إن كنت مهووسًا بالتوثيق والتأريخ وقُدّر لك أن تكون من عشاق الكرة المصرية، واتخذت قرارًا بجمع الأحداث التاريخية والأرقام القياسية في كتاب أو مقال واحد، فهذا يعني أنك أمام مهمة شاقة، ولا مبالغة في وصفها بالمستحيلة. كثير منا يعرف هذا جيدًا.

فلنضرب لك مثالًا بسيطًا. دعنا نكتب في محرك البحث «جوجل»: أسرع هدف في تاريخ الدوي المصري. لا توجد طريقة أكثر بساطة من هذه للحصول على معلومة، ولكنها بداية رحلة التشتيت.

ستظهر لك النتيجة الأولى أن عبد الحميد حسن في شباك المحلة عام 2005 صاحب الهدف الأسرع. أما الثانية ستشير إلى أن حسام باولو هو صاحب ذلك الرقم القياسي المهم عام 2016. لكن الثالثة ستكشف لك أن أيمن يونس هو المتصدر بين الجميع بهدفه في شباك منتخب السويس، وكلما بحثت أكثر، يزداد الانبهار وتتنوع الأسماء.

كانت كلها اجتهادات صحفية يشكر عليها من أعدوها. ولكن من يحسم هذا التضارب والخلاف؟ بالتأكيد هو الموقع الرسمي للاتحاد المصري لكرة القدم. لا ترهق نفسك، فلن تجد شيئًا هناك.

شهد كل من حاول الاجتهاد أيامًا وشهورًا من المعاناة بلا جدوى، وهذا ما حدث معنا في رحلة البحث عن قصة ميلاد درع الدوري بمناسبة إطلالته الأخيرة علينا الموسم الماضي -أو هكذا قالوا لنا-، ولكن الصدفة قادتنا إلى أن يكون البحث مجديًا.

قالوا إن المتعة في الطريق بغض النظر عما إذا حصلت على ما تريد أم لا، ولكن لطالما كانت هناك نتيجة فالرحلة أمتع. دعنا نشركك في التجربة كما حدث في رحلة البحث.

فاروق الأول وأمر ملكي

عُرف الملك الفارق بحبه للرياضة منذ صغره. ربما لم يكن محظوظًا بعدم معاصرته لفترة توهج الدوري الذي شهدت انطلاقته الأولى في موسم 1948-1949، وارتبط ابتكار درع الدوري له، أو على الأقل في عهده.

تحتاج إلى بضع ثوانٍ لتعرف هذه المعلومة بنفسك. أمر الملك فاروق الأول عام 1949 بصناعة درع يحصل عليه بطل المسابقة المستحدثة في مصر «الدوري العام». كل المصادر تشير إلى نفس المعلومة. وبما أن كل موسم يقام في عامين، منها نعرف أننا أمام احتمالين بما أننا لا نعرف في أي شهر تحديدًا أصدر فاروق هذا المرسوم الملكي.

الاحتمال الأول هو أن الموسم بدأ بالفعل دون تحديد شكل الجائزة التي تمنح للبطل، وبدأ المسؤولون التحرك على أرض الواقع بعد انقضاء عام 1948 وخلال إقامة الموسم الأول ليصبح القرار عام 1949 كما ذُكر.

أما الاحتمال الثاني هو أن الفكرة راودت الملك أو من حوله أو المسؤولين عن الدوري العام قبل بداية الموسم الجديد، وهذا يعني أن الأهلي بطل الموسم الأول قد حصل على شيء آخر غير الدرع المعروف، لم يحصل على شيء من الأساس. ويبدو الطرح الأخير غير منطقي.

بحثنا في كل الصور المتاحة والتي تعتبر أفضل توثيق لنقطع الشك باليقين، وجدنا أنه لا توجد أي صورة في أرشيف الأهلي للفريق الفائز بالبطولة الأولى بجوار درع الدوري الذي نعرفه، باستثناء صورة وحيدة للفريق الفائز بثنائية الدوري والكأس موسم 1949 – 1950.

صورة قديمة لأعضاء النادي الأهلي بمناسبة الفوز بالدوري والكأس موسم 1949 – 1950
صورة قديمة لأعضاء النادي الأهلي بمناسبة الفوز بالدوري والكأس موسم 1949 – 1950

دقق في الصورة جيدًا، ها هو كأس مصر الذي نعرفه الآن، ولكن ما هذا الدرع؟ لم يكن الذي أخبرونا أنه صُمم عام 1949!

