مع تورط موسكو في الحرب مع أوكرانيا ورغبتها في رفد ساحات المعارك بالمقاتلين، خاصة مع استمرار الحرب لفترة طويلة على عكس المتوقع، لجأ الكرملين إلى تجنيد أكبر عدد ممكن من المقاتلين دون الاضطرار إلى اللجوء إلى التعبئة العامة، إذ إن فرض التجنيد الإجباري على عموم الشباب الروسي له عواقب سلبية عديدة، فقد يؤدي إلى انقلاب موقف قطاع كبير من الروس المؤيدين للنظام ليشكلوا رأيًا عامًّا ضاغطًا ضد استمرار الحرب.

التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر/ أيلول 2022 بممثلي كبرى شركات بلاده في اجتماع مغلق وشجعهم على تعبئة وتمويل المتطوعين لإرسالهم إلى أوكرانيا، وشجعه على ذلك نجاح تجربة شركة فاجنر للخدمات الأمنية برئاسة يفجيني بريجوجين، والتي اشتهرت بدايةً في أوكرانيا عام 2014 لدعم جهود احتلال الأجزاء الشرقية منها، وتعاظم دورها في حرب أوكرانيا أيضًا المندلعة منذ فبراير 2022، وتوسع مجال عملها ليشمل عشرات الدول.

أصبحت الميليشيا لاعبًا مهمًّا في سوريا وليبيا وغيرها من الدول، وسيطرت على مناجم ذهب في عدة دول أفريقية، ووصلت رواتب مقاتليها إلى آلاف الدولارات شهريًّا، وبلغت ذروة نشاطها في أوكرانيا في معركة باخموت تحديدًا التي فشل الجيش الروسي في حسمها، وخسرت جميع الأطراف وفيهم فاجنر الكثير من الأرواح.

نشط بريجوجين خلال العام الماضي في تجنيد السجناء في قواته مقابل العفو عنهم جنائيًّا، ضمن عملية تعبئة عسكرية مستترة، إذ يذوب الخط الفاصل بين هؤلاء المرتزقة والجيش النظامي على جبهات القتال.

وبينما يقول بريجوجين إن قواته تتكون من 25 ألف مقاتل، تقدرهم أجهزة المخابرات الغربية بضعف هذا العدد، 40 ألفًا منهم تم تجنيدهم من داخل السجون.

لم يقتصر التجنيد على المواطنين بل ذكرت وكالة رويترز أن المجموعة العسكرية جندت أفارقة وعربًا وأفغانًا، بعضهم أتوا إلى روسيا للدراسة لكنهم تورطوا في جرائم وسجنوا بتهم جنائية كقضايا المخدرات مثلًا.

حصل بريجوجين على مزايا ومكانة لم يحظَ بها قائد من قبله، وشعر بقوة أنه رجل بوتين المدلل، ولولاه ما استطاعت روسيا الاستمرار في حرب أوكرانيا، فرغم أن شركته غير مرخصة وليس له تاريخ سياسي فإنه دخل إلى ساحة النفوذ والسيطرة من أوسع أبوابها، وصار ينتقد كبار القادة وصولًا إلى وزير الدفاع سيرغي شويجو، وقائد القوات المسلحة فاليري جيراسيموف، ويكيل لهما الشتائم ويتهمهما بالخيانة دون أن يوقفه أحد عند حده، واستمر لبضعة أشهر يكيل التهم الصريحة عبر وسائل الإعلام متحدثًا عن فشلهما في إمداد مرتزقته بالسلاح والذخيرة.

ولما نفد صبر وزارة الدفاع قررت إخضاع كل الجماعات المقاتلة غير النظامية لها، وأيد بوتين هذا المسعى، لكن بريجوجين رفض توقيع تلك العقود مع الوزارة، وأعلن التمرد. ففي خطاب طويل في 23 يونيو/حزيران، قال بريجوجين إن مبرر الحرب كله كذب، وإن «مجموعة صغيرة من الأوغاد» يهدفون إلى الترويج لأنفسهم وخداع الجمهور والرئيس. اتهم بريجوجين الجيش النظامي بشن هجوم على قواته في أوكرانيا، ونشر فيديو غير واضح باعتباره دليلًا على الواقعة، لكن الجيش نفى ذلك.

