معتصاعد الضغط الاقتصادي على الشعوب النامية بدا أنه من المحتم إجراء تدخلات سريعة بغرض إصلاح السياسات الاقتصادية والدفع بعجلة التنمية من جديد. ومع تطور دراسات التنمية وتخصصاتها المختلفة في أحضان علم الاقتصاد، ومع شيوع حلم التنمية الاقتصادية في هذه الشعوب من جهة، وانعكاسه في رغبة الحكومات في زيادة الدخل القومي من جهة أخرى، انسحب بعيدًا عن الأضواء رويدًا رويدًا حلم كانت بدايته مع بداية عهود الاستقلال، وهو حلم التنمية السياسية، وأصبح يدور حول محور وحيد غير كافٍ وهو الدمقرطة.

ممالا شك فيه أن إدارة التنمية بطبيعة ارتباطها بالاحتياج العام هي عملية سياسية تهدف إلى تحقيق رفاهية المجتمع وسعادته. وقد طرح مجموعة من علماء الاقتصاد وفلاسفته، أبرزهم حديثًا «محبوب الحق» و«أمارتيا سن»، عددًا من الاعتراضات والكتابات النقدية لوجهة النظر الرامية لتقنين هذه الرفاهية والسعادة بوحدات حسابية على طريقة الاقتصاديين الكلاسيكية. فهنالك أبعاد أخرى أكثر غائية ينبغي أن تخدمها التنمية من وجهة نظرهم وتعكس مستوى التنمية في الوقت نفسه، وكذلك تشكل طريقًا لها أو أسلوبًا.

ويجدرهنا التفريق بين التنمية كعملية سياسية من حيث إدارتها وتحديد أولوياتها وإستراتيجياتها والأيديولوجيا التي تنطوي عليها – حيث إن كل ذلك يتم تقريره في مستوى سياسي ثم بعد ذلك يُمرّر للتنفيذ عبر بيروقراطية الدولة – وبين مفهوم التنمية السياسية الذي يعني بالشروط السياسية التي تحكم الممارسة السياسية في مجتمع ما من حيث شكل المؤسسات وهيكلها وطبيعة القوى الفاعلة فيها وحدودها، ومن حيث النصوص واللوائح التي تقيد الفعل السياسي وتحدد ما هو قانوني وما هو خارج اللعبة السياسية القائمة ويجب استئصاله أو منعه لعدم شرعيته. في هذا الإطار محاولة لنقاش هذا المفهوم الأخير للتنمية من منظور علم السياسة، وبمعنى أوضح: التنمية السياسية.


التنمية السياسية: أي معنى؟

يعتبربعض المفكرين التنمية السياسية توأمة لما يسمى بالتحديث السياسي، وهو التنمية على محاور الدول الصناعية في الغرب. حيث يقرن هؤلاء المفكرون التنمية السياسية بواقع المجتمعات الصناعية الأكثر تقدمًا في مجال التكنولوجيا، فالافتراض المُستنَد عليه هو أن الحياة الصناعية تتطلب نوعًا معينًا من الحياة السياسية ينبغي أن تسعى جميع الدول لتحقيقه، وأن النظام السياسي هو إفراز أو قل نتاج للعلاقات الصناعية والتكنولوجية[1]. وربما يتطلب الأمر اكتساب قيم حضارية جديدة والتخلي عن أسلوب الحياة التكافلي للمجتمعات التقليدية وتقوية النزعة نحو الفردية والخصوصية والمرونة والانفتاح بما يتماشى مع روح السوق والمنافسة والعمل والتجارة والأرباح.

ومنثم ينظر لهذه الدول الصناعية المتقدمة كنماذج لبناء المؤسسات وتطويرها، رأسمالية كانت أو إشتراكية أو كانت على نظام الحزب الواحد أو متعددة الأحزاب أو نظام الحزبين أو كانت برلمانية أو رئاسية أو ذات تمثيل نسبي أو حر أو مباشر أو غير مباشر، أو نظام فصل السلطات الثلاث أو دمجها. أي تتطلب التنمية السياسية وفق هذا المفهوم أن تنشئ الدول النامية نظامًا سياسيًا يتماثل مع النظم السياسية للدول الصناعية المتقدمة على شاكلة ديمقراطية ويستمنستر (النظام البرلماني البريطاني) أو النظام الرئاسي الأمريكي أو النظام الفرنسي المختلط.

