منذ تخلصت إثيوبيا من الحكم العسكري عام 1991، وهي تعيش حالة من الاستقرار النسبي، مقارنةً بعقود الفوضى والحرب التي سبقتها، صحيح أن التجربة السياسية الفيدرالية بقيادة «ملس زيناوي» لم تقتلع جذور الفوضى ومُسبِّباتها من البلاد، ولكن نجحت في إدارتها بحكمة، وحاولت التوفيق بين مصالح ورغبات الفرقاء والقوميات المتعددة هناك.

لذلك، رأى المحللون أنه على مدى حكم زيناوي للبلاد (وصولاً إلى وفاته عام 2012)، كانت إثيوبيا مصدراً للأمل، حيث حافظت الدولة على وتيرة سريعة للنمو الاقتصادي، ونجحت في تقليص الفقر، ورفع متوسط ​​العمر المتوقع، وأصبحت مركزاً صناعياً لعلامات تجارية عالمية، ناهيك عن طفرة البناء والعمران في أديس أبابا، وصارت الخطوط الجوية الإثيوبية أنجح شركة طيران في القارة.

انفرط عقد الأزمات من جديد بعد وفاة زيناوي، وتجددت نسبياً الأزمات القومية، إلى أن جاء «آبي أحمد» إلى سدة الحكم في مارس/أذار 2018، رافعاً شعارات الإصلاح السياسي، ومُنهِياً لحرب مريرة مع إريتريا، امتدت إلى عقدين من الزمن، ومُتوَّجاً بجائزة نوبل للسلام في 2019.

ساد التفاؤل، وارتفعت الآمال، ولكن سرعان ما انقلبت الأمور رأساً على عقب، وبدا أن الرجل يحمل مشروعاً سياسياً سيُبدد جُل مكتسبات التجربة الفيدرالية، على مدى العقود الثلاثة الماضية.

التطور السياسي في إثيوبيا

ربما ترتبط أحداث العنف المتجددة في إثيوبيا حالياً بأسباب مباشرة، فاقمت التوترات وأشعلت الفتيل في لحظة الذروة، وهذه هي طبائع الأمور عند الحديث عن الصراعات السياسية (سواء بين الدول أو داخلها). لكن بكل تأكيد لن تكون الأسباب المباشرة كافية لفهم المشهد الإثيوبي بشكل عميق، فأحداث العنف الجارية حالياً تقبع جذورها في تاريخ مر عليه أكثر من 125 عاماً، منذ استقلال إثيوبيا عن الاحتلال الإيطالي عام 1896، وما زالت تطوراته تُنتِّج فوضى من الصراعات المدمرة.

لذلك من الضروري إلقاء نظرة فاحصة على ديناميات تطور الحياة السياسية المتصلة، عبر القرن الماضي.

1. الإقصاء العرقي

يتوزع سكان إثيوبيا، البالغ عددهم 110 ملايين نسمة، بين نحو 80 قومية، لكل منها عاداتها وتقاليدها الخاصة ولغتها المحلية؛ حيث يصل عدد اللغات المتداولة هناك إلى 100 لغة. وغالباً ما نتحدث عن 3 قوميات رئيسية، كانوا هم أبرز اللاعبين السياسيين على الساحة: القومية الأولى هي «الأورومو»، ويتركزون في أوروميا بوسط إثيوبيا ويشكلون نحو 40% من عدد السكان. الثانية هي «الأمهرة»، وهي ثاني أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا ويتحدثون اللغة الأمهرية، وهي اللغة الرسمية للجمهورية الإثيوبية، ويشكلون نحو 25% من عدد السكان. أمَّا «التيغراي»، فيشكلون نحو 6.1% من الشعب الإثيوبي، كما أن أغلبهم يعيشون في شمال البلاد.

هذا التنوع العرقي والإثني الواسع أنتج العديد من الصراعات العرقية، فضلاً عن النزاعات الانفصالية، حيث لم تجد البلاد على مدى القرن الماضي صيغة للتعايش السلمي بين عرقياتها. ولم يسعَ كل نظام سياسي إلى حرمان باقي العرقيات المتعددة من حقها الثقافي والاجتماعي والسياسي فحسب، بل أيضاً جعل التماهي مع عرقيته السبيل الوحيدة لتقلُّد المناصب العامة.

