في كندا، بداية أغسطس/آب 2023، أعلنت سلسلة المطاعم الشهيرة «كنتاكي» عن بث مباشر لجنازة تودع فيها البطاطس المقلية التي تقدمها هناك؛ والسبب نقص الطلب عليها وقلة شعبيتها، وفي اليوم التالي وعلى أنغام الموسيقى الجنائزية الكنسية تم إغلاق تابوت فاخر على كمية كبيرة من البطاطس المقلية تملأ التابوت، مع الإعلان عن وصفة – للبطاطس – جديدة ومقرمشة. تفاصيل الحدث نقلتها حسابات فرع كندا على منصات التواصل.

إنها «كنتاكي» التي يعرفها البابا في روما، والأطفال الحالمون بزيارة فروعها من أبناء الأقاليم الفقيرة، وأصحاب المُكيفات العملاقة ممَّن لا يملكون النقد، وتكتظ جيوبهم بـ «الكريديت» التي تشتري ما لا يشترى، وغيرهم.

أيهما تذكر؛ دجاجًا مقرمشًا أم رجلًا عجوزًا؟

«كنتاكي»؛ التي أخرجت الفنانة «أحلام الشامسي» عن وقارها في «آراب آيدول» قبل سنوات لتصرخ «كيفي كيفي … آبي كنتاكي»، مُعلنة عن جوعها واحتياجها لوجبة من مطاعم الدجاج الشهيرة، وكنتاكي ليست اسم عائلة الرجل العجوز، الذي يشبه النجم حسين فهمي بالدوجلاس، وإنما هي ولاية أمريكية، أما الرجل العجوز المبتسم بالدوجلاس والشعر الأبيض فهو الكولونيل «هارلاند ساندرز»، والأخير أسس هذا الأسطول بعد صراع مع فقر مدقع لا يقل عن مشاهد نقلها «جون شتاينبك» و«إميل زولا».

مطاعم الدجاج التي ستحتفل بعد سنوات قليلة بمئويتها الأولى، تعد ثاني أكبر سلسلة مطاعم وجبات سريعة في العالم بعد «ماكدونالدز»، والأخيرة رغم مجيئها بعدها بعشر سنوات فإنها أكثر انتشارًا؛ ولذلك عدة أسباب لا مجال لذكرها، ولكن هناك معلومة وإحصائية قبل سنوات تذكر أن سلسلة مطاعم «ماكدونالدز» أكبر بائع أو مُوزِّع لعب أطفال في العالم، بسبب اللعبة التي تقدمها مع «الوجبة المرحة» التي يُقبِل عليها الأطفال والشباب، ممَّن تربَّوا على اقتناء «لعبة ماك» من الصغر.

هل هناك صراع بين «كنتاكي» و«ماكدونالدز»؟ ربما لا يعنينا أي صراع، ميكانيكية الهضم هي ما تُقرِّر وجبة المُتلقي، وفي النهاية من المفترض أننا نأكل ما يعجبنا كما نلبس ما يعجبنا ولا يهمنا رأي الناس، والناس يذكرون الرجل العجوز كـ «لوجو»، سواء استخدمته سلسلة «كنتاكي» أم لا.

«الكوفيد»: كيف تغيرت نظرتنا إلى «الدليفري» ووسائل التواصل؟

«الكورونا» حسمت إشكالية التسمية، ما بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي، وأصبح «العالم الموازي» التسمية الأدق لعالم صنعه الإنترنت، كلنا فيه سكان أصليون ولاجئون ومسافرون وعابرو سبيل، نقضي الساعات على منصات التواصل أكثر مما نقضي على المواقع المتخصصة أو أكثر مما نجلس على سفرة/طبلية في غربة منازلنا، تقربنا الشبكة بـ «إيموجيز» ومفردات تربط بين أفراد الأسرة الواحدة.

عزَّز «الكوفيد» التحول الرقمي، ونجحت العزلة الوقائية بأدوات التواصل الاجتماعي، وزادت أعداد المشتركين في خدمات (الفيسبوك، الإنستجرام، المسنجر) إلى ما يقرب من 20% في الشهور الـ 5 الأولى من أزمة «كورونا»، حتى إن «آبل» أصدرت وقتها إصدارًا جديدًا من هاتفها الاقتصادي الـ «SE» لتواجه شبح هبوط أرباحها السنوية. في الوقت نفسه، انتعشت بشكل ملحوظ الخدمات الحيوية العادية من خلال الإنترنت، كخدمات التجارة الإلكترونية وتوصيل الأغذية والطلبات والحاجات اليومية إلى المنازل، واجتهدت تقنيات التواصل في تحسين جودة التراسل فيما بينها لتستقطب عددًا أكبر من الجمهور.

في مسألة احترام «اللوجو» والشعار والذاكرة البصرية

اكتظ مجتمع تقنيات التواصل بعمال وصُنَّاع المحتوى، ما بين الموهوب والموهوم؛ المهموم الأكبر هو المستخدم – زبون المنصة – الذي يقيِّم ويفرز ويشتري المنتج الأفضل، الدراسات المسحية أكدت مساهمة منصات التواصل في زيادة العزلة الاجتماعية أثناء جائحة «كورونا»، والإحصائيات على المواقع المتخصصة أشارت إلى زيادة مستخدمي السوشيال النشيطين إلى 4.14 مليار في الربع الأخير من 2020، وهو رقم كبير بالنسبة لسكان العالم في تلك الفترة، وكان الكيان «الشاطر» هو من يحافظ على وجوده، خاصةً أن المُستخدم يُفضِّل الحياة الافتراضية عبر هذه المنصات بدلًا من ممارسة الحياة الواقعية، في ظل تحول كل شيء إلى هذه المنصات، الدراسة والعمل ومطالعة الأخبار، فمن خلالها تعرف الخبر، والحدث وما يدور في كل العالم بميادينه وجحوره.

