العربي أرحم مادة بالنسبة لي، بالذات النحو والنصوص!

كانت هذه الجملة السابقة كافية لقصفي بنظراتٍ قاسية من التعجب والاستنكار والكراهية من 99% من زملائي في المرحلة الثانوية، ويرجع لها أكثر من 70% من أسباب اعتبار أكثر من قابلوني سواءً في المدارس أو الدروس الخصوصية، إياي شخصًا غريبَ الأطوار! لكن في رأيي، فالجانب الأخطر من الجملة هو أنها لم تكن مدحًا في مادة اللغة العربية، إلا بقدر ما هي ذمٌّ لباقي المواد وطريقة تدريسها.لولا جودة علاقتي من قديمٍ باللغة العربية، نتيجة تشجيع والدي رحمه الله لي على القراءة، وحفظ القرآن، وحرصه أحيانًا على التحدث معي بالفصحى مُذ كان أهم ما في حياتي هو «الكابتن ماجد»، لأفسدت طريقة تدريسها ما بيني وبينها. ولا يفوتني بمناسبة «الكابتن ماجد» أن أعترف بفضل «المدبلجين» السوريين لأفلام «الكارتون» في حبي للفصحى.منذ 12 عامًا، كنا لا نزال في نظام الثانوية العامة «الكومبو ». سنتان كبيستان ماديًا ومعنويًا، يحاولون تعليلَنا فيهما بالآمال في حياةٍ أروع كثيرًا في الكلية، وفي المستقبل المشرق لمن سيحوز أعلى الدرجات في هاتين السنتيْن (اكتشفنا على أرض الواقع لاحقًا، أن دقة هذا الكلام لا تتجاوز 8.3% على أقصى تقدير!). كانت اللغة العربية مقررًا أساسيًا في العاميْن، وكانت أكثر المواد في نصيبها من الدرجات .. 60 درجة من أصل 410 هي المجموع الكلي لدرجات السنتيْن. لذلك ولغيره، كانت من أشد المواد إرعابًا للجميع. بالنسبة لمعظم الطلاب، كان النحو «لوغاريتمات» معقدة وسمجة وعديمة الجدوى، والشعر عبارة عن عقد يطلقها بعض المرضى النفسيين، من الظلم اعتبارهم مبدعين. والأدب يحمل سماجة الدراسات الاجتماعية التي كنا ندرسها في الابتدائي والإعدادي. والقراءة حفظ أصم لدروس نظرية غير شيقة. أما التعبير، والذي هو المخرج النهائي المفترض لدراسة اللغة العربية، فعبارة عن« أكلاشيهات » رخيصة محفوظة، وتسويد للصفحات طبقًا لنظرية التناسب الطردي بين الدرجات، وحجم الكتابة بالمتر! وبالطبع لا يمت كل هذا بصلة للتعبير الحقيقي عن ذواتنا، ولا قياس القدرات اللغوية الحقيقية لنا. ومن النكات الحقيقية، أنني -وأنا الذي كنت أحب مجموعة اللغات كلها- لم أفقدْ درجاتٍ إلا فيها! اثنتين في العربية أحبها على الإطلاق عندي، وواحدة لكل من الإنجليزية والفرنسية.رغم علاقتي الأفضل نسبيًا من معظم زملائي باللغة العربية، فإن تبرمي من المنهج، وبعض طرق التدريس، كان يجعلني كثير الفرار تلقائيًا منه إلى آفاق أرحب مع لغتي الحبيبة. أذكر مرة عام 2005، وأنا في الصف الثاني الثانوي، وعلى بعد أسابيع قليلة من الامتحان، وبينما أشاهد التلفاز، بدأت فقرة البرامج التعليمية على إحدى القنوات المحلية. كان برنامجًا تعليميًا للصف الثالث الثانوي .. مادة اللغة العربية! وجدت بداخلي من الفضول ما لم أتمكن معه من تغيير القناة، وجلست أشاهد …كان الأستاذ يشرح تطبيقات على قصيدة في أول المنهج. كانت القصيدة لرب السيف والقلم – كما كان يُلقَّب – محمود سامي البارودي. لفت نظري كثيرًا عنوان القصيدة .. «دعوة إلى الثورة على الظلم!». تعجَّبت كثيرًا من سماح الرقيب الأمني الموجود بداهة في كل مكان على أرض المحروسة، بوجود عنوان خطير كهذا في منهج للتعليم العام. زادني العنوان شغفًا باستطلاع هذه القصيدة، التي دفع اسمها بجرعاتٍ مكثفة من «الأدرينالين» المؤجَّج في دمي، وعبث بأوتار حساسة في أعماق أعماقي. أوتارٍ لم أتصور حينها أنني على بعد سنواتٍِ ست من أن أسمع عزفًا حقيقيًا عليها، وستٍ أخرى تليها، ستنزوي فيها هذه الأوتار، وتتآكل في ظلال القنوط.

