يُؤرَّخ عادةً لبداية ظهور الفلسفة الإسلامية باللحظة التاريخية التي عمل فيها المسلمون على دراسة العقائد والمذاهب والأديان التي تحيط بالمدنية الإسلامية الصاعدة مثل المانوية والزرادشتية، وذلك من أجل الرد على الفرق الضالة ثم الدفاع عن العقيدة الإسلامية بالحجج العقلية ضد الأديان والمذاهب الأخرى، حيث تبع ذلك ترجمة ونقل الفلسفة اليونانية أو (معارف القدماء) إلى اللغة العربية، حسب تعريف المدوّنة الإسلامية في القرن الثاني والثالث الهجري (التاسع الميلادي).

تلت عملية الترجمة التي قام بها المسلمون للمعارف اليونانية ظهور نمط جديد من المفكرين المسلمين -غير الفقهاء والمُتكلمين- عُرفوا بالفلاسفة أو الحكماء، حيث بدأ ظهور هؤلاء بـ «أبو يوسف يعقوب الكندي» –فيلسوف العرب- (256هـ)، والذي عمل على التوفيق بين الدين والفلسفة من خلال ترجمة النصوص العلمية والفلسفية اليونانية القديمة، ومحاولة إيجاد ما يوافقها من النصوص الإسلامية.

بعد الكندي جاء الفارابي (339هـ) وابن سينا (427هـ) وجماعة إخوان الصفا (القرن الثالث الهجري) حتى ابن رشد (559هـ)، حيث تم اعتبار لحظة ابن رشد من أكثر اللحظات جدلًا في تاريخ الفلسفة الإسلامية، حيث يختلف الباحثون حول مصير التفلسف الإسلامي بعد الهجوم الذي كاله الفقيه والمُتكلم الأشعري «أبو حامد الغزالي» (505هـ) للفلسفة، خاصة الفلسفة الإلهية عند اليونان، وما تبعه من تدهور للدرس الفلسفي في الأراضي الإسلامية، خاصة داخل البيئة السنّية.

بينما واجهت الفلسفة في التجربة الإسلامية السنية التكفير والتشهير، منذ صعود الخليفة العباسي المتوكل (232-247هـ)، والذي عُرف بالتعصب الديني وملاحقة العقلانيين والانحياز لأصحاب الحديث، وما تبعه من كتابات وفتاوى تحريضية ضد الفلسفة من الفقهاء، كـ «تهافت الفلاسفة» للغزالي، وفتوى ابن الصلاح (643هـ) في تحريم الاشتغال بالمنطق والفلسفة، والنقد الداخلي الذي قام به ابن تيمية الحنبلي (728هـ).

على العكس من ذلك كان وضع الفلسفة عند الشيعة، حيث صمد الفكر الفلسفي الشيعي إلى يومنا هذا، خاصةً في المجمعات الدينية العلمية أو كما تُسمى بـ «الحوزات العلمية»، يُرجَع احتضان الشيعة للفلسفة إلى أسباب تاريخية وسياسية واجتماعية، فقد ازدهر التشيع في العراق ثم فارس وهي المنطقة المعروفة بتعدد وتنوع المذاهب والمعتقدات منذ آلاف السنين، مما وفر أرضية خصبة للفلسفة.

أيضًا كان المذهب الشيعي بمثابة تمرد على التفسير السني للنصوص الدينية، والذي -أي المذهب السني- حاز الاعتراف والانتشار طوال التاريخ الإسلامي باعتباره الفهم الصحيح للإسلام، بفعل المساندة والدعم السياسي من السلطة الزمنية مُمثلة في الخلافة الإسلامية، المساندة التي أخفق الشيعة في حيازتها، ما جعل الشيعة وأئمتهم يتجهون إلى الدرس والتأليف عوضًا عن المُشاركة السياسية.

