لا تفرح كثيرًا يا عزيزي حين ينعت أحد أفكارك وأطروحاتك التي قد تنثرها هنا وهناك بأنها شعبوية، فهو لا يقصد أن آراءك محبّبة وشعبيتها عالية، إنما يراها سطحية، هوجاء، وتفتقر للمنطق العلمي، تمامًا وكأنك تردد تصريحات مرشح الرئاسة الأمريكي «دونالد ترامب» أو وزير الخارجية البريطاني «بوريس جونس»، اللذين كانا نجما الشعبوية الحديثة هذا العام.

تطل الشعبوية اليوم على عالم السياسة في الشرق والغرب على السواء، بعد أن ظنّ العالم أنها على طريق الاندثار بعد الحرب العالمية الثانية.


الشعبوية السياسية

ويأتي أصل «الشعبوية» من الترجمة الحرفية للفظة (Populism) المشتقة من الشعب (People)، وهي تعبّر عن أيديولوجيا أو فلسفة سياسية-اجتماعية، تنحو اتجاه تقديس الشعب واعتباره مستودع الحكمة، وتعتبر أن إجماعه على رأي يعني استحالة خطئه.

تقدّم «الشعبوية» نفسها كخطاب يتصدى لهيمنة «النخب»، إذ تتجه نحو تقديس الشعب واعتباره مستودع الحكمة، فالشعب «هو القائد والمعلم».

وتقدّم «الشعبوية» نفسها كخطاب يتصدى لهيمنة «النخب»؛ فهي تستخدم مفردات من قبيل: نحن من الشعب وإلى الشعب، ونحن من سيلقن النخب التي تحتقر الجماهير درسًا قاسيًا. يحقّر الشعبويون من أهمية الفكر والمعرفة، في مقابل تقديس التجربة والممارسة، ويرون في سلوك المنظّرين والمعلّمين ثرثرة فارغة وفوقية.

وفي مقابل تنحية التنظير والمعرفة، تقوم الشعبوية على استخدام الخطاب العاطفي وأسلوب دغدغة المشاعر واللعب على المخاوف من أجل الوصول إلى الناس وكسب تأييدهم. أي كما يُقال بالعامية: «الجمهور عايز كده»، وأسمِع الناس ما يحبون، لتصل أنتَ لما تُحب! فهي النظير الحديث للفلسفة الديماجوجية.

وتحمل الشعبوية معنًى سلبيًا على الرغم من انحدارها من جذر كلمة «شعب»، الذي يعتبر أساس أي ممارسة ديمقراطية، والشاهد هنا أن الشعبويين يحوّلون «الشعب» و «الرأي العام» إلى شعار سياسي لممارسة الوصاية على إرادة الشعب ولترويض الجمهور.

وعلى نقيض الشعبوية، يقبع الخطاب العلمي المبني على الحقائق والبيانات والأرقام، الذي يسعى للاستدلال بناءً على مقدّمات منطقية سليمة وذات أساس موثوق، لكنه في الوقت ذاته لا يجد ذات الاحتفاء والقبول لدى الجمهور.


الشعبوية في الشرق

ينتعش الخطاب الشعبوي على يد شخصيات اجتماعية اختارت الطريق الأسهل لبناء المجد والشهرة، وفي السياسة على يد زعماء وقادة اختاروا الطريق الأسهل للوصول إلى تأييد الجماهير، سواء أكانت البيئة السياسية سلطوية دكتاتورية، أو حتى ديمقراطية حديثة.

ففي الدول السلطوية، تتمظهر الشعبوية على شكل التصفيق المنتشي لزعيم لا ينتصر، ذلك البطل الأوحد الذي يجمع الناس حوله عبر خطاب أيدلوجي (قومي أو ديني مثلًا) غارق بالحماس، يراكم فيه جملة من الانفعالات الخطابية العاطفية التي لا تمت للواقع بصلة، ويقلب هزائمه وانتكاساته الوشيكة إلى مكتسبات وطنية.

وتصلح حقبة جمال عبد الناصر في مصر لتكون نموذجا تُشرح به الشعبوية، فقد ألهبت خطابات الرجل النارية ومنها خطبة الاستقالة بعد نكسة عام 1967، آلاف المصريين لينزلوا إلى الشوارع هاتفين: «نحن جنودك يا جمال»، مفتخرين بأن يكونوا جنودًا لرجل خرج قبل ساعات من هزيمة ساحقة.

كذلك تسجّل الذاكرة شخصيات نجحت في إلهاب حماس جماهيرها وهي تقودهم نحو الهاوية، من أمثال وزير الاعلام العراقي الأسبق محمد الصحاف، وآخرين قدّموا تعريفات جديدة للثورة وإرادة الشعب وحصروها في التأييد بنسبة 99٪ للزعيم الأوحد كما فعل القذافي في ليبيا، وحافظ الأسد في سوريا، وكما يفعل دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون.

وهناك زعماء آخرين، سقطوا في فخ الخطاب الشعبوي؛ كأمثال هوغو تشافيز الذي تحلّق الشعب حول خطاباته اليسارية المتوعّدة بالقضاء على الإمبريالية وسحق آثارها من فقر وتمييز، لكنها لم تنعكس بنجاحات اقتصادية على الأرض. وفي معسكر اليمين من أمثال الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد الذي توعّد مرارًا بمحو «إسرائيل» من الخارطة، فيما تتماهى الدبلوماسية في تركيا مع الخطاب الشعبوي في محطات كثيرة، منها مثلا ما وعد به أردوغان عام 2012 بالصلاة قريبًا في الجامع الأموي بعد إسقاط بشار الأسد.