منناحية أخرى، التنمية السياسية عند بعض المنظرين هي قرينة الوعي بالقيم الأيديولوجية والالتزام بها، سواء كانت قيم القومية أو الديمقراطية أو المواطنة أو الليبرالية أو الشيوعية. فعلى سبيل المثال، يرى «ويليام ماكورد» أستاذ علم الاجتماع بجامعتي هارفارد وستانفورد سابقًا في ورقة بعنوان «The case for pluralism» أن التنمية السياسية في حالة تقدم دائم طالما أن الوعي الديمقراطي في تطور مستمر، وغاية التنمية السياسية عنده هي تحقيق الديموقراطية [2].

وهوما يذكره أيضًا «لوسيان باي»، أستاذ العلوم السياسية المتخصص في حقل التنمية السياسية ضمن عشرة تعريفات للتنمية السياسية وضعها في كتابه «Aspects of political development»، أن التنمية السياسية هي: بناء الديمقراطية [3].

أما «أبو الحسن الندوي»، اتفاقًا مع منظري الإسلام السياسي، ففي كتابه «الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية» يقدم نقدًا للقيم السياسية الغربية ويعتبر أن قمة التطور السياسي هو تطبيق النظام الإسلامي. وحسب القوميين، فالتنمية السياسية من منظورهم تعني بناء الحكومة القومية (Nation-state) المعاصرة وفق المعاهدات الدولية والالتزام بقيم السيادة والمواطنة والحدود وصهر المجموعات داخل بوتقة سياسية واحدة تستبدل سياسة مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة القبلية أوالإمبراطورية أو السياسة الاستعمارية.

منضمن تعريفات لوسيان باي كذلك، التنمية السياسية هي: بناء الدولة القومية [4]. والتنمية السياسية بهذا المعنى تعني تنمية الشعور القومي والعمل لتوحيد المجموعات التي لها خصائص ثقافية مشتركة في ظل دولة مستقلة تقوم مؤسساتها على مبادئ الدولة المعاصرة وتسير بواسطة حكومة قومية. والقائمة تمتد لتشمل الليبراليين والعلمانيين والماركسيين وكل من يتبنى رؤية أيديولوجية يحملها عبر مواعين العمل السياسي.

إلىجانب ذلك تعتبر تعبئة الجماهير ورفع وعيها السياسي ودفعها للمشاركة في اتخاذ القرار شكلًا من أشكال التنمية السياسية. وقدرة الدولة على التواصل مع الشعب مؤشر لنضجها السياسي لتحقيق أهدافها. ويقاس ذلك التواصل بقوة وسائل الإعلام وكفاءتها في تقريب المسافة بين الشعب وصناع القرار وعكس رؤية الشارع والمثقفين ورجال الدولة في آن واحد وتقديمها للطرفين، بالإضافة لحرية الصحافة والكتابة والتعبير والتظاهر وكل ذلك مما يعمل على صناعة وعي بالمجال العام في وسط الجماهير يؤدي بدوره إلى انعكاسات داخل أجهزة الدولة التشريعية والتنفيذية.

كماتعرف التنمية السياسية بعملية بناء مؤسسات الدولة وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وتحديد وظائفها وصلاحياتها وتطويرها المستمر، وكل ذلك حسب أهداف الدولة وبما يتفق مع تلك المبادئ والقيم الاجتماعية والثقافية المؤسسة للنصوص الدستورية والقانونية للدولة. ومن ثم الاحتكام لتلك المؤسسات بعد اكتمال تأسيسها لفض النزاعات وتحييدها، والعمل على تأكيد استقلاليتها على الدوام والحيلولة دون تحولها لمؤسسات سلطوية تقيد حرية المواطن وتحدد خياراته السياسية.

