كان يرفض دائمًا الحديث حول ذاته، يخبر الصحفيين والنقاد أنه يحب الحديث حول رواياته، وأن يكون الأدب هو مركز الحوار، لكن الآن يجد كونديرا نفسه في قلب المقالات والحوارات، من دون أن يستطيع منع ذلك، دافعه وراء الهروب من الصحافة عبارة لفلوبير ظل كونديرا يرددها طوال 40 عامًا يقولها لنفسه إنه يجب على الفنان أن يجعل الأجيال القادمة تعتقد أنه لم يعش أبدًا، كما ردد كونديرا أيضًا إنه في النظام الشمولي تدمر الشرطة الحياة الشخصية للفرد، أما في النظم الديموقراطية تتكفل الصحافة بذلك.

 والآن يغتال الجميع كونديرا، ولو بمدحه، فالتلاشي عنده هو الحب، لكن الآن كتب الموتُ السطر الأخير التقليدي في حياة الجميع، ومن مثالب الموت أنه يُفقد ضحيته حق الرد كذلك، فقد كان كونديرا دائم الاتهام لوسائل الإعلام بتحريف تصريحاته، والاهتمام بأعماله المكتوبة عن الفترة الشيوعية أكثر من اهتمامها بباقي أعماله، كذلك فإن الموت يُثبت ذكرى الأشخاص ويُحيي سيرتهم، عكس ما يبدو ظاهريًا أنه يفعله.

فالصورة النمطية عن كونديرا أنه الروائي المنشق عن النظام الشيوعي، والرجل الذي لم تسحق الدبابات جسده لكنها سحقت روحه، في فترة خاطفة من التحرر عاشتها بلده، تشيكوسلوفاكيا، أثناء تنصيب ألكسندو دوبتشيك سكرتيرًا أولًا للحزب الشيوعي في البلاد، كان ألكسندر قد رأى أوضاع بلاده في تدهور، والشعب يوشك على الانفجار، فأراد احتواء هذا الغضب ووعد ببعض الإصلاحات.

أبرز ما وعد به كان حرية الصحافة والتعبير، وإلغاء وصاية الحزب الشيوعي على المجتمع، والسماح لمواطنيه بالسفر إلى الخارج، والحد من نفوذ الأجهزة الأمنية وسلطتهم على الشعب.

كانت الإصلاحات أكبر من قدرة النظام الشيوعي في الكرملين على تحمّلها، كلمة الإصلاحات نفسها كانت غير مقبولة في النظام الشمولي، لهذا تعهد الكرملين بسحق ما رآه تمردًا.

ربيع براغ

هذه الإصلاحات التي تحولت لثورة حقيقية كان كونديرا ضلعًا مهمًا فيها فقد عقد كُتاب تشيكوسلوفاكيا مؤتمرًا عام 1967، وكان التناغم بين كونديرا ودوبتشيك هو السبب وراء استمرار الأخير في إصلاحاته وتنفيذها، بل ظهرت مؤسسات وأحزاب أخرى غير شيوعية داخل البلاد، فانصبغت البلاد بالطابع الديموقراطي،  فباتت تشيكوسلوفاكيا مصدر تهديد لباقي دول حلف وارسو، لهذا قرر الحلف التدخل مخافة أن ينتقل الربيع إلى بلادهم.

في أغسطس/ آب عام 1968 اقتحم قرابة 200 ألف جندي من السوفييت براغ، ثم انطلقت 4500 مدرعة، و400 طائرة عسكرية، في أكبر عملية عسكرية منذ الحرب العالمية الثانية نحو براغ واحتلتها، واُعتقل دوبتشيك، ورضخ المواطنون لمطالب موسكو، وسُحق ربيع براغ، ومعه أحلام كونديرا في وطن حر لا تُصادر فيه الكلمة.