أرى أرؤسًا قد أينَعَتْ لحصادِها ــــــــــ فأينَ ولا أينَ السيوفُ القواطعُ؟! فكونوا حصيدًا خامدين أو افزعوا ــــــــــ إلى الحربِ حتى يدفعَ الضيمَ دافعُ

ارتسمت هذه الصاعقة الشعرية على الشاشة أمامي. شعرت بقنبلة من الحماسة تنفجر في أعماقي، ودفقات سرمدية من الطاقة تنتفض في أوتاري. وجدتني أجري لاهثًا بحثًا عن ورقة وقلم لأدون فيها هذيْن البيتيْن. لم أجِدْ سوى مذكرة اللغة الفرنسية، فكتبت البيتيْن سريعًا في الصفحة الأولى تحت اسمي. ابتسمت لتلك اللمحة من سخرية القدر. فلطافة – لنكن صرحاء .. وتخنُّث! – اللغة الفرنسية لا تتناسب بتاتًا مع القذائف البارودية التي دونتها على صدر مذكرتها. ما أوسع البون بين لغة تقول فيها «جي فيه تو تويه Je vais te tuer» بمعنى سأقتلك! وأخرى يُشهر بها البارودي سيف كلماته الماضي مهددًا بالقتل (أرى أرؤسًا قد أينَعَتْ لحصادِها)!انتهت مجموعة الأسئلة التي قدمها الأستاذ على هذيْن البيتيْن. انتظرت أن يأتيَِني بغيرِهما. حينها لم يكن عندي اتصال بالإنترنت، لأستنجد بصديقي (جوجل) كاتبًا في مربع بحثه .. البارودي، أرى أرأُسًا قد أينعت، فأحصل في ثوانٍ على القصيدة بشرحها بمناسبتها. انتقل الرجل إلى مقدمة القصيدة ليتناولها بالسؤال ..

يودُّ الفتى أن يجمعَ الأرضَ كُلَّها ـــــ إليهِ ولمَّا يدْرِ ما اللهُ صانعُ فقدْ يستحيلُ المالُ حتفًا لربِّهِ ـــــ وتأتي على أعقابهِنَّ المطامعُ ! ولستُ بعلَّامِ الغيوبِ وإنما ـــــ أرى بلِحاظِ الرأيِ ما هو واقعُ

قلت لنفسي ليسَ عجبًا أن يكون في صدر هذه القصيدة النارية أبياتٌ من هذا العيار الثقيل. أخذ الرجل يستكمل الأسئلة عن جوانب عديدة من الأبيات. أكلني الفضول لأعرف من الفتى المقصود في الأبيات. أحسستُ كأن الرجل يتعمد تجاهل هذه النقطة. أكل هذه الأسئلة، والتفصيصات، ولا سؤال عن مناسبة القصيدة؟ سأعرف فيما بعد هذه الأبيات ليست مقدمة القصيدة الكاملة، فمقدمتها أشد وبيلًا.

متى أنتَ عن أُحموقَةِ الغِيِّ نازعُ؟ ـــــ وفي الشَّيْبِ للنفسِ الأبيَّةِ وازِعُ

وسأعرف أن الفتى مرتكب الحماقات، الذي يُثخن فيه البارودي بهذا الشكل المباشر الخالي من مثقال ذرةٍ من التورية سوى عدم ذكر اسمه، هو حاكم مصر المعاصر للبارودي الخديوي إسماعيل! والذي يقرِّعُهُ الرجل لسفهه، ولاستحواذه على خير البلاد، وإسرافه على نزواتِه العامة والخاصة حتى أوقع مصرَ في حبائل الديون ثم الاحتلال فيما بعد.للأسف اكتفى الأستاذ بهذا القدر من القصيدة، وانتقل إلى درس آخر. أما أنا فأخذت أنقب عن كتب أختي الكبرى المحفوظة في صندوقٍ رث تحت السرير، حتى عثرث على مذكرة اللغة العربية الخاصة بها عندما كانت في الصف الثالث الثانوي .. وخلوْتُ بقصيدتي سويعاتٍ حتى استظهرتها.

