على ساحل سوريا، شرق البحر المتوسط، وتقريبًا في الألف الثالث قبل الميلاد– كما افترض المؤرخون- قَدِم شعبٌ عربيٌ مُهاجر من شبه الجزيرة العربيّة نحو الشمال، فخاض رحلته من موطنه حتى وصل إلى الساحل السوري مارًا بالأراضي التي تفصل بينهما، فسكن المنطقة المُمتدة من جبل كاسيوس شمالًا حتى جبل الكرمل جنوبًا، بطول لا يزيد على 320 كيلو مترًا، والمحصورة في شريط ساحلي ضيّق بين جبال لبنان والشاطئ بعرض لا يزيد على 56 كيلو مترًا، واتخذها موطنًا جديدًا له.

المنطقة التي أُطلِق عليها في بادئ الأمر «كنعان» –نسبةً لاسم الشعب- والمعروفة عن الأكديين بـ«كيناجي أو كناجي»، وعُرِفَت فيما بعد بـ«فينكس» لدى الإغريق الأوائل، فاشتُقّت من الأخيرة لفظة «فينيقيّة»، وهو المصطلح المشهور لشعبها، باعتبار أنّ كُتّاب التاريخ الفينيقين الأوائل كانوا إغريقًا. [1]

أسّس الشعب الفينيقي– الكنعاني– على هذه الأرض العديد من المدن والقرى التي يُرجَّح عددها بنحو 25 مدينة وقرية [2]؛ أشهرها ست مدن، يمكن تقسيمها إلى ثلاث طوائف؛ الطائفة الشماليّة تشمل مدينتي (أرواد وسميرا)، والوسطى تشمل (بيبلوس –جبيل حاليًا– وبيروت)، والجنوبيّة تشمل (صيدون –صيدا حاليًا– وصور). [3]

ونظرًا لجغرافية الأرض؛ لم يعرف الشعب الفينيقي نظام الدولة الواحدة، بل عرف نظام المدينة/الدولة، الذي انتهجه الإغريق– نظرًا لجغرافية أرضهم أيضًا– فيما بعد، وبذلك تميّزت كل مدينة/دولة عن الأخرى، ليس في الثقافة، بل في الإنتاج الاقتصادي، والثراء، والمجد. ولم يذكر التأريخ القديم أي حروبٍ دارت بين تلك المدن، بل أقرّ بوحدتهم وقت السّلم ووقت الحرب، ولم يشهد الشعب الفينيقي حربًا إلا حرب دفاع. [4]

عُرف الفينيقيون في العالم القديم بمُسالمتهم وبراعتهم الاستكشافيّة البحريّة التجاريّة، التي مكّنتهم من تحويل البحر المتوسط لبحيرة تجاريّة تربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، حضاريًّا وتجاريًّا، وإلى جانب منتوجاتهم الخاصّة؛ اشتُهروا بسعيهم وراء استكشاف الأراضي الغنيّة بالقصدير اللازم لصناعة البرونز، في عصرٍ انتشر فيه– ربما بفضلهم– استخدام البرونز. [5]

المستعمرات

كان البحر المتوسط في عصر من العصور بمثابة بحيرة فينيقيّة، فلم يكن متوسطًا فقط للعالم القديم، بل كان متوسطًا أيضًا للمستعمرات الفينيقيّة، التي امتدت بطول سواحله، فنرى مستعمرات فينيقيّة في قبرص وآسيا الصغرى وجزيرتي رودس وكريت وبعض جزر بحر إيجه وشبه جزيرة أتيكا الهيللينيّة وعلى سواحل الحذاء الإيطالي وجزيرة صقليّة وسردينيا وجزر البليار [6]، وعلى السواحل الشرقيّة لشبه جزيرة أيبيريا– إسبانيا والبرتغال حاليًا– [7]، وسواحل أفريقيا الشماليّة، وأشهرها مستعمرة قرطاج التي استلمت الزعامة من مدينة/ دولة «صور» عقب تدهور الأوضاع فيها. [8]

وفي مصر نجد لهم ميناءً لمراكبهم ومستودعًا لبضاعتهم في الدلتا لتسهيل تجارتهم، وهذا أمر ليس بغريب على مصر؛ فنرى الإغريق أيضًا عقب ازدهار نشاطهم التجاري في البحر المتوسط يُنشئون مدينة كاملةً لهم في مصر باسم «نقراطيس» لنفس السبب الذي دفع الفينيقيين لذلك. [9].

ولم تتوقف المستعمرات الفينيقية عن الانتشار داخل حوض البحر المتوسط، فنجد بعد عبور مضيق جبل طارق– أعمدة هرقل قديمًا– مستعمرة فينيقيّة ما زالت قائمة حتى وقتنا الحاضر، وهي مستعمرة قادس على ساحل الأطلسي– قادش حاليًا بإسبانيا– وعلى الساحل الغربي من القارة الأفريقية [10]، وتشير كتابات تاريخية قديمة إلى وصولهم إلى أراضي القصدير– أي جزر بريطانيا– وهذا الرأي ما زال موضع افتراض. [11]

وإلى هنا يُمكننا القول– اعتمادًا على ما بحوزتنا من كتابات تاريخية قديمة وشواهد أثريّة– إن هذا كان واقعًا فينيقيًا حقًا في العالم القديم، أمّا ما هو قادم فحاله كحال الرأي الأخير، لا يزال موضع شكٍ ودراسة.

