20 مارس/ آذار بينما كان فيروس كورونا يحصد حياة الآلاف في الولايات المتحدة وأوروبا يوميًا، كانت مجلة فورين بوليسي تسأل اثني عشر مفكرًا حول العالم عن توقعاتهم للتغيرات الكبرى في النظام الدولي بعد السيطرة على الفيروس.

أي عالم يمكن أن يكون بعد أن تنتهي تلك المحنة؟ ينتمي هؤلاء المفكرون في أغلبهم إلى طيف واسع من علماء السياسة المهتمين بالعلاقات الدولية بشكل خاص، لذا كانت أغلب إجاباتهم متشائمة حول مستقبل العالم فيما ما بعد السيطرة على كورونا.

اتفق الكثيرون منهم على أن عالم ما بعد كورونا سيكون للسلطوية وأنظمة المراقبة الشديدة للمواطنين فيه دور أكبر، لا سيما بعد فشل دول ديمقراطية مثل إيطاليا وإنجلترا والولايات المتحدة في التعامل مع الأزمة الصحية التي أنتجها الوباء بشكل كبير.

لكن دولًا ديمقراطية أخرى نجحت في التعامل مع الوباء مثل كوريا الجنوبية واليابان وألمانيا، وهو ما يجعل ربط القدرة على مقاومة انتشار الوباء بالديمقراطية به الكثير من العيوب. ما اتفق عليه هؤلاء المفكرون أن الصين ستلعب دورًا أكبر في النظام العالمي فيما بعد احتواء أزمة الفيروس.

تظهر مؤشرات جيدة على ذلك، فبعد نجاح الصين في احتواء جائحة الفيروس في ووهان، بؤرة الانتشار الأولى للفيروس، فإنها سرعان ما بدأت في تشغيل مصانعها ولعب دور المنقذ والأخ الأكبر لبقية العالم؛ أخذت ترسل المساعدات الطبية والأطقم الطبية لمساعدة الدول المنكوبة من الوباء، على عكس الولايات المتحدة التي انزوت بشكل أكبر في محاولة لاحتواء الكارثة داخليًا والاتحاد الأوروبي الذي بدا وكأنه كيان غير متجانس يهب في نجدة بعضه البعض في الأزمات كما يروج لذلك.

أعادت جائحة كورونا التساؤل الأساسي للسياسة في عالم اليوم، والذي بدأ منذ ما يقرب من عشر سنوات يُطرح على نطاق واسع في الدوائر الأكاديمية وهو سؤال: هل نحتاج للمزيد من العولمة؟

هذا السؤال الذي خرج ليعلن عن نفسه في المجال السياسي والانتخابي، بصعود اليمين الشعبوي في العالم صاحب الخطابات المنددة بالعولمة التي نعيشها والتي تريد أن تعود لما قبل عصر العولمة والتجارة الحرة.
لكن على مستوى الدول وليس على مستوى العلاقات الدولية، ثمة أسئلة أكثر أهمية طرحها انتشار وباء كورونا، أسئلة عن قدرة القطاع الصحي في الدول المتقدمة على احتواء الأوبئة، أسئلة عن طبيعة الاقتصاد المطلوب من أجل ذلك، وأسئلة مهمة حول طبيعة سوق العمل في الدول التي اجتاحها الفيروس.

لا شك أن تلك الأسئلة مهمة، لكن السؤال الذي طرحه انتشار الوباء وطرق الحكومات المختلفة في التعامل معه هو سؤال جدوى دولة الرفاه الاجتماعي: هل نحتاج لإعادة الاعتبار لتلك الفكرة في الوقت الحالي بعد عقود من الاعتداء النيوليبرالي على البشر والاقتصاد؟

في هذا المقال نسعى لأن نلقي الضوء حول إجابات تلك الأسئلة، وكيف يمكن أن تشكل تلك الإجابات فهمنا لطبيعة العالم ما بعد فيروس كورونا.

دولة الرفاه والرعاية الصحية

ركز المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز حملته الانتخابية حول أمرين: واقع اللا مساواة في الدخل المرير في الولايات المتحدة، وضرورة إنشاء نظام للتأمين الصحي مجاني لكل المواطنين الأمريكيين. لكن تواطؤ كبار الحزب الديمقراطي منع هذا البرنامج من المرور في الانتخابات التمهيدية للحزب والتي يتصدرها جو بايدن المرشح المعبر عن المؤسسة التقليدية داخل الحزب.

تظهر الحاجة لنظام التأمين الصحي الذي يشمل كل المواطنين في مثل تلك الأوقات، ما استدعى الحكومة الأمريكية للتدخل لإجبار شركات التأمين الطبي الخاصة على تضمين تحاليل وتكاليف العلاج من فيروس كورونا المستجد ضمن التأمين الصحي.