لكن كونديرا الذي نعرفه هو الرجل الذي يشبهنا في تخبّطنا، بدأ حياته موسيقيًا مع أبيه، العازف الشهير لودفيك كونديرا، ثم تحوّل للكتابة، أصبح الرجل محاضرًا للأدب العالمي في أكاديمية السينما في براغ، كان رافضًا للمدرسة الواقعية السائدة آنذاك، فبدأ في نشر عدد من القصائد والمسرحيات، نجحت تلك الأعمال في لفت النظر له، لكن شيئًا ما كان مفقودًا فيها، لا ترى فيها كونديرا الذي عرفناه في نهاية المطاف.

هو نفسه قال ذلك، وصرّح بأنه عمل في اتجاهات متعددة للبحث عن صوته الخاص وأسلوبه المميز، فكانت تلك الأعمال المُبكرة في رأيه المخاض الضروري لولادته ككاتب أصيل، ويبدو أنه اكتشف صوته في روايته الأولى الدعابة، التي سخر فيها من النظام الشمولي وحققت له شهرة في فترة ربيع براغ، لكنها تحوّلت لسبب طرده بعد حلول خريف الحرية، لكنه لم يتراجع عنها ولا عما كتبه فيها.

تبخرت الرواية من المكتبات، وأُضيف اسمه على القائمة السوداء، وصار هدفًا للمخابرات الشيوعية حين عارض غزوهم لبلاده، فاضطر لاحقًا للسفر إلى فرنسا عام 1975، بعد أن يَئِس النظام الشيوعي من النيّل منه جسديًا، قرر إسقاط الجنسية عنه بعد 4 سنوات من إقامته في فرنسا، ومنحته فرنسا جنسيتها بعد عامين قضاهم الرجل لا يحمل سوى اسمه وقلمه وأسلوبه الأدبي، لا جنسية ينتسب إليها، ولا وطن ينسب نفسه إليه.

الكاتب صاحب الرقم 7

أتت روايته الأشهر، كائن لا تحتمل خفته، لتُنصب الرجل على عرش الأدب العالمي، تحوّلت لفيلم فرنسي لاقى رواجًا، لكن كونديرا غضب من رؤية المخرج التي أدت لتسطيح أعماق الشخصيات.

عام 1988 ودّع كونديرا اللغة التشيكية بروايته الخلود، وباتت الفرنسية لسانه الأدبي، لكن تغيّر اللغة لم يُغير الروح التي تكتب، فظلت الكوميديا السوداء حاضرة، والانتقاد الصريح والضمني لسيطرة موسكو على بلاده، والأهم أن مأساة تغريبه عن بلده كانت ممتزجة بكل السطور.

حتى أتى آخر أعمال الرجل، رواية حفلة التفاهة، وفيها كان من الصعب أن تعثر على جملة يمكن وصفها بالجملة الرصينة، أو الجادة، كانت الرواية غريبة في ذاتها، وغريبة على أسلوب كونديرا المعتاد، فقد كانت السخرية فيها شديدة، ومشاكل العالم الحديث موجودة بطبيعة الحال، لكن بلا وجود للواقعية، كانت الرواية مزيجًا غرائبيًا، يمكن اعتبارها أسلوبًا جديدًا أراد كونديرا اتباعه، لكن ما يغفر لذلك الأسلوب أنه ظهر في عمل واحد فقط، فذاب العمل في مجمل أعمال الرجل، فغلبت بقية أعماله، وظل طابعه الذي نعرفه هو الأبقى.

طابع الكاتب صاحب الرقم سبعة، الرواية الأولى، المزحة أو الدعابة، تتكون من سبعة فصول، ثم الرواية التي تلتها، الحياة في مكان آخر، يقول كونديرا إنها كانت تتكون من ستة أجزاء، لكن كي يكتمل البناء أضاف لها قصة تحدث بعد وفاة البطل بثلاث سنوات، أي خارج الإطار الزمني للرواية، حينها اكتمل البناء في عينه، وبالطبع غراميّات مرحة، المجموعة المتألفة من سبع قصص، بعد أن كانت مسودتها تتألف من عشرة قصص، لكن ارتأى كونديرا حذف ثلاث حتى تصبح متماسكة.

