الدولة الرائدة في إنتاج اللقاحات المضادة لفيروس كوفيد- 19 تحولت لأكبر مستجدٍ للقاحات في العالم، كما تقوم الهند بتصدير الأكسجين واللقاحات بينما تعاني نقصًا مرعبًا في كليهما إذ سجلّت قرابة 3 ملايين إصابة في غضون الأيام الأخيرة، فيبدو أن القيادة الهندية تمارس السياسة والدبلوماسية الخارجية على حساب شعبها الذي يحصده الوباء.

الانتقادات في الداخل الهندي ارتفعت واصفةً رئيس الوزراء، ناريندا مودي، بالتربح من الوباء، وبأن التجارة بتصدير اللقاحات أكثر أهمية من حياة الناس. وقال المتحدث الرسمي باسم البرلمان الهندي، آجاي ماكِن، إن مودي قد تخلى عن مسئولياته. كما قالت الأمينة العامة للبرلمان، بريانكا غاندي، إنه يبدو أن حياة الهنود غير مهمة، وإن الوضع الذي تعيشه الهند لا يمكن وصفه سوى بالمخزي.

بخاصة وأن الهند تُعتبر أكبر مصدر للأكسجين في العالم، وضاعفت إنتاجها بالفعل في منتصف عام 2020، لكنها في الأيام الماضية اضطرت للاستيراد. وحتى عند الاستيراد قسمت إدارة مودي الهنود لأشخاص مهمين ولفقراء، أما المهمون فتوفر لهم الدعم والأكسجين، لكن الفقراء فتُركوا بلا حماية أو دعم، مادي أو معنوي، في مواجهة الموت.

لا تقتصر مسئولية مودي على مجرد المسئولية السياسية لكن تقع عليه مسئولية حقيقية تجاه ما تعانيه الهند، ففي 17 أبريل/ نيسان الماضي خرج مودي أمام مؤيديه لا يرتدي قناعًا وتفاخر أمام الحشد بأنه لم يرَ حشدًا كبيرًا مثل هذا منذ زمن طويل. هنا تكون مسئولية مودي وحكومته ليس أنهم لم يستعدوا لموجة وبائية جديدة فحسب، بل لأنهم شجعوا التجمعات والمهرجانات الجماهيرية، بخاصة التجمعات الدينية الهندوسية التي تدعم حزب مودي القومي الهندوسي.

نُصدر اللقاحات ونتعالج بالأعشاب

على صفحة كاملة في الصُحف الرسمية نشر مودي بيانًا يقول فيه إنه لن يُوقف أي حاج هندوسي من التجمع والاغتسال في نهر الجانج بحجة الإجراءات الاحترازية، علّل مودي ذلك بأنه يؤمن أن الإيمان بالله يجب أن يتغلب على الخوف من الفيروس. وتبدو الحجة الأكثر منطقية أن رغبة مودي في اقتناص نجاح انتخابي أكبر من الإيمان والخوف، ففي قلب الأزمة يُغرد مودي بصور له وسط مسيرات مؤيده وحملات ترويجية انتخابية، وبجانبه يظهر وزير الداخلية رغم أنه من المفترض أن يكون في العاصمة للتنسيق من أجل توفير التأمين الكافي لإمدادات الأكسجين.

ولم يبذل مودي جهدًا في إقناع شعبه بتلقي الكمية القليلة من اللقاحات التي وفرها لهم، بل شجع مودي ضمنيًا الصوت المتحدث عن الآثار الجانبية للقاحات، وحثّ شعبه على اللجوء للطب التقليدي وشرب بول البقر وتناول الكركم من أجل الوقاية من كوفيد- 19، ومن أجل تعزيز جهازهم المناعي. ليس فقط أنه صدّر اللقاحات الهندية للخارج، بل إنه كذلك لم يقبل أن يفتح أبواب بلاده أمام اللقاحات الصينية بسبب الخلافات بين البلدين. ولم يقتنع مودي إلا قريبًا بمنح الترخيص الطارئ للقاح الروسي سبوتينك في.

رغم ذلك نجح مودي في استغلال الأزمة ليصور أتباعه أن مودي هو الحل الوحيد للأزمة، ولا غنى عنه في مواجهة الوباء. موقف كلاسيكي يقوم به القادة الشعبويون دائمًا منذ أدولف هتلر وموسوليني إلى دونالد ترامب، فالأزمات الجماعية والأحداث المؤسفة غالبًا ما تكون سلمهم للارتقاء إلى السلطة. فمن خلال استغلال الأزمات، التي ربما يكونون هم أنفسهم من تسببوا فيها، يقدّم الشعبويون أنفسهم باعتبارهم المخلّصين والفاعلين، فتتطلع لهم الجماهير وتنتظر منهم الخلاص والعزاء.

يبالغ الشعبويون، أمثال مودي، في تمجيد مهاراتهم المُتخيلة في إدارة وحل الأزمة لإقناع الناخبيين باختياراهم مرة أخرى. وقد نجح في ذلك عبر عدد من الضربات الجريئة للمعسكر الباكستاني، فانتشر المصطلح الهندي مودي يجعل ذلك ممكنًا. وأصبح مودي هو مدير الأزمات النهائي الذي كانت تستحق الحصول عليه منذ عقود لكنها لم تحصل عليه.

