اختلفت الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية والدولية حول طبيعة مفهوم «ما بعد الصهيونية»، وقد ازداد هذا الاختلاف عمقًا حول مدى تأثير حالة «ما بعد الصهيونية» على المجتمع الإسرائيلي، وقد تعاملت معظم الدراسات العربية والأجنبية، التي تناولت هذا المفهوم، على أنه مجرد تيار فكري لا حالة مجتمعية. وعلى الرغم أن هذا الموضوع كان مطروحًا على الساحة الإسرائيلية منذ فترة ليست بالقصيرة، فإن ضغوطًا -وصلت حد الاضطهاد- قد مُورست على الأكاديميين في إسرائيل وخارجها لعدم التوسع في ذلك الموضوع.

لذلك، حاول الباحث «محمد محمود السيد» في كتابه «ما بعد الصهيونية ومستقبل المجتمع الإسرائيلي»، الصادر عن «دار روافد للنشر والتوزيع»، في عام 2022، أن يُقدّم تأصيل نظري لهذا المفهوم، ودراسة انعكاساته على المجتمع الإسرائيلي، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

بداية جديدة أم بداية النهاية للصهيونية؟

يُركِّز الفصل الأول من الدراسة على تقديم تأصيل نظري ومفاهيمي لـ «ما بعد الصهيونية»، ومحاولة تمييزه عن سائر المفاهيم الأخرى التي اختلطت به، وذلك كمدخل ضروري لبحث مستقبل المجتمع الإسرائيلي، ومن ثَمَّ مستقبل الصراع العربي-الإسرائيلي بأسره.

وكان هناك قصور في تقديم التأصيل النظري الدقيق لهذا المفهوم، وكان يتم الاكتفاء بالمعالجات السطحية، التي غالبًا ما تساوي بين هذا المفهوم ومفهوم «معاداة الصهيونية» و«حركات السلام في إسرائيل»، وحتى فكرة «نهاية إسرائيل». وفي أفضل الأحوال، تم التعامل مع ما بعد الصهيونية على أنه مجرد نشاط فكري لمِعَ مع ظهور مجموعة المؤرخين الجدد، ثم سرعان ما تراجع بعد انحسار تأثير نشاطاتهم وكتاباتهم.

وقد عرَّف أبرز مؤسسي تيار «المؤرخون الجدد»، «إيلان بابيه»، أن ما بعد الصهيونية هي حركة فكرية نقدية من داخل إسرائيل تنتقد بشدة السياسة والسلوك الصهيوني حتى عام 1948، وهي تقبل كثيرًا من المقولات التي قدّمها الفلسطينيون تجاه عام 1948 نفسه، وترسم صورة لدولة غير يهودية في إسرائيل كأفضل الحلول لأزمات البلاد الداخلية والخارجية، وهي بذلك تُعبِّر عن وجهة نظر عدد كبير من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.

وبحسب بابيه، فإن الأمل الوحيد لتحويل ما بعد الصهيونية إلى بديل سياسي ذي مغزى، هو قدرته على تشكيل تحالف سياسي مُستمر مع الأقلية القومية الفلسطينية، ولكن هذا التحالف لم يتكون بعد، ومن هنا لا نستطيع أن نتحدث عن تيار ما بعد الصهيونية باعتباره تحديًا سياسيًا فعليًا.

وقد طرح العالِم الأمريكي «هربرت كيلمان» وجهة نظره في «ما بعد الصهيونية»، واعتبرها:

تحول أيديولوجي يحدث تدريجيًا في إسرائيل، ويتعلق بالأساس بكيفية رؤية الشعب اليهودي لطبيعة دولته، حيث تتحول من كونها دولة لليهود فقط إلى دولة لكافة العرقيات، وتتحول من دولة تهيمن وتسيطر على الفلسطينيين إلى دولة تساوي بين اليهود والفلسطينيين، وتتحول من دولة معزولة وعدائية إلى دولة تجمعها علاقات التعاون والتكامل مع جيرانها.

كما صاغ المفكر العربي «عبد الوهاب المسيري» تعريفه لمفهوم «ما بعد الصهيونية»، حيث أكد أنه يُستخدم للإشارة إلى انحسار الصهيونية، ودخول التجمع الصهيوني إلى عصر ما بعد الأيديولوجيات. فكلمة «بعد» في الخطاب الفلسفي الغربي تعني أن النموذج المهيمن قد ضمر وذوي، ولم يُولد نموذج جديد يحل محله، أي أن ثمة أزمة على مستوى النموذج لم يظهر لها حل بعد، وقد صيغ «ما بعد الصهيونية» قياسًا على مفهوم «ما بعد الحداثة». ويرى المسيري أنه إذا كانت عبارة «ما بعد الأيديولوجيا» تعني نهاية الأيديولوجيات، فإن عبارة «ما بعد الصهيونية» تعني في الواقع «نهاية الصهيونية».