اليمين الشعبوي في أوروبا

في الدول السلطوية تتمظهر الشعبوية على شكل التصفيق المنتشي لزعيم يقدم خطابا انفعاليا عاطفيا لا يمت للواقع بصلة، ويقلب هزائمه إلى مكتسبات وطنية.

في الدول متعددة التمثيل الديمقراطي، تأتي الشعبوية رديفة للاستخدام المضلّل للمعلومات عبر الإغراق بالبيانات غير المفيدة، أو التفسير السطحي لها، ومحاكاة مخاوف الناس، واستثارة مصادر قلقهم المسبقة، إلى جانب الخطاب الاحتجاجي كمبرر للبقاء.

ازدادت جماهيرية اليمين الشعبوي في أوروبا مؤخرا عقب استغلاله لقضية تدفق اللاجئين ومعادة الإسلام كوسيلة للمنافسة السياسية.

وفي أوروبا يصعد اليمين الشعبوي منذ أعوام بصورة مقلقة، عبر اتخاذ أسلوب الاحتجاج كوسيلة للمنافسة السياسية وكسب التأييد. وقد استغل الشعبويون في أوروبا قضية تدفق اللاجئين كموضوع احتجاج رئيس، عبر محاكاة مخاوف الناس من أن اللاجئين يسرقون وظائفهم ويستولون على أموال الضرائب، وأن أوروبا المسيحية النقية لن تعود كذلك بعد أن تغرق بأمواج المهاجرين الشرقيين والمسلمين.

وقد حققت الأحزاب الأوروبية الراديكالية مزيدًا من الجماهيرية عبر احتجاجها على قضية اللاجئين،وحجزت لنفسها مكانًا على الخارطة السياسية في كل من ألمانيا، فرنسا، النمسا، صربيا، بولندا، هولندا والدنمارك. كما نجح اليمين الشعبوي في جرّ المواطنين البريطانيين للتصويت في صالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وسارعوا فورًا للتنصل من قيادة البلاد في مرحلة التفاوض على الخروج.

إثر حلحلة قضية اللاجئين، كانت محطة الاحتجاج الثانية للشعبويين في أوروبا هي معاداة الإسلام. في ألمانيا مثلًا يعكف حزب «البديل» لتكريس الإسلام كأيديولوجيا سياسية متعارضة مع الدستور، وفي بولندا يرفع حزب «القانون والعدالة» الحاكم شعار «بولندا أولًا» كمفتاح لرفض أي تعاون أو اندماج مع الآخر سواء أكان مهاجرًا مسلمًا أو شريكًا أوروبيًا.


شعبوية النخب

إن كانت الشعبوية تقدّم دومًا كنقيض للنخبوية، فإن المنطق يقول بأن النخب تحمل على عاتقها التصدي للخطاب والأفكار الشعبوية التي توصل غالب الأحيان إلى الاضمحلال الثقافي والهلاك.

في المجتمعات التي تعاني تراجعًا سياسيًا وثقافيًا وارتكاسًا في الديمقراطية، تُطرح الأسئلة المتشككة دومًا حول أهلية النخب ومدى تمثيلها لحركة المجتمع وأفكاره.

لكن الواقع قد لا يكون دائمًا بهذه البساطة النظرية؛ ففي المجتمعات التي تعاني تراجعًا سياسيًا وثقافيًا وارتكاسًا في الديمقراطية، ينعكس هذا التراجع على وضع النخب، وتُطرح الأسئلة المتشككة دومًا حول أهلية النخب ومدى تمثيلها، وهل كان صعودها إفرازًا طبيعيًا لحركة المجتمع الفكرية والمعرفية، أم أنها فُرضت على المجتمع عبر قوى سلطوية بصورة مباشرة، أو غير مباشرة عبر الإسكات الناعم للأصوات الرصينة المخالفة لهوى السلطة.

وترزح النخب العربية، كمثال، تحت تحديات جمة؛ منها القمع السياسي، وعدم توافر منابر للتواصل مع الجمهور، وطغيان الدعاية الشعبوية الجارفة للنظم الحاكمة، وطغيان سلطة الجمهور غير الرشيدة. لكن الداء الأكبر يكمن بكون هذه النخب هي صنيعة المجتمع المرتكس، وأنها تسعى إلى الانتشار والتأثير عبر تقييم خطابها ومواءمته وفقًا لتفاعل الجمهور، الذي لن يكون بالضرورة تفاعلًا واعيًا أو رشيدًا.

وتجنح قطاعات عريضة من النخب للخروج من هذه المأزق عبر التحلّق حول مقولات الجمهور المحبّبة، وإعادة صياغتها ضمن قوالب نخبوية تُوحي بالعمق، عوضًا عن تمحيص هذه المقولات وإحداث إزاحات في مركزها نحو مزيد من الوعي، وهذه أهم التحديات التي تواجه النخب والمنظرين ويُخفق كثيرون في تجاوزها، وذلك كما أشار جيم ميكويغين في كتابه «الشعبوية الثقافية».

ونرى اليوم أن كثيرًا من المقولات الشعبوية التي يحتفي بها الجمهور، لا تكاد تغادر شفاه المثقفين العرب، ويُفسح لها المجال الرحب في المنصات الاعلامية المختلفة سعيًا وراء الانتشار.

ويبقى تحدي المثقف أن يتحرر من قيد صنعته له السلطة، حين جرّدته من منبر لائق يخاطب به جمهوره، فلا يسقط في فخ البحث عن منبر على حساب بث الحقيقة كاملة.