فبينما -توارى- التفلسف في البيئة السنّية بعد موت ابن رشد بنهاية القرن السادس الهجري وحتى مطلع العصر الحديث، استمر التفلسف الشيعي خاصةً في فارس وبلاد ما وراء النهر، حيث ظهرت أعمال فلسفية هامة لأعلام الشيعة المُتأخرين في الفلسفة، عملت على حمل الدرس الفلسفي الإسلامي حتى مطلع العصر الحديث، كالطوسي (672هـ)، والحلّي (726هـ)، والدواني ‏(908هـ)، ومحمد باقر الأَسترابادي الشهير بالداماد (1041هـ)، والمُلا صدرا الشيرازي (1050هـ).

العالم الإسلامي يخرج للمواجهة

بدأ الاستعمار الغربي الحديث للعالم الإسلامي بالحملة الفرنسية على مصر (1798-1801م) بقيادة الفرنسي نابليون بونابرت، ثم استفحلت السيطرة الغربية بنهاية القرن الـ 19، حيث سيطر الغربيون على حوالي 85% من العالم بما في ذلك العالم الإسلامي، ومنه حاز الإنجليز والفرنسيون نصيب الأسد في العالم الإسلامي بشقيه الأفريقي والآسيوي.

بالتركيز على بلاد فارس باعتبارها موطنًا لواحدة من أقدم المدنيات في العالم، وحتى دخول الإسلام عام 651م، لعبت فارس دورًا كبيرًا داخل الحضارة الاسلامية، حيث استمرت إيران على المذهب السني حتى حكم الصفويين (1501-1736م) الذين جعلوا من المذهب الشيعي الجعفري مذهبًا رسميًا لدولتهم الناشئة، مما شكّل نقطة تحول هامة في التاريخ الإيراني والإسلامي.

عمل الصفويون في إيران بقيادة الشاه إسماعيل الأول (1501-1524م) على تشكيل هوية إيران بفرض المذهب الشيعي الجعفري في البلاد، مع إعلاء للتقاليد والثقافة الفارسية، الأمر الذي ساعد على نمو الروح القومية الفارسية، يرجع ذلك إلى الصراع السياسي بين الصفويين والعثمانيين السُنة، وهي الهوية التي شكلت وجه إيران حتى الآن.

ظهور الدولة الحديثة

ساعد الاستقرار النسبي الذي حظيت به إيران كونها ظلت بمنأى عن الاحتلال العسكري الغربي المباشر، أثناء عهد القاجاريين (1779-1925م) على ظهور الحياة الدستورية المبكرة في نهاية القرن الـ 19، كذلك جهود الإصلاحيين الإيرانيين الذين شغلوا مناصب سياسية كـ «أمير كبير» (1807-1852م)، و«ميرزا حسين خان سپهسالار» (1828-1881)، مما ساعد على الدفع باتجاه دولة المؤسسات وظهور عملية التعليم ضمن إطار التحديث، حسب المؤرخ والمفكر الإيراني/الأمريكي «حميد دباشي».

نجحت الحركة الدستورية في إيران (1905-1911م) في إجراء إصلاحات هيكلية في نظام الحكم، منها تحويل الملكية المطلقة إلى ملكية دستورية وإقامة مجلس للنواب يمثل الشعب، وإدخال التعليم المجاني والإلزامي، وتأسيس المدارس العامة كبديل للكتاتيب الدينية، وسط معارضة من رجال الدين، حيث أكد الدستور الإيراني لعام 1906 على أن حق التعليم والثقافة ودراسة العلوم مباح لأي فرد، عدا ما كان مخالفًا للشرع الإسلامي.

يرى «ياسين تامر» وهو باحث من جامعة الشرق الأوسط التركية، أنه أثناء حكم رضا شاه بهلوي (1925-1941) تم إدخال العلمنة والتغريب إلى الدولة والمناهج التعليمية الإيرانية، حيث بدأت حملات محو الأمية وتعليم البالغين، احتذى بهلوي في ذلك بالنموذج الفرنسي لتحديث التعليم.

