وجدتُ الأمر أسهل بكثير مما كنا نعتقد، يسيطر عليك نوع من الخوف، لكن الله القدير يبعث الطمأنينة إلى قلبك، هذه المرة أخطأ أحد عشر صاروخًا موجهًا الهدف، لكن في المرة التالية قد يُصيب الصاروخ الأول هدفه.
«أنور العولقي» ردًّا على سؤال صديقه: كيف يشعر المرء عندما يتعرض للقصف على يد الأمريكيين. (1)

بعد شهرين على هجمات 11 سبتمبر زار الرئيس اليمني علي عبد الله صالح واشنطن، وخلال اجتماعات مع الرئيس بوش ووزير الدفاع؛ دونالد رامسفيلد، ومدير الاستخبارات المركزية؛ جورج تينيت، انتزع صالح مُساعدات بـ 400 مليون دولار مُقابل مُباركته لمجموعة صغيرة من جنود العمليات الخاصة بالمجيء إلى اليمن، لكنه أصر على ألَّا يطلقوا النار من أسلحتهم إلا للدفاع عن النفس. أرسل البنتاغون مع الكوماندوز –دون علم صالح- عملاء من «الثعلب الرمادي»، وهي وحدة التجسس في الجيش المُتخصصة في اعتراض الاتصالات (2)، وفيما بعد تغير اسمها إلى «قوة المهام الخاصة البرتقالية». (3)

وفي ربيع 2002 طلب السفير الأمريكي اجتماعًا مع صالح، وذلك للحصول على موافقة الرئيس اليمني على تحليق الطائرات بدون طيار الأمريكية فوق اليمن، في الاجتماع شاهد صالح فيديو صور مُتحركة يُظهر كيفية عمل الطائرة من دون طيار، وتضمن الفيديو رسومًا لصواريخ «هلفاير» وهي تقصف السيارات والمجمعات المبنية من الطين. ابتسم صالح وهو يتفرَّج وبدا فخورًا بأن تصبح اليمن المكان الأول خارج أفغانستان الذي تستعد فيه «سي آي أيه» لاستخدام الـ «بريداتور»… وهكذا أصبحت سماء اليمن مُستباحة.

وصول الطائرات بدون طيار مهَّد إلى عمليات اغتيال واسعة لأعضاء تنظيم القاعدة الموجودين على الأراضي اليمنية. فمثلًا أُطلق صاروخ من «بريداتور» على شاحنة لاند كروزر، بداخلها «قائد سالم سنان الحارثي»، ودُمرت الشاحنة، وقد أمكن تحديد هوية الحارثي من خلال علامة فارقة على إحدى ساقيه التي وجدت مبتورة في مسرح العملية. والحارثي اعتُبر العقل المُدبر لتفجير المُدمرة كول عام 2000، وهو الهجوم الذي قُتل فيه 17 بحَّارًا فيما كانت السفينة تتزود بالوقود في خليج عدن. (4)

وبعد سنوات ستُلاحق «بريداتور» أخرى «أنور العولقي».

أخطر من بن لادن نفسه

أنور العولقي أو الشيخ أنور -كما يروق لأتباعه تسميته- هو أمريكي من أصل يمني، انضم إلى القاعدة في شبه الجزيرة العربية.

في محاضرة ألقاها العولقي عبر الهاتف في 11 مايو/أيار 2008، إلى مؤتمر جنوب أفريقيا حول البقاء كمسلم في الغرب، وكانت بعنوان «معركة القلوب والعقول». أشار إلى الإعلان الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2006 عن الفرع العراقي لتنظيم القاعدة. وحث أنصاره على السفر لقتال الأمريكان في العراق.

فيما بعد أدرك العولقي أن أتباعه من الشباب الغربيين الذين يغادرون الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا للانضمام إلى القتال في اليمن يهدرون الاستفادة الكبيرة من جنسيتهم وحثهم على البقاء في المنزل وشن هجمات (عمليات إرهابية) في بلادهم.

وقال في فيديو على الإنترنت: «قتل الشيطان -أمريكا- لا يحتاج إلى فتوى».