وقد توصّل الكتاب إلى مفهوم «ما بعد الصهيونية» يقوم على عدد من المبادئ، وهي:

  • إن ما بعد الصهيونية هي حالة مجتمعية، خلقت عددًا من التحولات الجذرية فيما يتعلق بـ: الهوية السياسية لإسرائيل حيث الصراع العلماني–الأصولي، والسياسات الاقتصادية حيث النزوع إلى اقتصادات السوق، والترتيبات الطبقية في المجتمع حيث رفض سياسات التمييز، ويهودية الدولة حيث الاتجاه إلى التخلي عن النقاء النوعي، والنظرة إلى طبيعة الصراع مع الفلسطينيين حيث الميل إلى السلام وقيم التعايش.
  • إن ما بعد الصهيونية هي حالة كانت حتمية الحدوث، لإن إسرائيل كـ «دولة» تأسست على أيديولوجية ظرفية مرحلية (والمقصود هنا الصهيونية)، حيث صيغت مبادئ هذه الأيديولوجية في ظرف وجودي وتاريخي مغاير تمامًا لما تطور له شكل المجتمع اليهودي في فلسطين، وهي بالتأكيد لا تصلح أن تكون الأيديولوجية الرسمية لدولة طبيعية في المجتمع الدولي.
  • كانت حرب 1967، وما تلاها من مواجهات عسكرية إسرائيلية مع العرب، هي العامل الكاشف عن عجز الصهيونية في إدارة أزمات المجتمع وتحولاته، ومن ثَمَّ كان نقطة الانطلاق للتحولات التي شكّلت حالة ومرحلة ما بعد الصهيونية.
  • لم يتلقف المجتمع الأكاديمي الإسرائيلي هذه التحولات بشكل واضح سوى مع نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فظهرت الحركة الفكرية النقدية، التي أسسها «المؤرخون الجدد» و«علماء الاجتماع الجدد»، وانصهروا- كحركة فكرية- مع هذه التحولات المجتمعية تحت مفهوم «ما بعد الصهيونية».

بناءً على ما سبق، يمكن استخلاص أن كافة تعريفات «ما بعد الصهيونية» اتفقت على فكرة تجاوز الصهيونية كأيديولوجية وممارسة، وهذا هو جوهرها الأساسي. كما أنها لا تحمل موقفًا رسميًا (ومتفق عليه من جميع منتسبيها) تجاه الصهيونية، سواء أكان ذلك الموقف: عداء أو انتقادًا أو تجديدًا أو تكاملًا.

وإذا كانت «ما بعد الصهيونية» تحمل نظرة نقدية تجاه المجتمع الإسرائيلي، فالصهيونية ليست دائمًا المتهم، فهي في بعض الحالات ولدى بعض المفكرين، تعجز فقط عن إدارة المشهد المتأزم والتحولات الفجائية، من دون أن يكون لها أي جريرة أخرى.

إذن «ما بعد الصهيونية» لا تعني «معاداة الصهيونية»، وإن كانت تضم بينها معادين ومنتقدين للصهيونية، على درجات مختلفة، قد تصل إلى إنكار شرعية إسرائيل.

تجاوز الصهيونية هو الحل!

يناقش الفصل الثاني من هذا الكتاب التحولات التي أوجدتها حالة ما بعد الصهيونية. وبافتراض أنها حالة مجتمعية، فكان لا بد من اختبار مدى ارتباطها بحركة التطور المجتمعي.

أول هذه التطورات كان الهوية السياسية لإسرائيل، والتي شهدت صراعًا شديدًا بين الدين والعلمانية. وقد رأى الباحث أنه بغض النظر عن طبيعة الهُوية المُتخيَلة للأيديولوجية الصهيونية (دينية أم علمانية)، فإنها اعتمدت بشكل جوهري على الدين والأساطير الدينية كمحرك أساسي لها، ولتأسيس دولتها، ولكن سرعان ما تم تبادل الأدوار، فتطورت مواقف رجال الدين اليهودي تجاه الصهيونية، وراحوا يستغلون ذلك الكيان الذي أنشأته الصهيونية (إسرائيل) لكي تتحول قوة أفكارهم الروحية إلى نفوذ وسلطة وسيطرة فعلية على المجالين الاجتماعي والسياسي في إسرائيل. وبالتالي نشأت علاقة قوية بين الدين والمجتمع، صارت أشبه بعلاقة وجود، فكل طرف يستمد مقومات الحياة والقوة من الطرف الآخر.

