للبيع، حذاء رضيع لم يتم ارتداؤه من قبل.

حسب موسوعة جينيس للأرقام القياسية، هذه هي أقصر قصة بالإنجليزية في تاريخ الأدب، مؤلفها هو «أرنست همنجواي»، وعظمتها تكمن في أنها رغم قصرها فقد شملت كل مكونات القصة الأدبية.

  • الشخصيات: أم ورضيعها.
  • الحبكة: امرأة تحبل، تشتري حذاءً، وقبل أن يرتديه يموت الجنين.
  • الصراع: الأم تحاول أن تتجاوز شعور الحزن والفقد من خلال بيعها للحذاء الذي يمثل آخر ما يُذكِّرها بأنها كادت أن تصبح أماً.

كل تلك المكونات وأكثر احتوتها 6 كلمات فقط (بالإنجليزية).

لطالما مثّلت القصص لغزاً عجز الكثير عن تفسيره، والسبب أنها ترتبط بشكل عميق بالنفس البشرية وطريقة نظر الإنسان لنفسه وللعالم، ولذلك لم تكن مصادفة على الإطلاق عندما أراد الإله أن يتواصل مع البشر من خلال الكتب السماوية، اختار أن يُكلِّم عباده عن طريق القصص، وذلك في حد ذاته يجعلنا نتساءل: لماذا القصص؟ وما هو السر الذي ميّزها على مدار التاريخ؟

القصص أنقذت البشر من الانقراض

يروي لنا المؤرخ «يوفال هراري» في كتابه «العاقل»، أن القصص هي السبب الرئيسي في استمرار الجنس البشري في الحياة وحمايته من الإقراض، فكما نعرف أن كل الكائنات تقريباً لديها لغة للتواصل بينها، لكن لغتهم تشمل ظرفين فقط: ظرف الغذاء وظرف الخطر، تلك هي الأوقات الوحيدة التي تتواصل بها الحيوانات لغوياً مع بعضها البعض، على سبيل المثال، فالنمل وفقاً لما توصلنا له من علم، لا يتواصل لغوياً مع بعضه البعض سوى عندما تعثر النملة على موقع يحتوي على الغذاء فتنادي الآخرين للحضور، أو تطلب منهم الابتعاد عندما يحضر الخطر، بالطبع هنالك طرق تواصل أخرى غير الكلام يتم استخدامها للتزاوج وأغراض أخرى، لكن لغوياً تلك هي ظروف التواصل الوحيدة.

لو عدنا بالزمن للوراء حوالي 300 ألف سنة، سنجد أن الارض كان يسكنها 9 أنواع من البشر (أو أشباه البشر)، يمكننا تسمية كل نوع حسب المنطقة التي كان يسكنها: إنسان «نياندرتال» كان يسكن في سهول أوروبا الباردة، وإنسان «دينيسوفا» كان يسكن في منطقة التاي في سيبريا، وإنسان «الهومو إريكتوس» يسكن في إندونيسيا.

ولغرابة الحال، كل تلك الأعراق البشرية تعرّضت للانقراض ولم يستطيعوا التكيف بشكل كافٍ للاستمرار على وجه الارض، عدا عرق واحد فقط، هو الذي تمكن من النجاة من الكوارث الطبيعية والحروب والحيوانات المفترسة وظروف المناخ القاسية، ألا وهو إنسان «الهومو سابينس» الذي ظهر في الجزء الجنوبي من قارة أفريقيا، والذي ننحدر من سلالته أنا وأنت وكل البشر المعاصرين، فيا تُرى ما المميز في هذا العرق بالخصوص الذي جعله ينجو عن بقية الأعراق التي أثبتت الحفريات أنهم كانوا أقوى بدنياً وعاشوا في بيئات آمنة أكثر من بيئات عيش الهوموسابينس؟