فيورقة بعنوان «Political Integration and Political Development» ينظر «مايرون وينر» – أستاذ العلوم السياسية وعضو مركز الدراسات الدولية بجامعة ماساشوستس بأمريكا – للتنمية السياسية على أنها عملية التكامل أو الانصهار السياسي Political integration، ويريد بذلك الانصهار الإقليمي تحت سلطة مركزية، إضافة إلى تكامل القيم بإيجاد معايير للتفاهم السياسي بين الوحدات الاجتماعية المختلفة وانسجام القادة والشعوب بتبادل الثقة والاحترام بين الطرفين واستعداد الأفراد والجماعات للعمل في مناخ تعاوني لإدارة مؤسسات الدولة أو لتحقيق ائتلاف من أجل أغراض العمل العام، وأيضًا العمل السياسي لتحقيق أهداف مشتركة إلى جانب الالتزام السياسي والجماعي بترجيح المصلحة العامة على المصلحة الفردية [5].

أخيرًا تعني التنمية السياسية بصورة أساسية تحقيق الاستقرار السياسي كشرط مهم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية [2]، يضمن استمرار السياسات والاستراتيجيات القومية ويشجع الاستثمار طويل المدى ويكفل تحقيق العوائد منه. وفي عبارة موجزة، يقاس نمو وتطور الدولة السياسي بمدى استقرار الوضع السياسي فيها وتغير موازين القوى داخلها وفي علاقاتها مع الخارج، ضمن محددات سياسية قانونية ثابتة يمكن تطويرها اعتمادًا على شروط سياسية صلبة.


التنمية السياسية: أول الأجندة

خاضتأوروبا معركة التنمية السياسية في العصر الحديث عبر سنين من الثورات والحروب، بدأت منذ التحولات السياسية التي شهدها القرن الخامس عشر وانتهت بتأسيس وتطبيق مفهوم الدولة القومية الحديثة بتوقيع معاهدة ويستفاليا (1648م) التي تعتبر وثيقة ميلاد الدولة القومية (Nation state) استنادًا على مثلث الأرض والشعب والسيادة. وتبع هذا التطور السياسي بالمقابل تطور في نظم الحكم من الامبراطوريات مرورًا بالملكيات المطلقة والجمهوريات وانتهاء بالبرلمانيات والدول الديمقراطية.

الناظرلهذه التحولات وتبعاتها عن كثب يمكن أن يلحظ أن كل التحولات الاقتصادية تمت في ظل التحولات السياسية، إلا أنه كذلك بدرجة معقولة يمكن الادعاء بأن التنمية السياسية تأثرت أيضًا بالحركة الاقتصادية التي نشأت في ظلها. فالثورة الصناعية لم تكن لتنشأ لولا مفاهيم الحرية الطبيعية ومؤسسة الملكية الخاصة والحماية وتقسيم العمل التي نظّر لها المفكرون السياسيون الذين كانت الدولة الحديثة بلورة لإنتاجهم. لم تكن لحادثة اقتصادية تنموية بأهمية الثورة الصناعية لتحدث في ظل العصور الوسطى وعهود الصراع القبلي السياسي والمعارك الدموية ومقاومة الكنيسة، ولم تكن الكشوف الجغرافية للبحث عن مصادر المواد الخام التي تمت في ظل استقرار سياسي لبعض الممالك في أوروبا لتحدث أيضًا لولا التطور والتنمية السياسية التي حدثت هناك. وثمة شواهد مماثلة في أقصى شرق الكوكب عن استباق التنمية السياسية للتطور الاقتصادي. وهذا هو الحال بصفة عامة، أن تسبق التنمية السياسية كل نظيراتها في الدفع بالتغيير.

منناحية أخرى، ومن أجل التبرير لضرورة سبق التنمية السياسية من شاهد موضوعي، هو أننا في المقام الأول، ولكي تصبح القوانين والسياسات التي تحكم النشاط الاقتصادي والمالي ونظام الضرائب والإيرادات والنفقات والميزانية العامة تتمتع بالإجماع الشعبي العام ومن ثم تصبح راسخة وصلبة لأنها نابعة من مبادئ وقيم المجتمع، بحيث تؤدي إلى خلق مناخ اقتصادي واستثماري مستقر، نحتاج لتعريف ما هو عادل بالنسبة لنا، وهو سؤال سياسي في المقام الأول. فالعدالة هي التي يجب أن تحدد ما هو قانوني. والعدالة السياسية هي محور الفكر السياسي وغاية العمل السياسي. وبالتالي عندما نتحدث عن تنمية سياسية، فإننا نتحدث عن تركيب وتنزيل مبادئ العدالة في الدولة عبر مؤسساتها ومكاتبها ونصوصها الدستورية بحيث تصبح الدولة بطبيعتها الإطار العادل لكل ما يجب أن يحدث فيها، وتصبح القوة الدافعة نحو العدالة في الوقت نفسه عبر برامج التنمية التي تتبناها.