ومن خلال استعراض تاريخ العلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل، وُجد أنها تطورت بمعزلٍ عن تطور المجتمع الإسرائيلي، مع بذل محاولات مستمرة لإرغامه (أي المجتمع) على القبول بنتائج هذه العلاقة تحت ذرائع «التهديدات الوجودية لإسرائيل»، وكذلك مع محاولات إعادة هندسته بما يتلاءم مع متطلبات هذه العلاقة. أي أن هناك إصرارًا من الصهيونية الدينية على إعادة تصميم المجتمع الإسرائيلي وفقًا للصورة القائمة للصهيونية كخليط من الصهيونية القومية والدينية.

ويمكن القول إن تجلي حالة «ما بعد الصهيونية»، بدايةً من حرب 1967، دقّ ناقوس الخطر لدى السلطة، والتي حاولت بدورها استدعاء الصهيونية مرة أخرى إلى المجال العام بقوة، فجعلوا الدين مركز استراتيجيتهم لاستعادة الروح الصهيونية. لذلك، يمكن اعتبار أن حالة الصعود الديني الحالي داخل المجال العام الإسرائيلي هي حالة مصطنعة، نشأت كرد فعل على صعود حالة ما بعد الصهيونية في المجتمع.

وعلى ذلك، فإن استمرار صعود الدين في المجال السياسي، قد يفضي إلى مستقبل يلعب فيه القادة السياسيون المتدينون (أو منْ يُوظِّفون الدين في السياسة) الدور الرئيسي في صياغة سياسات إسرائيل، وهو ما قد يُعيد إسرائيل إلى سياسات ما قبل 1967، التي غلّفت عمليات الـتأسيس والتوسع، ويُجدِّد أفكار «الصراع المستمر» مع المحيط الإقليمي، ويُبعِدها مُجدداً عن فكرة «الدولة الطبيعية».

وإذا كانت حالة ما بعد الصهيونية قد أثّرت في المجال السياسي، فإنها تجلّت أيضًا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. فنجد أن الاقتصاد الإسرائيلي قد اتجه- في أعقاب حرب 1967- إلى مزيد من الانفتاح وتبني سياسات ليبرالية، ولكنها كانت دائمًا خطوات منقوصة، لأن إسرائيل واقتصادها ظلّا مرتبطين بالولايات المتحدة الأمريكية، كمركز للنظام العالمي، وهذا الارتباط نشأ من الأساس بفكرة «الدور الوظيفي» الذي تؤديه إسرائيل في المنطقة، نيابة عن الولايات المتحدة والنظام العالمي. وهذا الارتباط غير قابل للفكاك، بعكس الدول النامية الأخرى، وذلك لأن الارتباط الاقتصادي-العسكري البنيوي العضوي لإسرائيل بـ«الإمبريالية» هو فقط الكفيل بضمان استمرار توفير مقومات «الحياة والبقاء» لإسرائيل، اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا.

وعند تشريح عملية تحرير الاقتصاد الإسرائيلي بشكل تام، وتبني الليبرالية الاقتصادية، أو أي مذهب اقتصادي آخر، بمعزل عن دورها الوظيفي، نجد أن هذه العملية تستدعي التخلي عن الأيديولوجية الصهيونية، وخفض وتيرة التصعيد على مستوى الصراع العربي-الإسرائيلي، بما قد يُحقِّق تقدم «حقيقي» في عملية السلام. أي أن الطريق المؤدي إلى اقتصاد «دولة طبيعية» (والتخلي عن الدور الوظيفي) هو ذات الطريق الذي تتبناه «ما بعد الصهيونية».

أمّا على المستوى الاجتماعي، فقد بدا واضحًا أن المجتمع الإسرائيلي يعاني من تناقض اجتماعي-طبقي-طائفي، لم تستطع الصهيونية التخلي عنه أو التعامل معه على مدار العقود التي تلت تأسيس «الدولة»، بما في ذلك «اختراع» مفهوم «الديمقراطية الإثنية».

لذا، صارت نجاة المجتمع الإسرائيلي مرتبطة –في نظر أنصار ما بعد الصهيونية- بتجاوز الأيديولوجية الصهيونية، والاعتراف بدخول مرحلة ما بعد الصهيونية، والتي تتعامل مع القومية على أنها عبء تم إقحامه على هويات غير مستقرة، وبالتالي يتم استبدال الطموح الصهيوني القومي بخطاب يُعلي من قيمة الاختلاف والتعددية الثقافية، وذلك بعد أن يتم تسليط الضوء على الهويات المتنوعة التي قُمعت تحت راية القومية الصهيونية.