السر الذي جعل سلالتنا البشرية هي الوحيدة التي تنجو هو أننا نجحنا في تطوير لغة بدائية فشلت في تطويرها بقية الكائنات، كل الأعراق الأخرى لم تُطوِّر لغة تواصلها عن لغة النمل المتعلقة بالغذاء والخطر، أما أبناء الهوموسابينس فقد نجحوا في تطوير اللغة لحاجات أكثر تطوراً، وتطور اللغة ساعدنا في العمل كجماعات والعيش في قبائل، ومكّننا من الاتحاد والتعاون ومواجهة الأخطار ككتلة واحدة كبيرة العدد عكس بقية الأعراق، واستمرت عملية الاتحاد والتطور بسبب اللغة حتى كبرت القبائل وصارت حضارات ودول وإمبراطوريات، كل ذلك بسبب نجاحنا في تطوير لغة فوق بدائية للتواصل في ما بيننا، لكن لماذا نجحنا نحن خصيصاً في تطوير اللغة وفشلت بقية الأعراق؟

السبب في ذلك أننا لم نستطع العيش في مناخ قليل المعلومات، معلومات عن أماكن الغذاء وأماكن المطر والحيوانات المفترسة، لم تكن المعلومات كافية لكي تجعل الهوموسابينس يتعايشون مع بعضهم البعض، وذلك هو المختلف عنّا، أننا كنّا بحاجة لمعلومات عن بعضنا البعض، فلكي أقبل العيش بجوارك وأتقبلك كجار لي كان لابد أن أعرف عنك معلومات إضافية، كان لابد أن أسأل جارك السابق إذا كنت شخصاً تستحق الثقة أم لا، خصوصاً وأن الثقة هي المبدأ الأول الذي يحتاجه البشر للعيش في جماعات، فيجب أن يتأكد المرء أثناء رحلة الصيد أن جاره لن يغدر به ويسرق طعامه أو يسرق بيته أو يختطف امرأته.

ولأن العيش في جماعات يتطلب هذا القدر من المعلومات عن بقية الأفراد، فقد قام الهوموسابينس بتطوير لغتهم الخاصة لكي يتمكنوا من سرد القصص عن جيرانهم ومن حولهم، والقصص حينها كان الغرض الأساسي منها هو تناقل المعلومات، أنت تسرد لي قصة الشخص الذي سرقك لكي أتجنبه، وأنا أسرد لك قصة الشخص الذي أنقذ حياتي كي تقبل بزواجه من ابنتك، وتلك كانت بداية تطور القصص عند الهوموسابينس، التي أنقذتهم من الانقراض، ومكّنتنا من الاستمرار على قيد الحياة حتى يومنا هذا.

القصص من أجل بناء الحضارة

أولئك الذين يحكون القصص، هم منْ يحكمون العالم.
أفلاطون.

بعد فترة من الزمن، تحولت القصص من المستوى الشخصي للمستوى الجماعي، من القصص عن الأفراد إلى القصص عن الجماعات والقبائل والعائلات، بل وعن الآلهة، ومع تطور وعي الإنسان زادت حاجته للمعلومات التي لا يمكنه العيش من دونها، وبالتبعية زادت القصص تعقيداً، فبدلاً من أن كان غرضها نقل المعلومات التي يحتاجها المرء في يومه، أصبح غرضها نقل الخبرات الحياتية والرؤى، بل والفلسفات أيضاً، كل ذلك من أجل توحيد أكبر قدر ممكن من الأفراد خلف لواء واحد يتشاركون تحته فكرة واحدة وفلسفة واحدة وإيمانًا واحدًا، يساعدهم لبناء حضارة كاملة خاصة بهم حول فلسفتهم المشتركة.

على سبيل المثال، لو ألقينا نظرة على أشهر قصة في التراث/ الميثولوجي البابلي، سنجد أنها قصة خلق الكون، وبطلا القصة هما الإله «أبزو» وزوجته «تيامات» (يمثلان آدم وحواء)، أبزو إله الماء العذبة (النهر)، وتيامات إله الماء الملحة (المحيط). بعد زواجهما أنجبا الجيل الأول من الآلهة، ولسوء الحظ كانا آلهة شريرة وخبيثة (مثل قابيل). انقلبوا على الإله أبزو، وشيّدوا لأنفسهم من جثمانه بيوتاً.

وبالطبع أثار ذاك استياء زوجته الإله تيامات، ودفعها لتكوين جيش من التنانين والوحوش يجري في أجسادهم السم بدلاً من الدم، ويكون الغرض من ذلك الجيش المميت هو الانتقام لمقتل زوجها وقتل كل الآلهة الشريرة التي حاولت تنفيذ الانقلاب، ولأن المهمة خطيرة اختارت لقيادة جيشها الإله «كينجو» (يُمثِّل إبليس، كبير الشياطين)، وبالفعل تمكّن جيش الوحوش والتنانين من قتل عدد كبير من الآلهة، وكاد أن يقضي عليهم تماماً، واستمر الوضع على هذه الحال حتى وُلد الإله مردوخ.