بعدها بأشهر، وفي أولى حصص اللغة العربية بالصف الثالث الثانوي، كنت متحمسًا للغاية لافتتاح العام الدراسي بقصيدتي العزيزة، وكانت في غرة المنهج. ذهبت حماستي أدراج الرباح عندما انتقل المدرس إلى القصيدة التالية، بعد أن بشرنا بسخرية وتهكم بأن الوزارة حذفت قصيدتي العزيزة، كجزء من تطوير التعليم ونشر ثقافة التسامح! اشتعل غضبي، وتضاعف تعلقي بقصيدتي.

لسنواتٍ ظلَّت القصيدة معلقة على حائط غرفتي. كتبتها بأحلى خط، وتوحدت معها كثيرًا. كنت أقف على سريري أنشدها بصوتٍ جهوري، حتى كاد والدي – رحمه الله – يظن بيَ الظنون، لولا أن أقنعته أنني أذاكر بصوتٍ مرتفع لأتقن الحفظ! وزادني تعلقًا بالقصيدة ما قرأته عن مبدعِها البارودي، والذي هالني العجبُ عندما علمت أنه -وهو الشاعر العربي الفصيح- من أصلٍ شركسي! دفع الرجل ثمنًا غاليًا لاتساقه مع نفسه ومبادئه التي أودعها شعره العظيم، فنُفي 18 عامًا لكونه ضلعًا هامًا في الثورة العرابية، التي حاولت انتشال مصر من التبعية، فأغرقتها دون قصدٍ في الاحتلال. ظلَّ الرجل في منفاه يتلظى في شعره شوقًا لمصر، ولم ينسَ بسريلانكا رسالته العربية والإسلامية، فعكف على تعليم أبنائها اللغة والدين.وجاءت ليلة 28 يناير 2011 … كنت أرتجف رعبًا، وأتحرق شوقًا في آنٍ إلى الغد. الأمور تشتعل منذُ يومين، وما حدث في تونس قبل أسبوعين لم يترك مجالًا للتردد. حملتني موجة من الخوف الإنساني للتردد جيئةً وذهابا في غرفتي كالبندول، وأخيرًا استجمعتُ القدر الكافي من الشجاعة ونظرت إلى الحائط .. حيث تنتصب قصيدتي العزيزة في شموخ وكبرياء مستحق، بقوة تراكيبها، وجزالة ألفاظها، والأهم تصديق كاتبها لها بفِعالِه. وكأنها تعيُّرني بترددي، وأنا الذي أنهكتُها غناءً حتى اشتكتْ مني حوائط هذه الغرفة.

فيا قومِ هُبُّوا إنما العمرُ فرصةٌ ـــــ وفي الدهرِ طُرقٌ جمّةٌ ومنافعُأصبرًا على ذل الهوانِ وأنتمُ ــــ عديدُ الحصى؟ إني إلى اللهِ راجعُ وكيف تروْنَ الذُّلَّ دارَ إقامةٍ ـــــ وذلك فضلُ الله في الأرضِ واسعُ
شعرت كأن هذه الأبيات لم تكتب منذ 130 عامًا، وشعرت كأنني لم أعرفها من قبل أبدًا. بل تُكتب الآن على الهواء مباشرة على الورقة. وما عاد عندي مجال للتردد.عبث الزمان بنا كثيرًا فيما تلا هذه اللحظات من شهور وسنين، ودار بعضًا من دوراته العنيفة البهلوانية، وأسدل ستارًا حالكًا على الأحلام الناصعة، وأردف أعجازًا وناء بكلكلِ كما قال امرؤ القيس. لكن عمومًا، فما تزال قصيدة البارودي في مكانها على حائط غرفتي، التي أصبحت الآن خالصة لأخي بعد زواجي. وما زلتُ بالطبعِ أغنيها.

هذه المقالة إسهام ضمن فعاليات أسبوع اللغة العربية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.