تشريح الوجود الإسرائيلي

في ضوء ما سبق، يختتم الباحث هذه الدراسة بتناول عدة سيناريوهات وتوقعات لمستقبل المجتمع الإسرائيلي. فهو يُقر بأن المجتمع الإسرائيلي ما زال يسير بسرعة تجاه اليمين المتطرف، في نسخة أكثر تشددًا للصهيونية، ولكن ليس من الواضح إلى متى سيستمر نزوع المجتمع الإسرائيلي لليمين، بخاصة وأن هذه المرحلة –وفقًا للعديد من المحللين وعلماء السياسة- قد تدفع بالدولة الإسرائيلية لسلوكيات أكثر تطرفًا من ذي قبل، والتي قد يتعرّض المجتمع الإسرائيلي بسببها لحالة خطر وجودي، سواء على الجبهة الداخلية أو الخارجية. فهي تُؤسِّس وتُرسِّخ حالة «الصراع المستمر» التي عانى منها المجتمع الإسرائيلي عبر عقود، بجانب الابتعاد أكثر عن حالة «الدولة الطبيعية» التي كان ينشدها المجتمع، ناهيك عن التخلي عن مظاهر الحداثة والديمقراطية الغربية.

لذلك، فإنه على المدى البعيد، سيخرج المجتمع الإسرائيلي من هذه المرحلة إلى أحد اتجاهين؛ الأول هو تفكك المجتمع وانهياره داخليًا، واتجاهه إلى نموذج «الدولة الفاشلة». أمّا الاتجاه الثاني فيتمثل في الارتدادات العكسية لوضعية التشدد الصهيونية في المرحلة السابقة، وخوض المجتمع الإسرائيلي لهذا الاتجاه يعني استقرار حالة ما بعد الصهيونية -نسبيًا- داخل المجتمع.

ويرى الباحث أن الدراسات الأكاديمية العربية لا تتعامل مع المجتمع الإسرائيلي بشكل مجرد، وإنما كمدخل جوهري وضروري لدراسات مستقبل ومآلات الصراع العربي- الإسرائيلي.

وهنا تجد الدراسة أن الحديث عن ظاهرة «ما بعد الصهيونية» يمس بوضوح حقيقة أزمة شرعية الوجود الإسرائيلي، وأن وجود إسرائيل إنما تم على حساب مجتمع فلسطيني متطور، وألحق ضررًا بالغًا بهذا المجتمع القائم بالفعل من أجل إقامة مجتمع آخر مُتصوَّر. ولا يتطرق أي من علماء «ما بعد الصهيونية» إلى حل أزمة الوجود الإسرائيلي، ولكنهم يركزون فقط على أزمة هوية إسرائيل المشتعلة، والمتفرعة من تلك الأزمة، وذلك من خلال تطبيع هذه الدولة، وإضفاء الطبيعة الديمقراطية عليها، وتأكيد الهوية الإسرائيلية لسكانها. وهو ما يجعل من الممكن وصفهم بأنهم «أنصاف المنصفين» –وفقًا لتعبير الباحث المصري المتخصص في الشئون الإسرائيلية «جلال الدين عز الدين»- إذ إنهم (أي علماء ما بعد الصهيونية) توصلّوا إلى جوهر الأزمة، ولكنهم يهربون من مواجهتها مواجهة جذرية.

ويُلاحظ أن تعامل كتابات ما بعد الصهيونية مع الأبعاد التاريخية للأزمة الصهيونية قد تم بتفصيل ورصانة، وتم فيه مراعاة الموضوعية والبحث عن الحقيقة، وانُتقدت فيه مقولات الصهيونية من أسُسها، ولكن عند الانتقال إلى الحاضر، وما ينبغي أن يتم لتصحيح ذلك الخلل الذي ترتّب على الصهيونية وإنشاء إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، فإن ما بعد الصهيونية تنغمس في إغراءات الوضع الراهن الذي تكرست فيه إسرائيل، وتنصرف عن فكرة الحقوق التاريخية المطلقة للشعب الفلسطيني.

إن حديث أنصار ما بعد الصهيونية عن مسألة منح حقوق متساوية للفلسطينيين واليهود في «إسرائيل»، لا يعتبر من قبيل مراجعة الصهيونية، بقدر ما هو معالجة للواقع الإسرائيلي، وهذا كله لا يخرج عن استمرارية التعامل الصهيوني التكتيكي مع المشكلات الجوهرية التي تعانيها إسرائيل كـ«دولة».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.