حتى روايته الأشهر، كائن لا تحتمل خفته، فصارت سبعة أجزاء، بعد أن كانت في كافة مراحل كتابتها ستة، لكن الرجل قال إنه بعد قراءة متعمقة اكتشف أن الجزء الأول أشبه بتوأم ملتصق يحتاج إلى فصلهما كي يصبح لكل واحد منهما حياته المستقلة، وكتابه فن الرواية الذي ينقل فيه خبرته في الكتابة ونظرته للرواية يتكون من سبعة فصول.

لا ينفصل الأدب عن السياسة

بعد رواية حفلة التفاهة أعلن كونديرا أنه سيتوقف عن الكتابة، ربما هي الشيخوخة قد أخضعت الجسد الذي لم تخضعه دبابات السوفييت، وربما هو التكهن الذي صدر بعد رواية حفلة التفاهة، أن الرجل لم يعد لديه ما يقوله، وأن الرواية بمثابة الانتكاسة السردية للرجل، وفي الحالتين لقد اتخذ الرجل القرار الصحيح، فالشيخوخة لا يمكن مقاومتها، ونضوب الكلام لا يُجدي معه الاستجداء، والأفضل الصمت بدلًا من تدمير الإرث المتراكم عبر السنوات الماضية.

على ذِكر الإرث، يجب الاشتباك مع نقطة عدم حصوله على جائزة نوبل للآداب، ففي كل عام يكون اسمه مرشحًا من قِبل معجبيه قبل المؤسسات، وينتظر الجميع نطق اسمه تكريمًا لمشواره الطويل، بعيدًا عن الجائزة من عدمها، يجب القول إن مشوار كونديرا على الرغم من صعوبته أخذ دفعة قوية عبر كتابته بالفرنسية، وبما رافقت حياته من صعاب، فقد خدمته تلك الصعاب في الترويج له بصفته الكاتب المنشق عن الشيوعية، والمبدع الذي أتى إلى فرنسا وأوروبا بلاد الأنوار يبحث عن الحرية والمساواة، هربًا من التعسف والديكتاتورية، لهذا فلا يُعد انتقاصًا من الرجل أن ندرك أن شهرته نتاج أدبه وإبداعه ممزوجًا بجانب من الدعاية النوعية الغربية.

برز كونديرا مرة أخرى للواجهة بعد اختفائه حين عادت له جنسيته الأم، ففي عام 2018 التقى وزوجته رئيس الوزراء التشيكي، بعدها بعام قدّم سفير التشيك في فرنسا لكونديرا شهادة الجنسية مرة أخرى، فكانت تلك عودة مهمة لجمهورية التشيك لأحضان كاتب عالمي، ورمزية مهمة لكونديرا برجوعه إلى موطنه الذي ظل الاغتراب عنه مؤرقًا له، ومتجليًا في كتاباته.

حين صمت كونديرا صارت البطولة المطلقة لأعماله وكتاباته، بعد قراءتها مرة ثم الأخرى، يدور في ذهنك تفسير آخر لسبب صمته، أن الرجل قد وصل للحكمة التي ظل يبحث عنها، وحين وجدها آثر الاكتفاء بمعايشتها مثلما يفعل الحكماء، كان التمهيد لهذه الحكمة هو انشغال كونديرا بالبحث في أعمال الآخرين بدلًا من كتابة الجديد.

فيمكننا أن نلحظ ذلك في كتاباته مثل فن الرواية، والوصايا المغدورة، والستارة، فظهر الجانب الموسوعي من الرجل، وإلمامه بالفلسفة والتاريخ والموسيقى، وتلك الأعمال الثلاثة، على النقيض من المعتاد، يمكن اعتبارها أعظم ما كتب كونديرا، وأن تأثيره على فن الرواية سيخلد عبر تلك الكتب بشكل أساسي، بجانب أعماله الروائية بشكل أقل قوة.