واتهمت الولايات المتحدة العولقي بأنه كان على تواصل مع الضابط الأمريكي «نضال حسن» –طبيب نفسي من أصل فلسطيني- الذي أطلق النار على قاعدة «فورت هود» في تكساس في نوفمبر/تشرين الثاني 2009 وأوقع ثلاثة عشر قتيلًا. ودعا العولقي جميع المسلمين في صفوف الجيش الأمريكي إلى الاقتداء بما قام به نضال حسن.

وصفه بيتر كينج، رئيس لجنة الأمن الداخلي في مجلس النواب الأمريكي: «طوال السنوات المنصرمة كان العولقي أخطر من أسامة بن لادن نفسه».

أرجوك لا تقتل ولدي

بينما كان والد العولقي يقرأ مقالًا في صحيفة الواشنطن بوست بقلم «دانا بريست»، نُشر في الأربعاء الموافق 27 يناير/كانون الثاني 2010، أوردت الصحيفة أن الاستخبارات الأمريكية المركزية والقيادة المُشتركة للعمليات الخاصة JSOC أضافتا العولقي إلى «قائمة الأهداف المُهمة»، وهي القائمة التي تضم الأشخاص المقصود قتلهم، أو إلقاء القبض عليهم.

فقرر أن يكتب رسالة إلى الرئيس أوباما، وفيما يلي مُقتطفات منها:

إلى السيد: بارك أوباما، رئيس الولايات المُتحدة الأمريكية
سررتُ كثيرًا بانتخابك رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أمضيت في واقع الأمر ليلة الانتخاب بأكملها دون نوم، إلى حين أعلنت وسائل الإعلام أنك أصبحت الرئيس المُنتخب.
قرأت كتابك الذي حمل عنوان أحلام والدي وتأثرتُ به كثيرًا. ذهبت إلى أمريكا في العام 1966، وكنتُ حينئذٍ في العشرين من عمري، أما ابني أنور فكان مولودي الأول، وقد وزعت السجائر على زملائي في الهيئة التعليمية، وأصدقائي في جامعة نيو مكسيكو التابعة للولاية، حينما أبصر ابني أنور النور في العام 1977.
أرسلتُ أنور، بسبب حُبي لأمريكا إلى جامعة كولورادو كي يتلقى ثقافة أمريكية. وتابع ابني تعليمه حتى تخرج وبدأ يعد دكتوراه الفلسفة في جامعة جورج واشنطن في العام 2001.
أوردت صحيفة الواشنطن بوست أن الاستخبارات الأمريكية المركزية والقيادة المُشتركة للعمليات الخاصة أضافتا أنور إلى قائمة الأهداف المُهمة، وهي القائمة التي تضم الأشخاص المقصود قتلهم، أو إلقاء القبض عليهم، بناءً على فرضية أن أنور هو إحدى شخصيات القاعدة. وأنت تعرف وأنا أعرف أن أنور لم يكن أبدًا عضوًا في هذا التنظيم.
أناشدك مُجددًا أن تحترم القانون الأمريكي، أما إذا فعل أنور أي شيء خاطئ فيجب أن يُحاكم بحسب مبادئ القانون الأمريكي.
المُخلص ناصر آ. العولقي، أستاذ الاقتصاديات الزراعية، جامعة صنعاء، جمهورية اليمن. (5)

لكون العولقي مواطنًا أمريكيًّا، استلم الجيش الأمريكي وثيقة منحته تفويضًا بالقتل، وجاء فيها إنَّ وزارة العدل وصفت العولقي بأنَّه «قائد عسكري لقوات معادية للولايات المتحدة في وقت الحرب»، وأن عملية التخلص منه التي تقودها وكالة الاستخبارات المركزية CIA، يتوافق مع القانون الأمريكي. لم يكن والد العولقي يعلم أن يد القانون الذي يُطالب باحترامه ستُبارك قتل ابنه.

عملية اغتيال مُثيرة

أريد العولقي… لا تكفوا عن مُطارته.
الرئيس أوباما إلى فريق الرئيس لمكافحة الإرهاب.