العلمنة التي استمرت مع ابنه الأكبر محمد رضا بهلوي (1941-1979)، حيث عمل على تطوير التعليم العلماني الذي يقابل الحوزات الدينية في قم وطهران، فيعرض «نعيم جاسم محمد»، إلى أن الشاه واجه مشكلة التحديث بمحاولة القضاء على الجهل والفقر والمرض، ببرنامج خاص للتحديث السياسي والاجتماعي على أسس عصرية بثلاث دعائم (الإصلاح الزراعي، والتعليم، والعلمانية في بعض القوانين والتقاليد)، فيما عُرف بـ «الثورة البيضاء».

ينقل «محمد أميني» وهو باحث إيراني، أن أحد مظاهر العلمنة التي اتبعها الشاه في العملية التعليمية كان إدخال المناهج الغربية الحديثة إلى المناهج الدراسية ومنها الفلسفة، وذلك من خلال إطلاق «برنامج الفلسفة التربوية» في الستينيات، والذي يشمل فلسفة التعليم وتاريخ الأفكار والتربية الإسلامية وفلسفة المناهج والتعددية الثقافية، ما شكّل بداية عصر جديد للفلسفة في إيران، العملية التي لم تكتمل بسبب قيام الثورة الإسلامية.

نظام جديد وأيديولوجيا مختلفة

في 11 فبراير/شباط 1979، أعلن راديو طهران انتصار الثورة في إيران بفرحة عارمة، مُبشرًا بنهاية 2500 عام من الملكية، وذلك بعد أكثر من ثمانية عشر شهرًا من المظاهرات الجماهيرية والصدامات والإضرابات الواسعة والعصيان العام والعديد من المناورات السياسية. نجحت الثورة التي تمتد جذورها إلى التغيرات الهيكلية التي شهدتها إيران منذ ثلاثينيات القرن العشرين، حيث بدأت الدولة عملية التحديث.

أحدث نظام الخميني تغييرات نوعية وكمية في نظام التعليم، حيث قسّم نظام التعليم إلى مستويين أساسيين: الابتدائي 6 سنوات من 6 لـ 12 سنة وهو تعليم إلزامي، ثم الثانوي من 12 لـ 18 سنة وهو غير إلزامي، بعد الثانوية يخضع الطالب لامتحان (Concour) يحدد مدى أهلية الطالب للالتحاق بالجامعة. وفي حين يخضع النظام التعليمي الأساسي إلى وزارة التربية والتعليم، تخضع الجامعات إلى وزارتي الثقافة والتعليم العالي ووزارة الصحة والتعليم الطبي.

يعتقد «أميني» أن تدريس الفلسفة كمنهج مُستقل، بمعنى الاهتمام بالمعرفة والتفكير الصحيح وتنمية التفكير الإبداعي والنقدي للمتعلمين، غير موجود في النظام التعليمي الإيراني بمختلف مستوياته، لذلك لا يوجد أي كتاب مدرسي معين لتدريس الفلسفة، فينقل عن أكاديمي ايراني بأن:

النظام التعليمي يعتمد على حفظ المعلومات ونقلها، وهو الشكل السائد للتعليم في إيران.

ينقل «أميني» عن أكاديمي آخر، أن ضعف تدريس الفلسفة في إيران يرجع إلى الفجوة العميقة بين أهداف الفلسفة الإسلامية والقيم والمعايير الاجتماعية المنتشرة، كذلك نقص الكوادر التعليمية من المُعلمين الذين يقومون بتدريس الفلسفة للتلاميذ، وعدم وعي الأسرة بتعليم الفلسفة لأطفالهم، كما يخلص آخر إلى أن المسئولين عن التعليم في البلاد لا يهتمون بضم الفلسفة ضمن المناهج الدراسية للدولة كمنهج مُستقل.