فقد ردّ ذات مرة على أحد الصحفيين قائلًا: إذا كنت تريد أن تعرفني، اقرأني. لكن حين نعرفه من أعماله سنعرف أنه أخطأ حين قال إن الروايات يجب أن تكون فنًا مستقلًا عن السياسة، وقاوم كونديرا كثيرًا الخلط بين الأدب والسياسة، في حين أن حياته في الحقبة السوفييتية، وما حدث في براغ، كانا رافدين شديدي الأهمية له، وحضرا في كافة أعماله.

الصوابية السياسية قد تقتله

كونديرا هو من حصرنا في ذلك، فقد كان عشقه وزوجته هو البقاء خارج الأضواء، حتى مراسلاته مع أصدقائه كانت عبارة عن صور لا خطابات كي لا تنشر بعد وفاته، كما أبطاله كان يرسمهم بشكل عشوائي ويضيف لهم وزنًا زائدًا وملامح غريبة حتى يصبحوا كالطلسم لا يستطيع أحد فكّه، وزوجته قالت ذات مرة إنهم حين انتقلت إدارة الأعمال لوكيل أدبي أمريكي، قاموا بإحراق كل شيء حتى المراسلات الشخصية، فقد خشيا أن يقنعهما الأمريكي بتحويل حياتهما إلى عمل درامي.

لم يكتب كونديرا سيرة ذاتية خالصة، لكنه نثر حياته بين الكتب، ففي كتابه الضحك والنسيان حكى عن أمه وجمالها، وقال إن هذا الكتاب هو أقرب الكتب لقلبه، وفي الوصايا المغدورة حكى عن خيبة أبيه حين فشل كونديرا في أن يصبح موسيقيًا، وقال إن أباه حمله من المقعد أمام البيانو ووضعه تحت الطاولة اشمئزازًا من عزفه، أما سيرته كما تعرفها الدولة الشيوعية فموجودة في 2374 صفحة مختومة بطابع سري للغاية، وموجودة في معهد دراسات الأنظمة الشمولية، وتشمل تفريغًا للمكالمات بينه وزوجته، وآراء أصدقائه فيه، والعديد من التقارير الأمنية حول نشاطاته.

نجا كونديرا من السوفييت، ومن تقلبات الحياة لمدة 94 عامًا، لكن لم ينجُ جسده من الموت، ومن الممكن ألا ينجو أدبه من الصوابية السياسية التي تفرض نفسها باستمرار على الأوساط الأدبية والفنيّة، فكونديرا لم يكن بأفضل من يصوّر المرأة في أعماله، وحين يصوّرها فدائمًا من وجه نظر الذكر تجاه الأنثى.

 وتصر الحركات النسوية أن العداء هو الصفة الأساسية لما يكتبه كونديرا عن النساء، لكن حتى لو لم يكن معاديًا للنساء، فطغيان الأبطال الذكور، وطوفان تصوير مشاعر الرجال تجاه النساء وأجسادهن، تهمة كافية كي تُنتقص أعماله، وقد تُصادر في لحظة ما.

لكن إجمالًا لقد صنعت الظروف التي مر بها أدبه، واستطاع هو أن يصيغ بأدبه فنًا يرافق القراء، الغربيين والعرب، في العديد من لحظات حياتهم، يدفعهم نحو التجربة، والغرق في الوجود، يحكي لهم عن العاطفة وخباياها، يشارك كونديرا القارئ، لا يسخر من القارئ بالكوميديا، ولا يتعالى عليه بالفلسفة، ويُقدّم له الحياة بمغامراتها ومللها مجردة، وعلى القارئ أن يقرر ما يريد.