البداية كانت مع منذ أواخر القرن الـ 19، مع صعود الإمبراطور «منليك الثاني»، والذي سعى إلى «أمهرة» العرقية الإثيوبية، واجتاحت قواته العسكرية جنوب إثيوبيا الحالي. ثم جاء الإمبراطور «هيلا سيلاسي» (الذي تولى مقاليد الحكم في الفترة من 1930 إلى 1974)، ليسير على نفس السياسة الإقصائية، وعانت البلاد خلال حكمه من عدم المساواة العرقية والثقافية والاستغلال الاقتصادي، وواجه النظام تحديات متنوعة تتراوح بين تمردات الفلاحين في تيغراي وبيل وغوجام، ووصل الأمر إلى الحرب الانفصالية في إريتريا التي كان هيلاسيلاسي قد ضمها لإثيوبيا.

وعلى إثر هذه التناقضات نجح مجموعة من الضباط الأمهريين في تنفيذ انقلاب عسكري، حكموا على إثره البلاد في الفترة من 1974 إلى 1991، تحت اسم «ديرغ»، وهو الاسم الذي يُشير إلى «الحكومة العسكرية المؤقتة لإثيوبيا الاشتراكية». وقد حُكمت البلاد خلال هذه الفترة بنفس السياسة الإقصائية السابقة، مع استخدام أكثر شدة لأدوات الحديد والنار، فيما عُرف بـ «الإرهاب الأحمر».

2. نظام الفرد

تمحور النظام السياسي الإثيوبي على مدى القرن الماضي حول شخصية الحاكم الفرد، على حساب دولة المؤسسات، ومن ثَمَّ فإن بقاء النظام السياسي ظل مرهوناً بالظروف الشخصية المحيطة بالحاكم، بما يُرسخ فكرة الحكم المركزي، والانحياز لعرقية الحاكم.

فعندما تراخت قبضة الإمبراطور هيلا سيلاسي على الحكم وتراجعت قدراته في إدارة الدولة بسبب الشيخوخة، نجح ضباط الـ «ديرغ» في الاستيلاء على الحكم عام 1974. وعندما اشتد ضغط التمرد المسلح على هذا الحكم العسكري عام 1991، هرب «منغستو هيلا مريام» -رئيس الوزراء آنذاك- وتخلى عن السلطة.

وبعد ذلك، ورغم تشكل ائتلاف حاكم سُمي بـ «الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية»، ضم الأحزاب الأربعة الممثلة للعرقيات الكبرى في البلاد: (المنظمة الديمقراطية لشعوب أورومو، وحركة أمهرة الوطنية الديمقراطية، وحركة شعب جنوب إثيوبيا الديمقراطية، وجبهة تحرير شعب تيغراي). كان «ميليس زيناوي» الذي ينتمي إلى عرقية التيغراي هو محور النظام السياسي، فهو من قاد البلاد منذ عام 1991 إلى حين وفاته عام 2012، ما بين رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء.

وقد ترأَّس زيناوي الائتلاف الحاكم، وكان بمثابة مركز الثقل داخله، وبموته اهتز تماسك الائتلاف وزادت وتيرة تصدعاته الداخلية. بل يرى البعض أن غياب زيناوي عن المشهد هو بداية النهاية للتجربة الفيدرالية الإثيوبية.

3. الثورة الدائمة

نتيجة لما سبق، عاشت إثيوبيا في حالة دائمة من الثورة، إمَّا بهدف الاستقلال التام عن الدولة الإثيوبية، أو بهدف تغيير نظام الحكم وإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية مع المحافظة على كيان هذه الدولة؛ فنجد الثورة الإريترية التي انتهت باستقلال إريتريا وانفصالها عن إثيوبيا عام 1993، ونجد حركات مثل «جبهة تحرير أوغادين» و«جبهة تحرير أورومو» و«جبهة تحرير تيغراي»، الذين يسعون للاستقلال عن الدولة. كما أن انتقال السلطة في 1974 وفي 1991، لم يتم إلا بحراك عسكري وشعبي، أسقط الأنظمة الحاكمة بالقوة.