ظهر هذا التدخل الحكومي تبعًا للنظرية الكينزية التقليدية في الاقتصاد، والتي طالما رفضها صناع السياسة الأمريكيون منذ الثمانينيات تقريبًا في استدعاء الحكومة الأمريكية لقانون الإنتاج الدفاعي والذي يتيح للحكومة تحديد أولويات الإنتاج في المصانع والشركات الخاصة في وقت الأزمات كالحروب مثلاً.

تدخّل البيت الأبيض بموجب هذا القانون لإجبار جنرال موتورز على إنتاج أجهزة تنفس صناعي كافية بعد تفشي الوباء بشكل كبير في الولايات المتحدة، خاصة الولايات الكبيرة مثل نيويورك وكاليفورنيا. اليوم وبينما يجتاح الوباء الولايات المتحدة، ثمة تحديات كبيرة أمام المجتمع الأمريكي، فما يقرب من 30 مليون أمريكي يعيشون بدون أي نوع من التأمين الصحي، كما أن أسعار الرعاية الطبية والدواء في الولايات المتحدة أضعاف مثيلاتها في الدول الأوروبية وكندا ما يضطر في كثير من الأحيان مواطنين أمريكيين للسفر إلى كندا من أجل الحصول على أدوية رخيصة.

كان إصلاح المنظومة الصحية في الولايات المتحدة دائمًا سؤالًا سياسيًا من الدرجة الأولى، ما يفسر ظهور هذا السؤال دائمًا في الانتخابات الرئاسية وفي الانتخابات التمهيدية للحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة، لكن هذا السؤال يرتبط بأبعاد مختلفة منها قدرة جماعات الضغط لا سيما شركات الأدوية والتأمين الصحي على الوصول لدوائر صنع القرار وتعطيل أي إصلاحات ممكنة في تلك المنظومة.

وبعيدًا عن استجابة النظام الصحي في الولايات المتحدة لتفشي الفيروس، والتي كانت استجابة ضعيفة، فإن انتشار فيروس كورونا في أوروبا والضرر الكبير الذي أنتجه في دول تعتمد بالأساس على نظم رعاية صحية موروثة من دولة الرفاه، طرح الكثير من الأسئلة حول كفاءة تلك النظم الصحية في احتواء الأوبئة.

يعتقد البعض خاصة بعد ارتفاع معدل الوفيات في إيطاليا التي تمتلك نظامًا جيدًا للرعاية الصحية. وفي مناطق غنية داخل إيطاليا (إقليم لومباردي) المعروف بتطور نظامه الصحي، أيضًا أثار انتشار الوباء والإجراءات التي اتخذتها دول تمتلك نظم رعاية صحية متطورة مثل بريطانيا والتي قررت أن تترك ما يسمى بمناعة القطيع (herd immunity) تتكفل بالمرض للخوف بأن نظامها الصحي لن يكون قادرًا على تحجيم الآثار السلبية للوباء خاصة معدل الوفيات. قبل أن تتراجع عن هذه الفكرة وتطالب المواطنين بالبقاء في المنزل.

 لكن هذا الاعتقاد به قدر كبير من التجافي عن حقائق مرتبطة بالأوبئة وطريقة انتشارها. أهم تلك الحقائق أن معدلات الوفيات مرتبطة بعوامل كثيرة في حالات الأوبئة غير قدرة النظام الصحي على احتواء المرض. لا تعتمد الوفيات فقط على قدرة المواطنين على النفاذ للخدمات الصحية الجيدة، لكن بوصولهم تلك الخدمات في الوقت المناسب، وترتبط كذلك بمعدلات الأعمار، وبوضع النظام المناعي للجسم، وبالثقافة الصحية بشكل عام لدى المواطنين، وبمعرفة المواطنين عن عوارض المرض بشكل شخصي ومن ثم تسهيل عملية العزل الذاتي.

لكن مع كل ذلك يؤثر وجود النظام الصحي المتقدم وعدد أسرة الرعاية المركزة لكل مواطن في احتواء معدلات الوفيات خاصة في حالة حدوث تفشي واسع للمرض. في إيطاليا مثلًا، كان معدل الوفيات الكبير لعدد من الأسباب أهمها الضغوط التي تشكلها عملية الكشف عن المرض والاستقصاء عن المخالطين للمريض بسرعة كبيرة تسمح للمصابين بالاستفادة من الرعاية الصحية في وقت مبكر وبالتالي تقليل احتمالية الوفاة جراء المرض.

وتحديدًا في حالة إيطاليا التي قارب معدل الوفيات حوالي 7% وهو معدل أكبر من ضعفي المعدل العالمي تقريبًا للوفيات من الوباء والمقدر بـ 2 – 3%. كان لارتفاع معدلات الأعمار في إيطاليا دور مهم في رفع معدلات الوفيات لتلك النسبة الكبيرة، حيث ساهم متوسط الأعمار المرتفع بشكل كبير في رفع معدل الوفيات، إذ إن 23% من السكان فوق الـ 65 سنة. 