مُستخدم منصات التواصل عبر أي نافذة يضغط غالبًا دون أن يحك عقله للحظة، صارت نظرة إلى الشاشة، منفذه إلى منصته أو تطبيقه المفضل لا إراديًّا، لارتباطه وجدانيًّا ونفسيًّا بـ لوجو/شعار له ألوانه التي تعوَّد وذاكرته عليها.

احترمت «كنتاكي» زبونها من خلال «اللوجو» على مدى ما يقرب من قرن من الزمن، فالذاكرة تستدعي الرجل العجوز، لمجرد ذكر اسم سلسلة مطاعم الدجاج، وتستدعي ذاكرة مُستخدم الفيسبوك، لوجو المنصة بألوانها التي تميزها، وبقي تويتر بنفس اللوجو والـ «ثيم» حتى استحوذ عليه الملياردير «إيلون ماسك» مُعلنًا تحريره من أي قيود، حيث تطور الشكل قليلًا وتحول، ولكنه بقي كما هو في الذاكرة البصرية لمستخدميه.

منصات التواصل فيما بينها صراع على الزبون/المستخدم؛ وقته وذاكرته، وتفاصيل حياته ككل دون مبالغة. على أرض الواقع منافسة بين الـيوتيوب والـتيك توك، الأول يلاحق الثاني من خلال تعزيز أدوات الفيديوهات القصيرة، التي سرقت العالقين في شبكات التواصل وقلدتها كل المنصات تقريبًا، وهناك «خناقة شوارع» بين الفيسبوك مُمثلًا في «مارك زوكربيرج» و«تويتر» أو «X» ممثلًا في «إيلون ماسك».

في سبتمبر/أيلول 2022، تراجع ترتيب مالك الفيسبوك في قائمة الأغنى من الـ 5 الأوائل إلى العشرين، بعد أن تراجعت أسهم الشركة، بعد تغيير علامتها التجارية المالكة لـ (الفيسبوك والواتساب والمسنجر والإنستجرام) من «فيسبوك» إلى «ميتا»، ولأسباب أخرى تلاحق الشركة دائمًا ويعرفها الجميع، منها قضائي حول المحتوى والرقابة عليه، حيث تم استدعاء «مارك زوكربيرج» أمام الكونغرس، واتهمه الجمهوريون بالرقابة، بينما ادَّعى الديمقراطيون أنه لم يفعل ما يكفي لمراقبة المحتوى المنشور على منصته، وغيرها كـ «فضيحة كامبريدج أناليتيكا»، وتسريب بيانات ما يقرب من 90 مليون مستخدم.

المُستخدم هو الحاكم الفعلي لكل ما يجري على ساحة الإنترنت، هذا الحاكم لم يعجبه أن يُحوِّل «إيلون ماسك» العصفور وألوانه المحببة إلى نفسه إلى حرف «X»، واعتبر الأمر سقطة كبيرة، وبداية النهاية للمنصة، وضرورة الهروب إلى غيرها.

لدى ماسك فيما يبدو ولع بالحرف الذي يعتبره جزءًا من كل أسماء مشروعاته العملاقة، ودمر بالـ X وتصميمه الجديد كل ما في ذاكرة المُستخدم الحاكم حول العصفور والـ X نفسها، بـ «أمواله» حول الرجل كل ما في ذاكرة المستخدم/الحاكم/الزبون حول المنصة وهويتها.

الوباء الاجتماعي VS الغباء الرأسمالي

سقطات ماسك ستفيد مارك كثيرًا لو أحسن استثمارها. من الضروري أن يحاول زوكربيرج الابتكار لا التقليد، هل تذكرون «ثريدز» التطبيق المستنسخ من «تويتر» – والأسرع نموًا في العالم خلال الفترة الماضية منذ ظهور «العنكبوتة» – «ثريدز» أكله العصفور الأزرق، والأزرق رقد لا يرجو القيامة، والعصفور بريشه ومنقاره وشقشاته/تويتاته مصلوب ومُعلَّق في ذاكرة مستخدميه، الذين رأوا الـ «إكس» (X) صليبًا نازيًّا، غرسه ماسك في حلوقهم وفي المدى الاجتماعي. فالناجي من وباء «كورونا» ما زال مُصابًا بوباء (ماسك، والواتساب، واليوتيوب، والتيك توك، والزووم، والسناب شات ومارك) وكل ما بينها من أسماء وتطبيقات ومنصات حاولت الخلود، أو المرور كالشهاب.

بصراحة «إيلون ماسك» مهما نعتناه بالرعونة، لم يكن «أحمق» طوال تاريخه، ذاته الإلكترونية والتكنولوجيا مُتضخمة، تميل إلى المقامرة، وليس من الحكمة اتهامه بالفشل. الشهور القادمة هي القادرة على الحكم بشكل أفضل، الديكتاتور يدير «منصته» كما يشاء. خطته في جعبته يُفصح عنها تدريجيًّا منذ أن وضع العصفور الأزرق في قفصه الطموح. «الأنا» عند ماسك وكل سلوكياته البشرية المعقدة، تحتاج إلى «سيجموند فرويد» جديد يواكب صاروخية الخوارزميات وخداعية الـ «ماسك».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.