خَفُتت حدة التمرد والاحتجاج في عهد زيناوي، وذلك بعد صياغة دستور توافقي جديد (عام 1994)، منحت مادته الـ 39 الحق للشعوب والقوميات الإثيوبية في تقرير مصيرها، بجانب أن الائتلاف الحاكم كان مُمثلاً – حتى إن كان شكلياً – للقوميات الرئيسية في البلاد. ولكن يبدو أن العقد قد انفرط من جديد بعد وفاة زيناوي عام 2012، فخرجت الحركات الاحتجاجية المعارضة عام 2013، وخرجت قومية الأورومو في مظاهرات عارمة عام 2015، وتكرر الأمر عام 2016 من جانب قوميتي الأورومو والأمهرة معاً، ثم وصلت الأمور إلى ذروتها في عهد رئيس الوزراء الحالي «آبي أحمد».

المشروع السياسي لآبي أحمد

في مارس/أذار عام 2018 انتخب الائتلاف الحاكم في إثيوبيا الدكتور آبي أحمد رئيساً جديدا للوزراء، وهو منْ ينحدر من عرقية الأورومو، التي قادت الاحتجاجات المناهضة للحكومة السابقة على مدى سنوات (2015-2018). واختار «ائتلاف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية» آبي أحمد رئيساً للائتلاف مما يجعله رئيساً للوزراء بشكل تلقائي خلفاً لرئيس الوزراء السابق «هايلي مريام ديسالين»، الذي أعلن استقالته في وقت سابق من نفس العام.

جاء آبي أحمد رافعاً شعارات السلام والإصلاح السياسي، فقام بإطلاق العديد من السجناء السياسيين، ورفع أسماء الجبهات الإثيوبية المسلحة من قائمة الإرهاب، وسمح لها بالعودة إلى إثيوبيا للانخراط السلمي في العملية السياسية، ورفع حالة الطوارئ التي كانت الحكومة السابقة قد أعلنتها لمواجهة الاحتجاجات الشعبية. وعلى المستوى الخارجي، سارع إلى فتح صفحة جديدة من التعايش السلمي مع إريتريا لإنهاء حالة الحرب القائمة بين الجارتين منذ عام 1998، ووقَّع اتفاقية السلام مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في مدينة جدة في 17 سبتمبر/أيلول 2018.

ولكن يبدو أن هذه الإصلاحات جاءت فقط كمقدمة لمشروع آبي أحمد المثير للجدل حول مستقبل الحكم في إثيوبيا، والذي عبَّر عنه في كتابه «فلسفة مديمر»، وهو يتمحور حول تقويض الفيدرالية العرقية في البلاد لصالح دولة مركزية تنتهي معها الاختلافات القومية، وكأن آبي أحمد يرغب في خلق قطيعة مع الإرث السياسي للائتلاف الحاكم منذ 1991، فكانت أولى خطواته في هذا المشروع تأسيس «حزب الازدهار» في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وهو تحالف يضم ثلاثة أحزاب من الائتلاف الحاكم السابق (المنظمة الديمقراطية لشعوب أورومو، وحركة أمهرة الوطنية الديمقراطية، وحركة شعب جنوب إثيوبيا الديمقراطية)، باستثناء جبهة تحرير تيغراي، التي رفضت الانضمام إليه واعتبرته انقلاباً دستورياً.

وتُظهِر سياسات آبي أحمد باستمرار رغبته في تكرار تجربة حليفه الرئيسي «أسياس أفورقي» في إريتريا، بترسيخ النموذج الأوتوقراطي للقيادة في السلطة – حكم الفرد – من خلال الاستحواذ على كل مفاصل الدولة تحت سيطرته، حتى يتمكَّن من فرض رؤيته حول مستقبل النظام السياسي في إثيوبيا خلال السنوات المقبلة، وضمان استمراره على رأس السلطة لأطول فترة ممكنة، وتحقيق الطموح الشخصي له بتدشين حقبة سياسية جديدة في التاريخ الإثيوبي.

كسر نفوذ جبهة «تيغراي»

وصل آبي أحمد إلى السلطة وهو يدرك أن جبهة تحرير تيغراي هي العائق الأكبر –سياسياً وعسكرياً – أمام مشروعه السياسي، فهي من قادت الكفاح المسلح تجاه النظام العسكري حتى سقط عام 1991، ثم قادت البلاد سياسياً وكانت المسئولة عن تصميم وتنفيذ مشروع الفيدرالية في إثيوبيا، ولطالما عارضت فكرة الدولة المركزية التي فرضت الثقافة الأمهرية وأدت إلى معاناة الجماعات العرقية المختلفة؛ ولذلك استند المشروع السياسي للتيغراي على فصل إثيوبيا عن بعضها البعض وإعادة تجميعها مرة أخرى على أساس احترام الهويات واستقلاليتها.