ما اعتُبِر من الأساطير

تُشير بعض من الكتابات القديمة اليونانيّة والرومانيّة إلى مغامرتين مجهولتين بالنسبة لنا، معلومتان كحقيقة بالنسبة للفينيقيين، وهاتان المُغامرتان هما: مُغامرة الدوران حول القارة الأفريقيّة، وبالتالي ستعود أسبقيّة اكتشاف «طريق رأس الرجاء الصالح» لهم، ومُغامرة خوض غمار الأطلسي [12]، التي جزء منها– لافتراضه كخُرافة– تناولها الرأي العام بمنظور لا عقلاني، وهو الجزء المعروف باسم قارة أو جزيرة «أطلانتس» الغارقة.

وما زالت الآراء في هذا الشأن في حيز الافتراضات، لا هي خُرافة ولا هي حقيقة مُؤكدة، ونظرًا لأن الجانب الخُرافي الذي اتبّع منهجيّة لا عقلانيّة حاز من الاهتمام ما يغنينا عن الحديث عنه، ففي السطور المقبلة سنؤول إلى الجانب العقلاني الذي لا يزال موضع شك.

«الأوقيانوس» أو «الأطلسي» أو «بحر الظلمات»… كلها أسماء أُطلقت– قديمًا– على المسطح المائي المُحيط بالقارات أو الجزر الكبرى الثلاث: آسيا وأوروبا (أوراسيا) وأفريقيا (المعروفة بـ ليبيا في بعض الكتابات القديمة)، ونُسِجَت حوله الحكايات، ولم يذكر التاريخ سِبق الإبحار وراء أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق حاليًا) لغير الفينيقيين خصوصًا الصوريين منهم، وللمصداقيّة؛ تُشير الروايات القديمة أيضًا إلى معرفة مُسبَقة للمصريين بالأرض الكبيرة القابعة وراء البحر الكبير (أي الأمريكتين) [13]. ولو صدقت صحة هذه الرواية، فهذا لا يتنافى مع فكرة وصول الفينيقيين، لأن بعض الروايات تشهد على استعانة المصريين بالبحّارة الفينيقيين لخوض غمار البحار، سواء للاستكشاف أو التجارة، كما أن العلاقات المصريّة-الفينيقيّة كانت علاقة أخ أكبر متمثّل في مصر وأخ أصغر متمثل في فينيقيّة. [14]

لذلك، فالأنظار لا بد أن توجّه للفينيقيين، البحّارة الأكثر براعة، وصنّاع السفن الأكثر جودة في العالم القديم، وبراعتهم في علم الفلك هي خير دليل، إذ إن علم الفلك أحد أهم العناصر الضرورية للبراعة في ركوب البحر قديمًا. وكذلك يُنسَب إلى الفينيقيين اكتشاف «نجم الدب القطبي»، واهتداؤهم بـ «الدب الأصغر» في الإبحار، أمّا إثبات قوة سفنهم فيكفي معرفتنا بمصدر الخشب المُصنّع منه السفن، إنه خشب شجر الأرز الذي اشتُهرت به فينيقيّة الأرض، وما زال حتى وقتنا الحاضر قائمًا على جبال لبنان وهو خشب معروف بمتانته. [15]

سعى البحّار البريطاني «فيليب بيل» لإثبات أن سفن الفينيقيين قد ركب المحيط بالفعل، وظهرت العديد من الشواهد الأثريّة لشكل السفن الفينيقيّة، ولكنها لم تكفِ لمعرفة كافة التفاصيل حول هذه الصناعة، حتى تم العثور على حطام سفينتين في قاع البحر المتوسط قرب سواحل صقليّة، إحداهما رومانيّة والأخرى قرطاجيّة، يُرجّح أنهما ترجعان إلى فترة الحروب البونيّة بين روما وقرطاج، وعن طريق هذا الحطام وحطام سفينة أخرى فينيقيّة تم العثور عليها أيضًا في قاع البحر المتوسط قرب سواحل مارسيليا الفرنسيّة (يُرجّح أنها تعود تقريبًا إلى القرن السادس قبل الميلاد)؛ استطاع الباحثون معرفة تفاصيل هذه الصناعة، التي مكّنت الفينيقيين من السيطرة على البحر المتوسط تجاريًّا.

وعن طريق هذه الأبحاث؛ قام البحّار البريطاني سابق الذّكر، بواسطة أيادٍ سوريّة أرواديّة– نسبةً إلى أرواد السوريّة حاليًا الفينيقيّة قديمًا– صُنع نموذج لسفينة فينيقيّة بطول 21 مترًا وكتلة 50 طنًا، استطاع بواسطتها الإبحار حول القارة الأفريقيّة بين عامي 2008 و2010، لتأكيد أنه لم يكن مستحيلًا على الفينيقيين القيام بهذه المُغامرة.