في 24 يونيو/حزيران قرر بريجوجين غزو البلاد وبدأ مسيرة طويلة للسيطرة على موسكو، واستدعى قواته من أوكرانيا فاستولت على مدينة روستوف أون دون، وأعلن السيطرة على المقر العسكري الذي يدير الحرب في أوكرانيا، وانتشرت مقاطع فيديو لرجاله وسط المدينة لا يواجهون أي مقاومة.

ناشد الجنرال سيرجي سوروفكين، نائب قائد القوات الروسية في أوكرانيا، بريجوجين التراجع والخضوع لسلطة رئيس البلاد، واتهم بوتين قائد الميليشيا بالخيانة ووصف عمله بأنه «طعنة في ظهر بلادنا»، فيما وصفه الأخير بـ «مسيرة من أجل العدالة» وليس انقلابًا. 

ولكن بحلول نهاية اليوم أمر بريجوجين قواته فجأة بالعودة إلى قواعدها، وقال: «في 24 ساعة قطعنا مسافات طويلة حتى وصلنا إلى مسافة 200 كيلومتر من موسكو، في هذا الوقت لم تُرق قطرة واحدة من دماء محاربينا»، وتم الإعلان عن اتفاق توسط فيه الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، المقرب من بوتين.

وقضى الاتفاق بتوجه بريجوجين إلى بيلاروسيا (روسيا البيضاء) دون أن يواجه اتهامات جنائية، وحصل أتباعه على عفو عام يمكنهم العيش بموجبه طلقاء في روسيا أو الاستمرار في القتال بعد توقيع عقود مع وزارة الدفاع، أو الرحيل مع قائدهم إلى بيلاروسيا.

وداهمت الأجهزة الأمنية الروسية قصر بريجوجين في سان بطرسبرج الذي يضم مسبحًا خاصًّا ومهبطًا للطائرات وساونا وصالة رياضية ومكتبًا طبيًّا، وعثرت فيه على سبائك ذهب، ومخابئ أسلحة، وقيل إنهم عثروا أيضًا على رءوس مقطوعة لأعداء الرجل، وعدد كبير من الصناديق بها 10 مليارات روبل.

تقييم التجربة

جعلت هذه التجربة موسكو تعيد تقييم خيار الاعتماد على الميليشيات المسلحة، ومن المثير أن بريجوجين نفسه سبق أن حذر من مخاطر التوسع في هذا الأمر قائلًا: إن «هذا يعني أنه سيأتي يوم يتم فيه الصراع على السلطة ويستخدم كل واحد جيشه الخاص، ومن لديهم المال يرون الآن أن تشكيل جيش خاص أمر مهم».

وتحولت نبوءة بريجوجين إلى حقيقة على يديه؛ فهو الذي حاول استخدام جيشه الخاص للاستيلاء على السلطة، وبالفعل سادت الخشية من أن تتحول القوات المسلحة الروسية إلى مجموعات مسلحة مختلفة الولاءات يمولها الأثرياء.

وكاد تمرد فاجنر أن يتسبب في هزيمة روسيا في أوكرانيا لو كانت القوات تركت مواقعها وانسحبت اتجاه موسكو لحمايتها، بل كاد التمرد أن يودي بالدولة الروسية نفسها ويدخلها في حرب أهلية مثلما حدث في هذا البلد عام 1917.

وتم الكشف عن انتماء عدد من كبار القادة بشكل سري إلى فاجنر، أبرزهم الجنرال سيرجي سوروفيكين الملقب بـ «هرمجدون» نائب قائد القوات الروسية في أوكرانيا، ومعه أيضًا ما لا يقل عن 30 من المسئولين العسكريين وضباط الاستخبارات، وما يزال الغموض يحيط بمصير سوروفيكين، ويرفض الكرملين الكشف عن مصيره بعد أن اختفى عن الأنظار ولم يظهر له أي أثر حتى الآن.

وجد بوتين أن مخطط بريجوجين كان يعتمد على انضمام جانب من القوات المسلحة النظامية إلى التمرد، ولهذا الغرض تم تخزين كميات كبيرة من الذخائر والوقود والأسلحة الثقيلة مثل الدبابات والمدرعات وأنظمة الدفاع الجوي، قبل أيام من بدء الزحف نحو موسكو. وبحسب المعلومات الاستخباراتية الغربية، فإن بريجوجين علم بتسرب خطته قبل تنفيذها، فتصرف أسرع من المتوقع واستولى على مدينة روستوف بسهولة، مما يشير إلى أن بعض القادة العسكريين هناك تمالئوا معه.