كان لدى مردوخ قوتان لا يملكهما أي إله آخر: القدرة على النطق بكلمات سحرية يمكنها خلق الأشياء وتحويل النهار لليل والليل لنهار بكلمة واحدة؛ والقوة الثانية هي امتلاكه لعيون عديدة حول رأسه تُمكِّنه من الرؤية بوضوح من جميع النواحي.

وعندما اكتشفت بقية الآلهة قوة مردوخ، اقترحوا عليه أن يذهب لقتال جيش تيامات الوحشي الذي لم يستطع أحد هزيمته، لكن مردوخ كان ذكياً واتبع مقولة «الجوكر» التي تقول إن كنت جيداً في شيء فلا تفعله مجاناً، ولذلك قبل أن يوافق على اقتراح الآلهة اشترط عليهم أن يُنصِّبوه كبير الآلهة ويعطوه السلطة في كتابة القدر لتكون معه السلطة المطلقة على الوجود بأكمله، ولأن الآلهة كانت تتوقع عدم نجاحه، فقد رحّبوا بشروطه على الفور، لكن مردوخ أثبت جدارته عكس المتوقع، وانتصر على جيش تيامات، بل وأيضاً قام بتقطيع أجساد الوحوش والتنانين التي تجري في عروقها السموم بدلاً من الدم، وخلق الكون من أشلاء وسموم الشياطين، وكذلك قتل كينجو (إبليس) وخلق البشر من دمه المُسمَّم، لكي نعيش في كوكب مخلوق من سم التنانين ويجري بدمنا سم كينجو زعيم الشياطين.

قد تبدو قصة أسطورية عادية وسط أساطير عديدة، لكن لو قارناها بتاريخ الحضارة البابلية، سنجد أن حياتهم كانت مبنية بشكل كامل على أن العالم فيه الشر هو الأصل، وأن البشر يجري في عروقهم سم الشياطين، وأن على كل البابليين أن يتحدوا ويحافظوا على حضارتهم ضد أي غريب يحاول تفرقتهم.

وتلك كانت من الأشياء التي لاحظها «برتراند راسل»، وهو يقارن بين الحضارة الفرعونية والبابلية وبين حضارة جزيرة كريت. يقول راسل في كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» (الجزء الأول) إن الحضارة الفرعونية والبابلية كانت تتميز بالصرامة الشديدة أخلاقياً ودينياً بسبب كل القصص التي تناقلوها في تراثهم عن صراع الخير والشر والحياة بعد الموت، بينما في حضارة كريت كانت قصصهم تدور حول اللذة والمتعة وعدم وجود حياة بعد الموت، وذلك جعل حياتهم تتركز على السعادة والعيش المُرفّه، عكس المصريين والبابليين الذين تميزت حياتهم بالمعاناة والشقاء.

وهنا تظهر أهمية القصص مرة أخرى، لكن على مدار زمني أوسع لكي تتناقلها الأجيال وتصبح جزءًا من لاوعي الأجيال الجديدة التي تُشكِّل القصص وجدانهم وتُحدِّد أسلوب حياتهم دون أن يدروا، بل يمكن أن تتزايد تلك الأهمية ليظهر الجانب الأخطر للقصص وأثره على سيكولوجية الإنسان ونظرته لنفسه وللرب وللحياة بشكل عام.

إنه مجنون لأنه بلا قصة

في كتابه «الرجل الذي حسب زوجته قبعة»، يحكي لنا الدكتور «أوليفر ساكس»، طبيب الأعصاب الأشهر في العالم، عن حالة كادت تُصاب بالجنون بسبب قصة، أو بلفظ أدق بسبب عدم وجود قصة.