بعد مرور ثلاثة أيام على إعلان أوباما قتل بن لادن في الثاني من مايو/أيار 2011، قدَّم فريق الرئيس لمُكافحة الإرهاب تقريرًا استخباراتيًّا عن اليمن. اعتبرت وكالة الاستخبارات الأمريكية والـ JSOC (القيادة المُشتركة للعمليات الخاصة) أنهما تمكنتا من تحديد موقع العولقي في جنوب اليمن. وقالتا إنه يتعين عليهما انتظار اللحظة المُناسبة للقضاء على العولقي.

في اجتماع الثلاثاء الذي يُعقد كل أسبوع حول الإرهاب، أمر أوباما بتزويده بآخر المعلومات المتوفرة حول العولقي. (6)

وفي مساء 5 مايو/أيار 2011، كان العولقي مع بعض أصدقائه في سيارة يعبرون منطقة الجهوة، وفجأة اهتزت الشاحنة الصغيرة بفعل انفجار كبير وقع بالقرب منها، رأى العولقي وميض ضوء فأيقن أن صاروخًا قد أطلق على شاحنتهما الصغيرة، طلب من السائق أن يُسرع، ثم تطلع حول الشاحنة لمحاولة معرفة الوضع، لم يُصب أحد بأذى، كان صندوق الشاحنة الصغيرة يحتوي على صفائح مليئة بالوقود، لكن الشاحنة لم تنفجر.

بينما أسرع العولقي وزملاؤه بالخروج مما اعتبروه كمينًا، كان مخطِّطو JSOC يشاهدون عبر الأقمار الصناعية، الشاحنة الصغيرة وهي تخرج من بين الغبار الذي تسببت به قذيفة غريفين أطلقته طائرة Dragon Spear أي رمح التنين. أدرك المخططون أنهم أخطئوا هدفهم، ويعود ذلك إلى عطل في جهاز الاستهداف وجهاز التوجيه، اللذين فشلا في إبقاء التركيز على عربة العولقي، ويعني ذلك أنه على طائرة الهارير والطائرة بدون طيار إكمال المهمة.

وبدأت الغارة الثانية، وأضاءت السماء كرة لهب ضخمة، وخرجت الشاحنة الصغيرة مُجددًا من بين الغبار، أصيب الدفع الخلفي للشاحنة لكنها استمرت في مسيرتها.

كان الوقود في طائرة الهارير على وشك النفاد فاضطرت للتخلي عن المهمة، وكان لا بد أن تأتي الضربة الثالثة من طائرة بدون طيار بريداتور (التي سمح لها صالح بالعمل في اليمن). تطلع العولقي من نافذة الشاحنة بحثًا عن المُهاجمين، ورأى شيئًا في تلك اللحظة: الطائرة بدون طيار وهي تحوم في السماء، خيم الدخان والغبار على المنطقة في هذا الوقت، طلب العولقي من السائق عدم الاقتراب من أي منطقة مأهولة بالسكان، وهكذا توجهوا إلى وادٍ صغير فيه بعض الأشجار.

رأى الشقيقان عبد الله ومسعد الدغاري –المعروفان في أوساط تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب باسم الأخوين حراد- هذه الغارة من بعيد فهرعا لنجدة العولقي، لكن المخططين الأمريكيين لم يتمكنوا من رؤية ما يحدث في الأسفل بينما كانت الطائرة المُسيَّرة تُحلق فوق المنطقة.

كانت صور الأقمار الصناعية تأتي من أعلى إلى أسفل، وساهم الغبار والحصى وألسنه اللهب في توفير الغطاء المطلوب، أمَّا الأخوان حراد فقد نقلا العولقي إلى سيارة جيب من نوع سوزوكي فيتارا رياضية وتسلما شاحنة العولقي، وقد وجهاها نحو صخرة حتى يتمكن من الاحتماء. ودَّعهما العولقي على عجل وأسرع بالعربة السوزوكي بينما سار الشقيقان حراد بالشاحنة التي حاول الأمريكيون تفجيرها قبل لحظات في الاتجاه المُعاكس.