ورغم كل ما حدث، قالت الصفحة الرسمية لفاجنر إن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عندما أدان التمرد لم يذكر أي شخص بالاسم، وأنه ربما كان هدفه من ذلك السماح لبريجوجين باستعادة العدالة ومعاقبة المذنبين بارتكاب خيانة حقيقية أدت إلى فشل الغزو الروسي لأوكرانيا، وانتشرت وسط مؤيدي بريجوجين رواية تقول إن بوتين تآمر مع زعيم فاجنر لتنفيذ هذه المحاولة الانقلابية الصورية ليختبر ولاء النخبة الروسية.

ما بعد الواقعة

في ظل انتشار الميليشيات المسلحة المرتبطة بكبار رجال الأعمال والشركات في روسيا، مثل قوات «بوتكوك» و«فاكل» التابعة لشركة غاز بروم، و«ريدوت» التابعة للملياردير، جينادي تيمتشنكو، والمكلفة بحراسة منشآت شركة البناء الروسية العملاقة «سترويترانسجاز» في سوريا، اتجهت وزارة الدفاع إلى تقنين أوضاع الشركات العسكرية الخاصة، وأعلن الدوما (البرلمان) عن مشروع قانون لضبط أنشطة الشركات العسكرية الخاصة، وقال رئيس لجنة الشئون الدولية في مجلس الدوما، ليونيد سلوتسكي، إن بلاده ليست في حاجة إلى أي شركات عسكرية خاصة أو ما شابه.

 وكانت قوات «أحمد» التابعة للرئيس الشيشاني، رمضان قديروف، أول الموقعين على عقود مع وزارة الدفاع لتقنين أوضاعها، وذلك بعد أن عملت العشرات من تلك الشركات دون أي تنظيم قانوني لأنشطتها.

ومن المتوقع أن يستمر عمل تلك الشركات في مناطق لا تريد موسكو أن تتواجد بها رسميًّا، فهي أمام مهمتين متضادتين هما: اعتماد نظام لتوفير المحاربين المتطوعين، وضمان ألا تخرج تلك القوات عن السيطرة، ومن الطبيعي أن تدفع تجربة تمرد فاجنر بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليصبح أكثر حذرًا وتشددًا في هذا الملف.

وألقت هذه التجربة بظلالها على الخارج، فاعتقلت الاستخبارات العسكرية الروسية عددًا كبيرًا من قادة فاجنر العاملين في سوريا وسط تكتم على تفاصيل الأمر، كما تم رصد محاولات أمريكية لاستغلال الظرف وطرد عناصر الميليشيا من دول أفريقية، مما دعا وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، ليصرح بأن فاجنر ستواصل عملها في مالي وأفريقيا الوسطى.

وكذلك ظل مقاتلو الميليشيا الروسية في أماكنهم في أفريقيا، حيث يتدخلون في الصراعات المسلحة في ليبيا ومالي والكاميرون والسودان وغيرها من الدول.

وضربت فاجنر نموذجًا مخيفًا أمام حكام الدول الذين تابعوا هذا النموذج باهتمام طوال الفترة الماضية، إذ بعد أن شكلت نموذجًا ملهمًا للحكومات التي تفكر في تقليد هذه التجربة، فإن انقلاب بريجوجين السريع حمل تحذيرات قوية من اللجوء لهذا النموذج.

ففقدان القوات المسلحة في أي دولة ميزة احتكار السلاح الثقيل يضع الدولة على حافة خطر داهم، مثلما وقع في حالة قوات الدعم السريع في السودان التي تخوض حاليًّا حربًا ضد الجيش النظامي، وفي العراق حيث تملك قوات الحشد الشعبي الموالية لطهران نفوذًا لا تستطيع الحكومة تحديه.

وفي إيران حسمت قوات الحرس الثوري المعركة مبكرًا وأصبحت في مرتبة أعلى من الجيش النظامي الذي يشكو قادته باستمرار من التهميش والإهمال، فمعادلة القوة والسيطرة لا تحتمل القسمة على اثنين، وأثبتت التجارب أن الاعتماد على الميليشيات المسلحة كاللعب بالنار، فشعلة اللهب متى ارتخت قبضة صاحبها سقطت عليه فكان أول المحترقين بأوارها.