آلام قصيرة الأمد

لم يُقدم مودي أي خطوط عريضة لحل الأزمة بل اكتفى بفرض حظر تجوال لمدة يوم واحد، وطلب من الأهالي الخروج كل يوم في تمام الساعة الخامسة لطرق الأواني في النوافذ تصفيقًا ودعمًا للأطقم الطبية التي تواجه الوباء. يبدو أن مودي لم يكن مهتمًا بالأطقم الطبية قدر اهتمامه أنه بناءً على طلبه سوف تضج الهند بالضجيج في طقس ثابت يوميًا، كأنما هو إله يأمر أتباعه.

ولم يترك أتباع مودي الأمر يمضي ببساطة، بل غمرت القنوات الهندية ومواقع التواصل الاجتماعي بأحاديث عن كيف يمكن للاهتزازات التي يصدرها الضجيج مع التراص الكوكبي الصحيح أن يقتلوا الفيروس، ولا تنتهي تلك الأحاديث إلا بشكر مودي على نشره المعرفة الهندية الصحيحة والأصيلة على مسامع العالم.

بتلك الطقوس الجوفاء نجح مودي في إقناع الشعب بأنه قائد أكبر من الوباء، وحتى حين تراجع عن فوضاه وأصدر قرارًا بالإغلاق لمدة 21 يومًا، رحب به الهنود كمدير قوي وحازم للأزمات. وحتى حين عان الفقراء من الآثار الاقتصادية المدمرة للإغلاق، ونزح آلاف العاملين من العاصمة لقراهم الأصلية في أطراف الهند، لم يقدم مودي أي حلول سوى حديث إذاعي يخاطب فيه الجماهير قائلًا إنه يشعر أنهم سوف يسامحونه، وإن ضميره يؤنبه لكن لا شيء بيده.

نفس الخطاب العاطفي قاله مودي عن قراره بإلغاء العملة الهندية، فقال إن قراره سببّ ألمًا قصير الأمد لكنه سيحقق نتائج على الأمد البعيد. وأعلن أنه مستعد لتلقي أي لوم، لكنه اضطر لفعل ما يلزم. وبالطبع فإن ظهوره كقائد يشعر بالتعاطف ولكنه في الوقت ذاته قادر على اتخاذ قرارات جريئة، يؤثر في قلوب كثير من المؤيدين والمعارضين، وتلك خلطة مضمونة يستخدمها غالبية الشعبويين في العالم.

تلك الخطابات تُسكن آلام الناس، وتجعلهم مشغولين بآلامهم ولا ينظرون إلى أن رد الفعل الحكومي المناسب كان من الممكن أن يجنبهم تلك الآلام. حتى صندوق التصدي للوباء الذي ستموله الجماهير والتبرعات أُطلق عليه، رئيس الوزراء يهتم، بي إم كيرز، لأنه لا بد أن يرتبط اسم رئيس الوزراء بالرفاهة الاجتماعية، فهو رجل الساعة حتى لو يفعل شيئًا.

الفشل في الإدارة لا يساوي خسارة الانتخابات

مودي وحزبه يحاولون بجدية إلصاق الأمر بمسلمي الهند، في صورةٍ جديدة لاستغلال الأزمة. ويشيع الحزب الحاكم أن المسلمين هم من يقومون بجهاد جديد لنشر الوباء، وأنهم كونهم الشريحة الأضعف في البلاد يحاولون قتل أكبر عدد من الهندوس، كما لو كان المسلمون محصنّين من الوباء. وزعم الحزب الحاكم أيضًا أن المسلمين يقومون بإرهاب كورونا عبر البصق المتعمد على مقدميّ الخدمة الطبية.

اللافت أنه ليس المسلمون وحدهم من تُحملهم الحكومة وزر نشر كورونا، بل حتى الهندوس، لكن ليس كل الهندوس بل أفقر فقرائهم. فحين ظنوا أن عنصريته ستكون لصالحهم، كونهم يتفقون معه في الطائفة، إلا أنهم صدموا حين اكتشفوا أن سياساته لا تبالي بهم، وحتى أنه قد صدرت بعض القرارات بمنع دخولهم للأحياء الغنية التي تسكنها الطبقات العليا خوفًا من نشر الفقراء للمرض. واضطرت إجراءات مودي أكثر من 140 مليون عامل للعودة إلى قراهم سيرًا على الأقدام، بلا ضمانات بالعودة مرة أخرى لأعمالهم، ولا بالتعويضات.

كما أن سياسات مودي قد سلّمت مسئولية الرعاية الصحية والبنية التحتية للشركات الخاصة التي باتت تسيطر حاليًا على 74% من سوق الرعاية الصحية، وتمتلك 40% من أسرة المستشفيات في الهند. وتنفق الهند رسميًا أقل من 1% من الناتج المحلي على موازنة الصحة، وهو من أقل المعدلات في العالم.

كل تلك الإجراءات الصارمة في بلد يعاني من معدلات بطالة مرتفعة للغاية تصل إلى 23%، في شهر أبريل/ نيسان 2021. وفوق كل ذلك فإن نصف السكان يعيش بأقل من 1.5 دولار يوميًا. كانت كل تلك الأرقام مستترةً خلف الصور الوردية للأمة القومية المكتفية بذاتها والتي قهرت الوباء في شهور عديدة، لكن جاءت الجائحة لتضع تتويجاً لهذه المآسي وتبرزها.

على الرغم من كون أزمة كورونا قد أظهرت قصور الشعبوية وعجزها عن إدارة الأزمة على المستوى الدولي، فإن الأزمة قد تكون بمثابة فرصة جيدة لمودي تحديدًا كي يحكم سيطرته على السلطة أكثر، رغم أن تلاحم غروره مع الجائحة هو ما سبب الجحيم الذي تعيشه الهند اليوم.