حاول آبي أحمد كسر قبضة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي على السلطة وتجريدها من العديد من امتيازاتها. قاد حملة تمييز منهجي ضد أبناء التيغراي، حيث أبعد مسئولين تيغرايين من السفارات، ومن بعثة الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام في الصومال، وحتى من شركة الطيران الوطنية. ووفقاً لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» فقد تعرض سكان التيغراي الذين يعيشون خارج الإقليم إلى مضايقات بشكل متزايد، حتى من خلال المداهمات التعسفية لمنازلهم من قبل قوات الأمن. حتى لجنة حقوق الإنسان في إثيوبيا قالت إنها «تشعر بقلق بالغ» بشأن التنميط العرقي للتيغراي الذي يتجلى في الإجازة القسرية من العمل، وفي منعهم من السفر إلى الخارج سواء للعمل أو لتلقي العلاج الطبي أو الدراسة.

تصاعدت الحرب الكلامية بين أحمد وقادة جبهة تحرير تيغراي، وتفاقم الوضع أكثر مع قرار الحكومة المركزية تأجيل الانتخابات العامة التي كان مقرراً إجراؤها في أغسطس/آب 2020، مُتعللة بالخوف من تفشي فيروس كورونا، وهو ما اعتبرته قوى المعارضة الإثيوبية -وعلى رأسهم جبهة تيغراي- محاولة من آبي أحمد للهروب من الانتخابات بعدما تراجعت شعبيته. فقرر إقليم تيغراي تحدي الحكومة من خلال المضي في إجراء الانتخابات الخاصة به في 9 سبتمبر/أيلول 2020. وصنَّفت أديس أبابا حكومة تيغراي بأنها غير قانونية، بينما لم يعد قادة تيغراي بدورهم يعترفون بإدارة آبي أحمد. وقررت الحكومة تقليص الأموال الفيدرالية المخصصة للإقليم، وهو ما اعتبرته الجبهة بمثابة «عمل حربي».

تحولت الحرب الكلامية بين الطرفين إلى حرب حقيقية في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بعدما اتهم آبي أحمد الجبهة بالهجوم على معسكرات الجيش الفيدرالي في تيغراي، وأمر الجيش بالتحرك لتأديب الجبهة التي «كسرت الخطوط الحمراء».

وهكذا، لم يعد لقيادة تيغراي خيار سوى العودة لسيرتها الأولى، كحركة مسلحة تحمل أجندة ذات طابع قومي، وتسعى إمَّا إلى تحقيق الانفصال وإعلان دولة مستقلة، وإمَّا إلى العودة لحكم إثيوبيا ككل، وفي كلتا الحالتين يبقى خيار «حرب العصابات» وسيلتها لمواجهة الدولة المركزية.

خلَّفت حرب التيغراي عشرات الآلاف من القتلى، وفرَّ أكثر من 60 ألف لاجئ إلى السودان، وفر حوالي 700 ألف شخص إلى شرق تيغراي هرباً من المنطقة الغربية التي تحتلها حالياً ميليشيات الأمهرة والقوات الإثيوبية الخاصة. ووجَّهت منظمات حقوق الإنسان اتهامات إلى حكومة آبي أحمد بممارسة التطهير العرقي في إقليم تيغراي. أي أن تكلفة الحرب السياسية – قبل العسكرية – كانت كبيرة بالنسبة لآبي أحمد، ورغم ذلك لم يكن انتصاره العسكري حاسماً ونهائياً.

فرغم سيطرة القوات الإثيوبية على جزء كبير من الإقليم، لكنها لا تتمتع بالسيطرة الكاملة، ولا يزال العديد من قادة ومقاتلي جبهة تحرير تيغراي طُلقاء. وكان أحد الأسباب التي جعلت القوات الإثيوبية قادرة على الاستيلاء على عاصمة الإقليم «ميكيلي» بهذه السرعة هو أن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي قد سحبت بالفعل العديد من مقاتليها وأرسلتهم نحو المناطق الريفية في المنطقة والمناطق الجبلية النائية. لذلك من المحتمل أن يقود التيغراي تمرداً عسكرياً منخفض الدرجة وطويل الأمد ضد آبي أحمد، ليستمر الإقليم كحجر عثرة أمام مشروعه السياسي.