ما إن انطلقت العربتان في اتجاهين مُعاكسين، حتى اضطر مخططو الحرب الأمريكيين إلى اختيار السيارة التي يتوجب عليهم مُلاحقتها، وقع الاختيار على شاحنة العولقي الصغيرة، تطلع العولقي إلى أعلى فرأى الطائرات بدون طيار تُحلق في الجو، وتمكن من الوصول إلى الصخرة في الجبل، تابع العولقي المُراقبة، بينما أُسقطت دفعة أخرى من القذائف الموجهة على الشاحنة الصغيرة، ويُقتل الأخوان حراد.

احتفل أفراد JSOC بنجاح العملية بينما كان العولقي يؤدي صلاة المساء، فكَّر في هذه الليلة: «ما من إنسان يموت حتى ينتهي عمره ويصل إلى وقته المحتوم». وهكذا أنقذ تبادل السيارات العولقي. (7)

قتل قانوني؟

زُوِّد أحد مُساعدي العولقي بجهاز لتحديد المواقع عن طريق عميل مزدوج للاستخبارات البريطانية والأمريكية والدنماركية كان يتجسس على تنظيم القاعدة في اليمن، في النهاية حدد الجهاز موقعه. وفي 30 سبتمبر/أيلول 2011 استهدفت طائرة بدون طيار موقع العولقي وقُتل في الغارة.

كانت أول عملية قتل متعمد لمواطن أمريكي من قبل حكومته بناءً على أوامر رئاسية وبدون تهم جنائية أو محاكمة منذ الحرب الأهلية. أمَّا أوباما فقد شبَّه قراره باستهداف العولقي بإطلاق نار مُبرر من قبل الشرطة.

ورغم اغتياله، لم تتم إزالة العولقي بأي حال من الأحوال من ساحة القتال في أي صراع أيديولوجي، أو معارك فكرية، فمثلًا:

  • فتح محمود يوسف عبد العزيز، النار على منشأتين عسكريتين في مدينة تشاتانوغا بولاية تينيسي، مما أسفر عن مقتل أربعة من مشاة البحرية وبحار. اكتشف محققو مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI الذين فحصوا حاسوبه الخاص أنه كان يشاهد فيديوهات العولقي خلال الأسابيع السابقة على حادثة إطلاق النار.
  • كانت الفتاة شانون كونلي (19 عامًا) من ولاية كولورادو، والتي اعتنقت الإسلام قد خلَّفت وراءها كومة من أسطوانات الفيديو الرقمية الخاصة بالعولقي قبل محاولاتها السفر بالطيران إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم داعش.
  • في يونيو/حزيران 2016، حينما ألقت المباحث الفيدرالية القبض على عدد من الرجال من ولاية نيوجيرسي، وجهت إليهم الاتهامات بالتآمر والإعداد لشن هجمات إرهابية، قال عملاء المباحث الفيدرالية إن اسم العولقي كان شائعًا في محادثات مواقع التواصل الاجتماعي فيما بينهم. وأفاد المسئولون بأن أحدهم تفاخر بأنه شاهد كل محاضرات العولقي تقريبًا، وأضاف: «لقد قتلته أمريكا»، ورد عليها شريكه بكل ثقة: «لسوف تحترق أمريكا جرَّاء ذلك».
المراجع
  1. جيريمي سكاهيل، «حروب قذرة (ميدان المعركة: العالم)»، ترجمة: سعيد محمد الحسنية، بيروت، شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، 2016، ص 702.
  2. مارك مازيتي، «حروب الظل: الحروب السرية الأمريكية الجديدة»، ترجمة: أنطوان باسيل، الطبعة الثالثة، بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2015، ص 98.
  3. حروب الظل، مرجع سبق ذكره، ص 162.
  4. المرجع السابق، ص ص 97-99.
  5. حروب قذرة، مرجع سبق ذكره، ص ص 511-512.
  6. المرجع السابق، ص 699.
  7. المرجع السابق، ص ص 700-703.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.