رصيد كل منا من الحياة مختلف عن الآخر، طبيعة كل منا هي من تحدد أكان هذا الرصيد كافيًا أم نفد سريعًا. من لديه الكثير ليفعله يظن أن الحياة ضنت عليه برصيدها؛ بينما من نفدت آمال حياته وانتهت أسبابها يصير يستكثر هذا الرصيد ويظن الحياة تعذبه بحضورها إذ بقيت دون أي شيء يدل عليها. هناك أشخاص بارعون في ضخ دماء جديدة للحياة كلما تخثرت دماؤها القديمة، هؤلاء هم من تطيب لهم الحياة على كل حال وفي كل زمان ومكان.

محمود فوتوكوبي (محمود حميدة)، رجل مسن متقاعد عن العمل لا ندري كيف كان في الماضي، لكن حاضره يخبر أن لا شيء لديه ليفعله، لا آمال، لا أصدقاء، لا أبناء، لا عمل يوفر له نفقات الحياة، كل ما لديه من ذلك أطلال أو خيالات في ذهنه. بالرغم من كل ذلك، نجد محمود في جلسته الرتيبة في محله الذي أكل الزمن عليه وشرب، ومهنته التي لا تلقى رواجًا في منطقته، متمسكًا بآخر خيوط الحياة وإن ضعف، ويحارب كل ذلك بفضوله وكثرة سؤاله للغادي والرائح عن كل شيء.

وعلى الجانب الآخر من الأحداث تأتي صفية (شيرين رضا)، والتي تسكن في نفس العمارة التي يمتلك محمود محل التصوير خاصته في الدور الأرضي منها. صفية أرملة مريضة بالسكر وتعاني من الوحدة مثل محمود، فتخترع حيلة هي الأخرى تربطها بالعالم الخارجي بذهابها اليومي المتكرر للصيدلية في الشارع المقابل لمحل محمود لأخذ حقنة الأنسولين.


التيمة

تبدو أحداث الفيلم رتيبة وئيدة في بدء الفيلم، عجوزان مسنان ركدت مياه حياتهما، إلى أن يقرر محمود أن يعيد تحريك مياه حياته وحياة صفية الراكدة.

في أحد أيام جلوس محمود الطويلة في محله وتحديدًا في يوم عيد الحب المصري، يأتيه طالب جامعي يريد كتابة وطباعة فقرات متقطعة من أحد الكتب لبحث جامعي. محمود كعادته ينسى ارتداء نظارته؛ ربما ليسأل المارة والعابرين أن يقرأوا له ما يشاء ويسلونه لبعض الوقت ويختلس منهم بعض الأحاديث التي تملأ وحشة يومه. يستعين محمود بالست صفية جارته بعد عودتها من أخذ حقنة الأنسولين لُتملي عليه النص، ومن هنا يقرر محمود ما الذي ينقصه تحديدًا كي يجعل لبقية أيامه معنىً. في ذلك اليوم ينتوي محمود أن يعاند الزمن ويفعل مثل المراهقين وتصير له محبوبة يحتفي معها بعيد الحب، ولحسن حظه يأتيه جزء من أتعاب كتابة البحث، وردة حمراء، ولا أجدر من السيدة صفية بتلك الوردة.

السيدة صفية أرملة وقورة منذ مات عنها زوجها، وهجرها ابنها للعمل في إحدى دول الخليج وضن عليها حتى بمكالمة هاتفية لم تفكر يومًا في أن تدخل حياتها أملاً غريبًا. كان أملها الوحيد الذي اختلقته لنفسها وشغلت به فراغ أيامها هو سماع المقطع النادر لفريد الأطرش من أغنية «قلبي ومفتاحه»، إذ غنى فريد الأطرش هذا المقطع لمرة واحدة في لقاء إذاعي نادر، ولسوء الحظ لم تسعف الذاكرة صفية لتسجيل هذا المقطع. لو كانت تعلم أنها ستنتظره طوال هذه الأعوام أمام الراديو لكانت سجلته.