هناك أيضًا صورة تذكارية للفريق الذي فاز بالنسخة الأولى من البطولة 1948-1949 في ملعب الأهلي بالجزيرة، ولكن الأمر ازداد غموضًا. الأهلي ليس له صورة مع الدرع الجديد آنذاك! ليس من المنطقي ألا يحرص اللاعبون على التقاط صورة مع هذا المجسم الذي يطل عليهم لأول مرة.

صورة فوز النادي الأهلي الفائز ببطولة الدوري العام موسم 1948-1949
صورة فوز النادي الأهلي الفائز ببطولة الدوري العام موسم 1948-1949

لا نريد لإدراكنا الحالي أن يؤثر علينا في الاستنتاجات. نحن اليوم نعرف قيمة الدوري ودرعه، فمن المحتمل ألا يكون هذا الجيل على إدراك كامل بقيمة الحدث التي ازدادت مع مرور السنوات، ولا مبالغة إن افترضنا أن الجميع لم يشغل باله بالمسابقة الجديدة حينها حتى الإعلام المصري نفسه.

لوحظ في رحلة البحث عن درع الدوري بين صور الموسم الأول في تاريخ الدوري أن الصحف المصرية لم تهتم بالتغطية الإعلامية لهذا الحدث. بالتالي لم يكن المصورون حاضرين في عصر الجمعة الموافق 22 من أكتوبر عام 1948 بمقر الزمالك بجوار ما يعرف مسرح البالون حاليًا بمنطقة العجوزة. كانت جريدة المصور هي الأكثر انتشارًا آنذاك، ولم تنشر أية صورة أو خبر في اليوم التالي يتحدث عن هذا الحدث المسمى «انطلاق الدوري العام».

كيف نبحث عن توثيق حين لم يكن الحدث يشغل بال الصحفيين في الأساس؟ هناك أمل أخير. فلنبحث في أرشيف جريدة الأهرام التي لم تفوّت أي حدث، فربما يظهر درع الدوري المصري. وجهتنا الآن تحولت إلى حسن المستكاوي الناقد الرياضي والصحفي بالجريدة المصرية العريقة.

صدفة حلّت اللغز

«لو أمر الملك فاروق بتصميم درع الدوري، بالتأكيد لن تفوّت الأهرام هذا الحدث. وإن كان ليس له وجود في الأرشيف، فتأكد أن هذه المعلومة خاطئة». كانت هذه كلمات المستكاوي؛ لدرايته بالمؤسسة الصحفية التي عمل فيها أغلب فترات مسيرته الصحفية. كان متحمسًا للفكرة، ولم يحتج سوى بضع ساعات ليعود بالكنز.

هل تصدق أن البطل لم يحصل على شيء في الدوري لمدة 9 مواسم؟ تسعة مواسم احتكر فيها الأحمر البطولة وحتى فوز الزمالك والأوليمبي؟ استمر الوضع هكذا حتى عام 1966. لا يُمنح بطل الدوري كأسًا، أو درعًا، أو أي تذكار. اتضح أن ربط التصميم بعهد الملك فاروق أكذوبة نجهل صانعها؛ هذا ما أثبتته وثائق الأهرام.

حصل المستكاوي على وثيقة من مقال منشور بتاريخ 11 مايو عام 1966 تحت عنوان «حديث الرياضة ». كاتب المقال كان والده، نجيب المستكاوي. وثيقة وصلت إلى المستكاوي الصغير بالصدفة بعد 60 عامًا.

كتب المستكاوي الأب في مقاله ما يفيد بأن كأس مصر يُمنح لبطله وأنه شيء مادي ملموس، بينما الأوليمبي فاز «بالدوري والسلام» على حد وصفه. طالب المستكاوي بأن يكون هناك شيء ما يشير إليه في مبناه ويظل ذكرى تُخلد هذا الإنجاز الكبير.

مقال نجيب المستكاوي «حديث الرياضة» بتاريخ 11 مايو عام 1966
مقال نجيب المستكاوي «حديث الرياضة» بتاريخ 11 مايو عام 1966

لم يقترح المستكاوي كأسًا أو جائزة بشكل عام من دون تحديد ما يدور في رأسه، ولكنه اقترح تصميم درع فخم يُدون عليه اسماء أبطال المسابقة سواء السابقين أو المقبلين.

يبدو أن الأمور لم تكن تسير على ما يرام منذ زمن بعيد، ليس فقط على صعيد التوثيق بل على صعيد التنطيم. فلا عجب أننا في مطلع سبتمبر ولا أحد يعرف متى ينطلق الموسم الجديد، ولا تصدق من يخبرك بأن الوضع كان أفضل قديمًا، ولكن كل ما في الأمر أنه كلما مرت السنوات نفقد شيئًا يميزنا.