تحالف القبيلة ورجل الدين

في عام 1744م تحالف أمير الدرعية «محمد بن سعود» (1697-1765م) مؤسس الدولة السعودية الأولى (1744-1818م) مع الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» زعيم الحركة الوهابية، كحلف ديني سياسي، فتعهد محمد بن عبد الوهاب بالسمع والطاعة للأمير مقابل الحماية السياسية والعسكرية من الأمير للشيخ لنشر دعوته الوهابية، وهي الدعوة التي شكّلت هوية السعودية منذ نشأتها.

عانت السعودية عند إنشائها للمرة الثالثة 1932م، مع «عبد العزيز آل سعود» من الفقر الشديد في المدارس العامة حيث كان يسود نظام الكتاتيب، فأنشأ الملك عبد العزيز مديرية المعارف عام 1926 من أجل دعم نظام تعليمي كامل للملكة، والتي تطورت لتصبح وزارة المعارف 1952، ثم وزارة التربية والتعليم 2004، حيث تنقسم الدراسة الأساسية في السعودية إلى ثلاث مراحل تعليمية تليها الجامعة.

على الرغم من إدخال المناهج والمواد العلمية كالكيمياء والفيزياء، إلا أن السعودية منعت إدراج الفلسفة في مناهجها الدراسية، يرجع ذلك إلى أن المؤسسة الدينية في السعودية تعتمد المدونة السلفية، والتي تُحرِّم كل أشكال التفكير خارج التفسير الحرفي للنصوص الدينية، مثل التفلسف والتصوف والتأويل الديني، المنع الذي استمر لأكثر من 100 عام، حيث تم إدراج الفلسفة في المناهج الدراسية السعودية عام 2017.

فك الارتباط

عُرفت السعودية منذ نشأتها وظهورها برعاية واحتضان مشروع الإسلام السياسي، الرعاية التي انقلبت إلى مواجهة، لاستشعار دول الخليج الخطر السياسي الكبير من الإسلاميين، فمع قيام الثورات العربية عام 2011، وما تبعها من توحش الجماعات الإسلامية تحول القلق السعودي والخليجي تجاه الإسلاميين إلى مواجهة مباشرة في عدة أقطار عربية على رأسها مصر. ومع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز (1935-) عام 2015، ثم محمد بن سلمان (35 عام) كولي للعهد في يونيو/حزيران 2017 مقاليد الحكم، بدأت السعودية مرحلة جديدة في إطار «رؤية 2030» لعصر ما بعد النفط.

اتخذ محمد بن سلمان خطواتٍ عديدة لمحاربة التطرف الديني في المملكة، مُستهدفًا إنهاء ما يُسمى بمشروع الصحوة الإسلامية في السعودية، جاء في إطار ذلك إدخال الفلسفة إلى السعودية، ففي ديسمبر/كانون الأول 2018 أعلن «أحمد العيسي» وزير التربية والتعليم السعودي قيام المملكة بإدخال مناهج الفلسفة والتفكير النقدي إلى المناهج الدراسية الثانوية، بعد قرن من التحريم.

ويعتقد «فهد الخليوي»، وهو باحث سعودي، بأن:

إدخال الفلسفة إلى المناهج الدراسية في السعودية لن يؤثر كثيرًا، إلا إذا انتشرت الفلسفة على النطاق الاجتماعي أو في المجال العام كالإعلام والثقافة والصحف والأندية الأدبية، وذلك لأن الطالب في المدرسة يحفظ من أجل الامتحان، وبانتهاء الامتحان تتبخر المعلومات من ذهنه مباشرةً.

يتابع الخليوي بأن «إدخال الفلسفة إلى المناهج يرجع إلى اتجاه المملكة مكافحة الإرهاب والأفكار المتطرفة، كما أن له أسبابًا اقتصادية، حيث تتلاءم المناهج الجديدة مع الخطط السعودية الاقتصادية الجديدة، فيما يُعرف برؤية السعودية 2030».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.