ومنذ عدة أشهر قامت السفينة بالمغامرة الثانيّة؛ عبور الأطلسي، على نفس الخط الذي أبحر عليه الفينيقيون، كما افترض أصحاب النظريّة القائلة بعبوره، ومن المفترض أنها أنهت رحلتها بالفعل. ولكن هل الروايات القديمة فقط منْ أثارت أذهان الباحثين في هذا الشأن؟

الإجابة: لا… ليست الروايات الشرقيّة القديمة فقط، بل الشواهد الأثريّة الأمريكيّة أيضًا وثقافة السكّان الأصليين ورواياتهم حول ماضيهم، ولسنا نُعمّم هنا، بل نقصد تحديدًا سكان ساحل أمريكا الجنوبية الشرقي وجزره، وساحل أمريكا الشماليّة الجنوبي الشرقي وجزره في منطقة البحر الكاريبي وخليج المكسيك، أي المنطقة التي شهدت قيام حضارة كُبرى [16]، وهذا ما دفع «إميل إده» إلى تأليف كتابه «الفينيقيّون واكتشاف أمريكا»، ودفع «هاينكه زودهوف» إلى مُهاجمة كولومبوس ومحاولته إثبات صحة النظريّة القائلة بوصول الفينيقيين وذلك في كتابه: «معذرةً كولومبوس، لست أول من اكتشف أمريكا»، مُعتمدين على دراسات سابقة لباحثين آخرين، وعلى أدلّة علميّة واطّلاع مُسبَق على الروايات التراثيّة للسكان الأصليين.

وبنظرة أوليّة بسيطة على حضارة المايا، على سبيل المثال، نجد أشهر أساطيرهم «أسطورة الثعبان الرائش» (كيتزالكواتل) تتشابه إلى حَدٍّ كبير مع فكرة وصول زائر غريب، وهذا الزائر قد يكون فعلًا الفينيقيّين [17]، ناهيك عن التشابه المعماري الملموس بين الشرق والغرب والذي يظهر فيه الغرب أقل براعة.

وحتى لا تختلط الأمور؛ فإن هذه النظريّة لا تتعارض مع فكرة الأصل المنغولي لسكان الأمريكتين، ووصول الفينيقيّين لا يعني خلودهم في هذه الأرض، بل إن أصحاب النظريّة يعترفون– بناءً على أساطير القوم– أن الزائر الغريب صاحب الهبات والعطاء والعلم والحضارة لم يَطُل وجوده. [18]

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. محمد بيومي مهران، “المدن الفينيقيّة: تاريخ لبنان القديم”، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1994، صـ 121-129.
  2. ماجد أحمد علي الحمداني، “الفينيقيّون في شرق وغرب البحر المتوسط”، مجلة دراسات في التاريخ والآثار، العدد 57، بغداد، 2017، صـ 488.
  3. غاستون ماسبيرو، “تاريخ المشرق”، ترجمة: أحمد زكي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2014، صـ135-136.
  4. المرجع السابق.
  5. ماجد أحمد علي الحمداني، “الفينيقيّون في شرق وغرب البحر المتوسط”، مرجع سبق ذكره، صـ 495.
  6. ج. كونتنو، “الحضارة الفينيقيّة”، ترجمة: محمد عبد الهادي شعيرة، شركة مركز كتب الشرق الأوسط، القاهرة، 2001، صـ 94-97.
  7. يولي بركوفيتش تسركين، “الحضارة الفينيقيّة في إسبانية”، ترجمة: يوسف أبي فاضل، راجعه الأستاذ ميشال أبي فاضل، الطبعة الأولى، جرّوس برس، بيروت، 1988.
  8. غاستون ماسبيرو، “تاريخ المشرق”، مرجع سبق ذكره، صـ 139-142.
  9. ج. كونتنو، “الحضارة الفينيقيّة”، مرجع سبق ذكره، صـ 95.
  10. يولي بركوفيتش تسركين، “الحضارة الفينيقيّة في إسبانية”، مرجع سبق ذكره.
  11. ماجد أحمد علي الحمداني، “الفينيقيّون في شرق وغرب البحر المتوسط”، مرجع سبق ذكره، صـ 495.
  12. إميل اده، “الفينيقيّون واكتشاف أمريكا”، الطبعة الأولى، دار النهار للنشر، بيروت، 1996، صـ 14-19.
  13. المرجع السابق.
  14. محمد بيومي مهران، “المدن الفينيقيّة: تاريخ لبنان القديم”، مرجع سبق ذكره، صـ197.
  15. غاستون ماسبيرو، “تاريخ المشرق”، مرجع سبق ذكره، صـ143-153.
  16. ب. رادين، “الحضارات الهندية في أمريكا”، ترجمة: يوسف شلب الشام، الطبعة الأولى، دار المنارة للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1989، صـ 7-9.
  17. المرجع السابق، صـ 43-47.
  18. هاينكه زودهوف، “معذرةً كولومبوس: لست أول من اكتشف أمريكا”، ترجمة: حسين عمران، الطبعة الأولى، مكتبة العبيكان، الرياض، 2001.