«إن لم تجد سببًا لوجودك، فابحث عمّا قد يكون سببًا لانقراضك»

الحياة الخاوية التي يحياها محمود دفعته لأن يختلق لنفسه قضية كبرى يهتم بها. موضوع البحث الذي كتبه محمود برفقة صفية كان عن انقراض الديناصورات، وهذه كانت مادة خام لأفكار محمود عن الموت والاختفاء من وجدان الناس دون أثر. تصير هذه مُعضلة محمود التي يبحث عن حل لها طوال الفيلم مما يعرضه لكثير من السخرية، كيف انقرضت الديناصورات؟ ولماذا انسحبت من معركة الحياة بلا رجعة؟ هل استسلمت لثقل الأيام مثلما نفعل نحن بني الإنسان؟

يصر محمود على أن يخلق لحياته أي باعث فتتأجج قصة حب صفية في قلبه، ويقرر باندفاع الشباب أن يتقدم لخطبة الفتاة التي أحب حتى وإن كان ما بقي في عمر كليهما أيام معدودة، فهو الرجل الطاعن في السن، وهي المرأة المصابة بسرطان الثدي والتي تجري فحصًا دوريًا كل ستة أشهر ومعرضة لهجمات السرطان في أي وقت. كل ذلك لا يهم في عرف الحياة التي يعرفها محمود والتي يجب أن تُعاش لأقصى درجة ممكنة ومع نقص الإمكانيات.

* محمود: «أنا مش بحارب الزمن يا ست صفية، أنا بس عاوز آخد منه أي حاجة تفضل بعدي. صفية: وعاوز إيه يفضل بعدك؟ * محمود: في الأول كان عيل. صفية: عيل إيه يا راجل يا عجوز إنت! * محمود: أما كان حد بيطلب مني شغلانة عشان أخلصهاله، كان بيحلّفني وحياة عيالك، وأنا معنديش عيال، الكلمة دي كانت بتأثر فيا أوي.. أنا لو مُتّ يا ست صفية مش هيفضل حاجة من بعدي، كأني مجتش، أنا كل اللي طالبه دلوقتي شوية وَنَس وحد يفتكرني بعد ما أموت. صفية: وهو ده الونس اللي أنا بستناه في أغنية فريد على الراديو: يا مسهر دمعي على خدودي، كرهني غبابك في وجودي. * محمود: وإن سبتك أدبل على عودي، وأرجع من غير ما تقول عودي
صفية: إيه ده إنت سمعت التسجيل ده إنت كمان، أنا عمري ما قابلت حد سمعه.

«فوتوكوبي» جاء كمحاولة انتصار للحياة في أي سن وتحت أي ظروف، الحياة كما يجب أن تُعاش طالما في العمر بقية. جاءت نهاية الفيلم لترسخ هذا الانتصار بإهداء محمود لصفية شريطًا يحتوي على المقطع النادر الذي انتظرته طويلًا وعلى مدار أعوام، وبموافقة صفية الزواج بمحمود وأن تكون رصيده المدخر من الزمن.


عن الفيلم

الفيلم من إنتاج عام 2017، جاء مغايرًا تمامًا للون السائد في السينما المصرية والذي يرتكز بشكل رئيسي على الكوميديا والأكشن، وغابت الأفلام الروائية هادئة الرتم عن الساحة الفنية لفترة طويلة؛ لأن تلك النوعية من الأفلام لا تعود بالربح المادي الكبير على منتجيها وقد لا تحقق نسب مشاهدات عالية في دور العرض. لكن الكاتب هشام دبور قرر مع المخرج تامر عشري خوض التجربة والرهان على القيمة الإنسانية قبل أي شيء، وقد كسبا الرهان، إذ لقي الفيلم استحسان النقاد والجمهور على حد سواء.

حصد فيلم «فوتوكوبي» جائزة النجمة الذهبية من مهرجان الجونة السينمائي في دورته الأولى كأفضل فيلم عربي عام 2107، وعلى جائزة أفضل فيلم في مهرجان طرابلس السينمائي عام 2018، وعلى جائزة أفضل سيناريو في مهرجان وهران للفيلم العربي في نسخته الثانية عشر، كما حصل على جائزة العمل الأول من مهرجان جمعية الفيلم عام 2018، وتم اختياره ضمن أفضل 5 أعمال تم إنتاجها في 2017 من جمعية الفيلم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.