في قائمة الملوك في أبيدوس- (وقد يكون هو نعرمر أو عحا كما نعرفه من خلال الآثار)، وتعتبر نظرية منف من أرقى ما وصل إليه الفكر الديني عند المصريين القدماء.

حيث تنطلق فلسفة الخلق المنفية من الكلمة المقدسة التي استقرت في القلب، ثم انطلق بها اللسان، فخلقت كل الآلهة، وفي هذا الوقت الذي كانت فيه منف عاصمة سياسية للبلاد كان هناك ثمة ضرورة لإجراء مصالحة عقائدية وسياسية بين لاهوت هليوبوليس الذي احتل فيه الإله «آتوم» دور الإله الخالق -كما أسلفنا-، وبين لاهوت منف الذي يتمتع فيه الإله «بتاح» بهذا الدور، وعلى ذلك تكون ثامون مقدس بدءًا بنون نزولًا بالإله «نفرتوم» بما ذلك المعبود «آتوم» احتواها جميعًا الإله «بتاح» متجسدة أشكالها فيه، ليتم به تاسوع منف المقدس.

ولأهمية هذا اللاهوت المنفي في الفكر الديني القديم، أمر الملك النوبي «شباك shabaka» -رابع ملوك الأسرة الخامسة والعشرين- بنقله من على مخطوط بردي مهشم لينقش على لوحة من الحجر الأسود الصلد، محفوظة الآن بالمتحف البريطاني.

المعبود بتاح
المعبود بتاح

نظرية الأشمونين

ظهرت النظرية بمدينة «خمنو» باللغة المصرية القديمة «شمون» بالقبطية، وأطلق عليها اليونانيون هيرموبوليس، وكانت عاصمة الإقليم الخامس عشر، وهي الآن قرية الأشمونين بمركز ملوى وتقع شمال محافظة المنيا، وطبقًا لفلسفة الأشمونين الدينية؛ لم يكن هناك ثمة شيء في البداية سوى اللاوجود، والفوضى ذاتها، والتي تخيلها المصريون «المياه الأزلية»، والتي كان لها خواص أربع يمثل كل منها زوجين ذكر وأنثى من المعبودات، فالخاصية الأولى هي «العمق العظيم» ويجسدها «نون ونونت»، ثم اللانهاية ويجسدها «حوح وحوحت»، ثم «الظلام المخيم» ويجسده «كوك وكاوكت»، فاللارؤية «آمون وآمونيت»، وقد أطلق اسم «خمون» بالمصرية القديمة (أو الأشمونين الحديثة) وتعني «مدينة الثمانية» نسبة إلى الثامون المقدس لهذه الآلهة الأزلية.

وتعددت الأساطير التي تحكي كيف نشأ الكون في فلسفة الأشمونين، وتشير إحدى تلك الأساطير أن الإلهة شكلت بيضة فوق التل الأزلي، رواية أخرى تقول إن الأوزة الأزلية هي التي وضعت البيضة، ولما انفجرت البيضة خرج منها طائر عظيم يعتقد أنه أبو منجل رمز الإله تحوت رب الحكمة، وهناك تشوش واضح في نقل تطور هذه النظرية؛ حيث إنها اختلطت منذ زمن مبكر -خلال فترة الانتقال الأول- بـ «نظرية هليوبوليس» التي قدمت تفسيرًا أكثر وضوحًا وتقدمًا لكيفية نشأة الكون.

ثامون الأشمونين
تحوت، رب الحكمة، معبود الأشمونين

نظرية طيبة

تحوت، رب الحكمة، معبود الأشمونين
تحوت، رب الحكمة، معبود الأشمونين

طيبة هي مدينة الأقصر الحالية، وهي ذاتها واست التي كانت ﺇﺣﺪﻯ ﻋﻮﺍﺻﻢ ﻣﺼﺮ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﺇﺑﺎﻥ ﺍﻟﻤﻤﻠﻜﺘﻴﻦ ﺍﻟﻮﺳﻄﻰ ﻭﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ، وكان لمدينة طيبة نظرية دينية خاصة بها شأنها شأن المراكز السياسية والمدن الكبرى في مصر؛ حيث كان المعبود الرئيسي في طيبة هو «آمون» الذي اندمج معه الإله المحلي «مونتو».

رسم تخيلي لمدينة طيبة قديمًا
رسم تخيلي لمدينة طيبة قديمًا

وكما سبق وأوضحنا ارتباط الوضع السياسي بالفكر الفلسفي الديني عند قدماء المصريين، يتجلى هذا الارتباط في تأثر نظرية طيبة بالوضع السياسي، خاصةً بعد طرد الهكسوس من مصر، وتتويجها عاصمة مصر القوية، وانطلاقًا من هذا التأثر تقول نظرية طيبة إن «آمون» هو الإله الخالق، وإن طيبة المكان الذي وجدت فيه المياه الأزلية «نون»، وهي أيضًا المكان الذي برز فيه التل الأزلي لأول مرة، وبهذه الطريقة بدأ العالم، وأن البشر قد خلقوا من أجل تأسيس مدن أخرى على نسق مدينة طيبة.

وتشير النظرية إلى أن ُآمون» خلق نفسه بنفسه؛ حيث لم يكن هناك إله آخر ليخلقه، ولم يكن هناك أم أو أب، وهو غير مرئي وخلق حرًا، وجاءت جميع الآلهة إلى الوجود بعد أن أتم عملية الخلق الأولى، وقد خلق ثمانية آلهة تتفق مع ثامون الأشمونين، وأن هؤلاء الآلهة الثمانية ذهبوا إلى مدينة الأشمونين ووضعوا «آمون» خليفة لهم، ثم ذهبوا إلى «هليوبوليس» وجعلوا لآمون فيها شأنًا عظيمًا ثم عادوا إلى «مدينة الأشمونين» ليأكدوا سلطة «آمون» بها، ثم انطلقوا إلى «منف» ليجعلوه الإله الأكبر هناك، ويعودوا بعد ذلك إلى طيبة ليستقروا في عالمها السفلي.

يتضح من تلك النظرية رغبة كهنة طيبة في تأكيد قوة وسلطة المدينة السياسية عن طريق إصباغ قدسية على إلاهها لا تتوقف عند حدود المدينة، بل تغزو معاقل النظريات الدينية السابقة لها، في محاولة لادعاء أسبقية وجود «آمون» في الكون -وفقًا لعقيدتهم- وترسيخًا لسطوة مدينة طيبة؛ التي يدعي كهنتها أنها مكان مولد «أوزير» الذي كان له شعبية كبيرة جدًا في تلك الفترة.

، وليس من شك أن الدين كان له بالغ الأثر في إرساء قواعد النظام السياسي القوي الذي يحكم مصر العليا والسفلى في دولة مركزية موحدة، ويتجلى هذا الطرح في ارتباط أهم أربع نظريات للخلق عند المصريين القدماء بأسماء مدن كانت لها الغلبة والسيادة في مصر القديمة

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. الديانة المصرية القديمة، ياروسلاف تشرني.
  2. الديانة في مصر القديمة، بيرون شيفر.
  3. فجر الضمير ، جيمس هنري بريستد.
  4. الديانة المصرية القديمة ج2، عبد الحليم نور الدين.
  5. الديانة المصرية القديمة ج3، عبد الحليم نور الدين.