منالمهم إدراك جوانب قصور مؤسسات البحث والمعاهد الأكاديمية والجامعات المشتغلة بالتنظير للتنمية أو إعداد المذكرات والأوراق البحثية في هذا المجال. فهي في الغالب تعجز عن الرصد الكامل للاختلالات العملية التي يواجهها المنخرطون في السوق؛ لذلك تجيئ مقارباتهم مثالية بالنسبة لواقع مغاير بعض الشيء. فظواهر كالاقتصاد الحزبي – حيث يسيطر الحزب الحاكم على مفاصل الاقتصاد في البلاد – لا يمكن الشعور بها من داخل مؤسسات البحث بل يتم التعرض لها فقط من قبل التجار والمستثمرين وأصحاب الأعمال بحلوها ومرها؛ فهي تمر قانونيًا عبر الدفاتر والسجلات الرسمية وأجهزة الرقابة التشريعية، لكن يتم توجيهها وتحريكها خارج مكاتب العمل في أروقة الأحزاب وضمن علاقات السياسة، هذا بالطبع إن لم تقفز فوق الدفاتر الرسمية.

إذًا كيف يمكن تقنين مثل هذه الظواهر أو تفتيتها، والتي يمكن أن تؤدي بدورها لظواهر اقتصادية معيقة للتنمية مثل الاحتكار أو ظواهر سياسية سلبية بصعود الأحزاب اقتصاديًا على حساب بعضها البعض في ميدان غير ميدانها أو صعودها على حساب مجموعات النشاط الاقتصادي؟

الإجابةبالتأكيد: «عن طريق السياسة». فالعمل السياسي له لاعبين، خصوم وحلفاء، وكل فعل أو ممارسة من أحد أطرافه لا بد أن يواجه برد فعل أو مقاومة من الطرف الآخر، طالما يتنافى ذلك مع مبادئ الحزب. وله كذلك ميدان يطال ما يحدث بداخله مناحي الحياة الأخرى الاقتصادية والاجتماعية، فكل نشاط سياسي في غير ميدانه يجب أن تزيله الدولة أوتوماتيكيًا أو ترده إلى الحقل السياسي عبر قوانينها وأجهزتها أو بضغط من الفاعلين السياسيين في الطرف الآخر. وفي تقديري ظاهرة كالاحتكار الحزبي تعالج بضغط الأحزاب اليسارية أنصار تفتيت الثروة على نظم وأجهزة المحاسبة المالية والرقابة القانونية والمراجعة العامة، وحشد السند الشعبي والإعلامي وتسليط الضوء على تلك الممارسات ونقدها باستمرار.

ماأود قوله هو: إن ظواهر كالاقتصاد الحزبي أو الاحتكار أو نمو دخل الطبقات ذات الدخل المرتفع على حساب الطبقات الأقل دخلًا، أو ارتفاع ميزانية الدفاع على حساب الخدمات الحيوية الأخرى، أو قصور التجارة الخارجية وعدم فاعليتها أو الزيادة في فجوة المدخرات القومية أو فجوة العملات الأجنبية، يتم علاجها جذريًا فقط في مستوى السياسة والدولة. وهنا تتضح أهمية التنمية السياسية كمرجع للتأثير في نظم ولوائح النشاط الاقتصادي والمالي وفق مصالح المجتمع المُجمع عليها كذلك سياسيًا (ديمقراطيًا).

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. فضل الله علي فضل الله، إدارة التنمية – منظور جديد لمفهوم التحديث، مطابع أكاديمية نايف للعلوم الأمنية – ١٩٩٧
  2. William M. McCord, The case for pluralism, Frank Tachau ed., 1972
  3. Lucian W. Pye , Aspects of political development, Amerind publishing Co., 1966
  4. Lucian W. Pye , Aspects of political development, Amerind publishing Co., 1966
  5. Lucian W. Pye , Aspects of political development, Amerind publishing Co., 1966