امتداد الفوضى

بعيداً عن إقليم تيغراي، لم يثبت آبي أحمد نجاحاً في إدارة أزمات البلاد، بل في بعض الأحيان كان سبباً مباشراً في تفاقمها، حيث فشل في فرض سيطرة فاعلة على أقاليم إثيوبيا الشاسعة. ورغم انحداره من إقليم «أوروميا»، لكنه فشل رغم ذلك في كبح الاضطرابات هناك أو في أقاليم «ووليجا الغربية» و«بني شنقول-غومز». وهي الأقاليم التي اشتعلت اضطراباً بالتزامن مع استمرار القتال في تيغراي. وفي المقابل لم يُقدِم آبي أحمد على استخدام أي وسيلة لمواجهة هذه الفوضى والاضطرابات سوى استعمال القوة.

وفقاً لبيانات موقع النزاع المسلح ACLED، ارتفع عدد القتلى بسبب العنف السياسي على المستوى الوطني بنسبة 33% في سنوات حكم آبي أحمد مقارنة بخط الأساس قبل عامين. وشهدت أعمال العنف في ولايات مثل ولاية «بني شنقول-غومز» زيادة بنسبة 974% في السنوات نفسها، وقد شهد إقليم تيغراي – بالطبع – قفزة هائلة في معدلات العنف بنسبة 1690%.

1. العنف في ولاية «بني شنقول»

بداية أعمال العنف هذه كانت في سبتمبر/أيلول عام 2018، حين بدأت قومية «قميز» في استهداف وطرد الأقليات العرقية الموجودة داخل مناطق الإقليم، خاصة قومية الأورومو، على خلفية مقتل أربعة موظفين كبار في حكومة الإقليم. عقب ذلك طارد مسلحو القميز أفراد الأورومو وأخرجوهم من كل مناطق منطقة «كماشي» جنوبي الإقليم، وأجبروهم على الإقامة بشكل شبه دائم في إقليمي تيغراي وأوروميا.

تجددت أعمال العنف مرة أخرى في الإقليم بالتزامن مع بدء العمليات العسكرية في تيغراي، حيث هاجم أفراد قومية قميز منازل تعود للأقليات العرقية في الإقليم، وقتلوا نحو 200 مدني خلال هذه الاشتباكات، والتي خلَّفت أيضاً أكثر من سبعة آلاف لاجئ.

أمَّا التطور الأخطر في الولاية التي تحتضن «سد النهضة»، كان في إبريل/نيسان 2021، حينما أفادت وسائل إعلام إثيوبية، سيطرة مجموعة مسلحة على بعض المناطق في الولاية، اعتباراً من 19 إبريل/نيسان. حيث قتلت مدنيين فيهم موظفون محليون ومسئولون في إدارة المناطق وسكان، كما دمرت ممتلكات خاصة وحكومية. وذلك في ظل انخفاض أعداد قوات الأمن في المنطقة نتيجة انشغال حكومة آبي أحمد بالقتال في تيغراي وعلى أكثر من جبهة أخرى، فضلاً عن خسارة الجيش الإثيوبي لجزء كبير من معداته في حربه مع التيغراي.

2. العنف في إقيلم «أمهرة»

رغم أن آبي أحمد ينتمي إلى قومية الأورومو، لكنه حظي بدعم وتأييد الأمهرة، نتيجة صلاته القوية بجماعاتهم، ولكن هذا الدعم لم يكن الرأي السائد في الإقليم. ففي 22 يونيو/حزيران 2019، شهد الإقليم محاولة انقلابية، قُتل على إصرها رئيس الولاية ومستشاره السياسي، كما اُغتيل رئيس أركان الجيش الإثيوبي أثناء تصديه لهذه المحاولة الانقلابية، وكذلك الحال للنائب العام للولاية. وهو الأمر الذي أحدث هزة عنيفة في علاقة آبي أحمد بالأمهرة.