هل نحن بحاجة للأجر العالمي الثابت؟

ما كشفه أيضًا انتشار كورونا والأزمة الاقتصادية المصاحبة له أن فقراء العالم والطبقات الوسطى أصبحوا أكثر هشاشة من أي وقت مضى. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، 40% من الأسر الأمريكية تجد صعوبة كبيرة في توفير 400 دولار كنفقات طارئة لمواجهة تفشي الفيروس، وهو ما يطرح تساؤلات كبيرة عن سوء توزيع الدخل في الولايات المتحدة التي تظهر في انعدام قدرة ما يقارب من ربع السكان على الادخار لتلك النفقات الطارئة.

في دول أخرى في العالم كان الحال أسوأ، فالحكومة البريطانية اضطرت للتعهد لشركات القطاع الخاص بدفع 80% من راوتب موظفيها حتى لا تقوم تلك الشركات بتسريح الموظفين مع الأزمة، ما سوف ينتج المزيد من معدلات البطالة بعد السيطرة على الفيروس.

كثير من الدول هي الأخرى قررت أن تتخذ نفس النهج؛ تعويض الشركات عن خسائر التوقف الاقتصادي لدفعها نحو الإبقاء على العاملين لديها حال انتهاء تلك الأزمة. في الولايات المتحدة أيضًا قررت الحكومة إعطاء المواطنين 1200 دولار لمواجهة الأزمة.

ما يكشفه هذا ليس فقط هشاشة أغلبية البشر الاقتصادية في مواجهة الفيروس، لكن هشاشة النمط الاقتصادي نفسه التي تحولت فيه الطبقة الوسطى والعاملة من القطاعات الإنتاجية الصناعية التي يصعب فيها تسريح هؤلاء العمال في حالة وجود نقابات قوية لهم كما كان الحال في أوروبا والولايات المتحدة في فترات صعود دولة الرفاه الاجتماعي في الستينيات والسبعينيات. اليوم النمط الاقتصادي يعتمد على تشغيل العدد الأكبر من هؤلاء في قطاعات خدمية وبعد عقود من الاعتداء النيوليبرالي على النقابات أصبح هؤلاء العمال والموظفون أكثر هشاشة مما مضى.

هنا تظهر الحاجة للأفكار الجديدة، وكما كانت الأوبئة طيلة تاريخ البشرية دافعًا لتغيرات اجتماعية كبيرة، فإن كورونا يمكن أن يلعب هذا الدور حينما يتم حصار الوباء. أحد تلك الأفكار، الأجر العالمي الأساسي وهو ببساطة أن تركز الحكومات على إعطاء مبالغ شهرية للفئات الدنيا والمتوسطة بغض النظر عن هل يعملون أم لا، من أجل تحفيز الاستهلاك في الاقتصاد وبالتالي تحفيز الإنتاج.

تلك الفكرة جاءت بالأساس كإحدى الأفكار التي دافع عنها اقتصاديون كثر من أتباع النظرية النقدية الحديثة، والتي تقول إن طباعة المال من أجل زيادة الاستهلاك في الاقتصاد لا تنتج بالضرورة معدلات تضخم مرتفعة، بل يمكن استخدام أدوات السياسة النقدية الأخرى في تحجيم معدلات التضخم تلك على المدى الطويل. ما يجعل الأجر العالمي الأساسي فكرة براقة في الوقت الحالي أن الحكومات في العالم اليوم تطبقها بشكل أو بآخر، بالتالي فالفكرة التي طالما هوجمت بأنها فكرة ستؤدي لإحجام الناس عن العمل والإنتاج وبالتالي تزيد معدلات التضخم أصبحت اليوم موضع تطبيق من أجل محاربة الكساد الذي أصاب الاقتصاد العالمي.

بمعنى آخر: ما الذي يمنع أن تعطي الحكومات دخلًا ثابتًا لمواطنيها كما تعطيهم اليوم في وقت الغلق شبه الكامل للأعمال؟ في السابق، كان الجدل حول أن هذا المال يمكن أن يعطل التحاق هؤلاء البشر بسوق العمل، لكن تقريبًا كل الدراسات التي أجريت على الموضوع تقول العكس، فأغلبية البشر الذين يأخذون إعانات بطالة يبحثون عن عمل أيضًا.

يمثل الأجر العالمي الثابت تطويرًا لدولة الرفاهة الاجتماعية، كما يسمح هذا مع الوقت بإعادة التوزان لتوزيع الدخل في المجتمع ومع الوقت يمكن أن يعالج مشاكل اللا مساواة في الثروة التي تعاني منها الرأسمالية. لكن ليس ثمة ضمانة أن الحكومات بعد انتهاء تلك الجائحة قد تفكر في ذلك، وإن كانت التجربة العملية أثبتت إمكانية ذلك، فإن هناك حسابات سياسية وحسابات مصالح معقدة وراء خطوة كتلك، فمن أجل تمويل هذا ينبغي إعادة هيكلة النظام الضريبي في تلك الدول بما يسمح له بتمويل جزء من تكلفة الأجر الأساسي لأغلبية المواطنين، وتلك مشكلة كبيرة جدًا.