الحالة التي أقصدها هو السيد «ثومبسون» الذي كان يعاني من حالة نادرة من حالات فقدان الذاكرة الناتجة عن متلازمة كورساكوف (خلل دماغي)، والتي كانت تجعله يُصاب بنوبات تصبح فيها ذاكرته فارغة بشكل غريب، لدرجة أن السيد ثومبسون هرب من المستشفى ذات مرة وركب مع سائق أجرة، وفي النهاية عندما عثروا عليه سألوا سائق الأجرة ماذا قال لك المريض لتُقلِّه؟

أجاب السائق:

إنه أفضل راكب حظيت به مطلقاً، بدا أنه قد كان في كل مكان، وفعل كل شيء، والتقى بكل شخص، أكاد لا أصدق أن حياة شخص واحد يمكن أن تتسع لكل هذا.

وبالطبع كل هذه القصص كانت من تأليف السيد ثومبسون لكي يملأ فراغ ذاكرته ويمد نفسه بأرض صلبة يقف عليها ويستمد منها هويته، أو كما كتب الدكتور ساكس في تشخيص الحالة:

كل واحد منّا هو سيرة وقصة، كل واحد منا هو حكاية فريدة، يتم تركيبها باستمرار بدون وعي بواسطتنا ومن خلالنا وفينا. نحن لا نختلف عن بعضنا بعضاً كثيراً بيولوجياً ولا فيزيولوجياً، أمّا تاريخياً، كقصص، فكل منّا فريدة من نوعها. فمن أجل أن نكون أنفسنا لابد أن نملك أنفسنا، أن نملك قصص حياتنا، يحتاج الإنسان إلى قصة داخلية مستمرة للحفاظ على هويته والحفاظ على عقله من الجنون.

فالقصص لا يرجع فضلها فقط في مساعدة أجدادنا الأوائل من الانقراض، ولا في كونها السبب الرئيسي في بناء الحضارات على مدار التاريخ، هي أيضاً المسؤولة عن الصحة العقلية والنفسية للفرد، وبدونها تتوقف حيواتنا وتنهار نظرتنا لذواتنا ولا يعود لنا موقع من الإعراب في خريطة العالم.

كل القصص شخصية

 للقصص أيضاً بُعد شخصي مختلف عن بُعدها العام، فالطريقة التي قرأت بها قصة «تيامات ومردوخ» عزيزي القارئ ليست نفس الطريقة التي قرأتها أنا بها، هي نفس القصة، لكن كل شخص ينظر لها بطريقته ويترجمها من الزاوية الأقرب له، ولذلك اعتاد الروائي الأمريكي «دان براون» أن يقول إن الكاتب لا يقوم بكتابة رواية واحدة، بل روايته تتضاعف بعدد الأشخاص الذين يقرؤونها، لأن كل فرد يراها بطريقة مختلفة من خلال تجربته وخبرته وطريقة تفكيره.

يوافقه في الرأي المؤلف «دونالد ميلر» في كتابه «مليون ميل في ألف عام»، عن إن حياة الإنسان كلها عبارة عن قصة، وأن الإله هو الحكّاء الأعظم وصانع القصص الأمهر، وأنه من الممكن أن يكون ذلك هو سبب هوسنا بالقصص، لأننا حين نصنع القصص نكون في أقرب حالتنا للتحلي بصفة الخالق. وذلك هو ما جعل القصص محوراً دائماً لحياة الإنسان مهما تغيرت أحواله ومهما تغيرت ظروفه، وهو في الكهف، وهو في القصر، وهو في الغابة، بل وهو يبني أعظم حضارة شهدها الكوكب.

القصص كانت دائماً عمود الأساس لكل خطوة تتخذها البشرية للأمام، وأصل نظرة الإنسان لنفسه وللإله ولكل ما حوله، القصص هي اللي جعلتنا بشراً وفرّقتنا عن بقية الكائنات، ميّزت الإنسان وساعدته على البقاء وعلى تطوير إنسانيته، بل ساعدته في صنع حياة بأكملها من حولها.

من خلال القصص نعيش ونموت، نؤمن ونتعبّد، نحب ونكره، من خلال القصص نعيش إنسانيتنا التي لم يكن لها وجود بدونها، نعطي لأتفه سلوكياتنا معنى ونُكسِب حيواتنا قيمة، لذلك لن يكون من باب المبالغة لو قلنا إن القصص هي التي صنعت الإنسان، ومن خلال بناء كل شيء حولها وتذوق كل شيء من خلالها، يقضي الإنسان بقية حياته مُحاولاً أن يرد الدين للقصص.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.