تفاقمت الأوضاع في الإقليم وصولاً إلى إبريل/نيسان 2021، حيث اندلعت أعمال عنف شديدة داخل الإقليم بين عرقيتي الأورومو والأمهرة، أسفرت عن وقوع خسائر بشرية وأضرار بالممتلكات، في أحداث تعد الأسوأ خلال فترة حكم آبي أحمد، حيث تشير التقارير إلى وصول عدد القتلى إلى نحو 300 شخص، بالإضافة إلى إحراق 1539 منزلاً.

ولأن المتهم الأول في إشعال الوضع في الإقليم هي جماعة «أونق شني» المسلحة المنشقة عن جبهة تحرير أورومو، فقد خرجت مظاهرات أمهرية حاشدة للاحتجاج ضد حكومة آبي أحمد، على خلفية التكاسل عن احتواء الموقف، وتعريض حياة المئات للقتل ونزوح الآلاف، وبما وصفوه بأنه «عمليات التطهير العرقي ضد الأمهرة»، وسرعان ما تحولت الاحتجاجات إلى موجة غضب ضد حزب «الازدهار» الحاكم، ورفع المتظاهرون لافتات وهتافات تنتقد رئيس الوزراء آبي أحمد، وقاموا بتمزيق صوره.

3. العنف في إقليم «أوروميا»

هو الإقليم الذي يضم النسبة الأكبر من عرقية الأورومو، التي ينتمي إليها رئيس الوزراء آبي أحمد، وهو الإقليم الذي اعتاد الشكوى من الاضطهاد الحكومي لعقود، وقاد احتجاجات مناهضة للحكومة السابقة (حكومة «هايلي مريام ديسالين») على مدى ثلاث سنوات حتى إسقاطها.

ورغم اعتقاد البعض أن وصول آبي أحمد إلى الحكم كان إيذاناً بحياة أفضل لقومية الأورومو، إلا أنه سرعان ما عادت الاحتجاجات من جديد. وعاد الحديث عن التهميش، وتجددت النزاعات مع الحكومة حول ملكية بعض الأراضي، واتسعت رقعة المظاهرات لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان.

واجه آبي أحمد هذه المطالب بالعنف، وعمل على اضطهاد بعض القيادات التاريخية للأورومو مثل «جوهر محمد». ولكن ذروة المواجهة كانت في يونيو/حزيران ويوليو/تموز 2020، مع مقتل المغني الشعبي الأورومي «هاشالو هونديسا»، والذي اشتهر بأعماله الفنية المعارضة والمُعبِّرة عن صوت المهمشين اقتصادياً وسياسياً من قومية الأورومو. على خلفية هذا الحادث، اشتعلت المظاهرات الاحتجاجية في الإقليم، والتي واجهها آبي أحمد بكل عنف، ليُسقِط نحو 166 قتيلاً من بين المتظاهرين.

ومؤخراً دخل الإقليم على خط العنف السياسي الممتد في البلاد بين الأمهرة والأورومو، حيث شهد شهري مارس/أذار وإبريل/نيسان 2021، مقتل العشرات من المدنيين في أعمال عنف، لم تستطع القوات الحكومية السيطرة عليها. لذلك استعانت حكومة آبي أحمد بوحدات عسكرية إريترية، باتت تتمركز في الإقليم، وهي منْ دخلت إلى البلاد خلال حرب تيغراي لدعم آبي أحمد.

الخلاصة

ليس من الإنصاف القول إن آبي أحمد هو المسئول عن توليد كل هذه الصراعات والفوضى، لأن جذورها راسخة في البلاد منذ عقود، ولكن من المؤكد أن سياساته كانت المسئول الأول عن تجدد هذه الأزمات وتفاقمها بشكل متزامن.

وفي ظل التعامل الأمني الخشن، وإصرار رئيس الوزراء على تطبيق مشروعه السياسي باستخدام أدوات القوة، وقمع أي صوت مُعارِض، خسر آبي أحمد جُل حلفاءه، وتبددت الهالة السياسية التي حصدها في بداية حكمه، وصارت أدواته السياسية محدودة للتعامل مع أزمات بهذا الحجم وذلك التزامن.

ربما يكون هناك مساحة للتراجع وتعديل سياساته، وربما يحاول تحييد بعض الخصوم وتأجيل التعامل مع بعض القضايا مؤقتاً، ولكن هل يرغب آبي أحمد حقاً في استخدام هذا الخيار؟