الحضارة هي عصارة إنتاج البشر للفكر والثقافة، وكل ما يتعلق بالجهد المادي والمعنوي، وتتضمن الحضارة إنتاجات البشر في ميادين متنوعة كالاقتصاد والسياسة والأخلاق والعمران وكل ما يتعلق بالحياة الفنية والعلمية والأدبية، فهي عصارة الإبداع وإنجاز الإنسان على الأرض منذ بداية الخلق إلى الآن.

في تعريف المؤرخ الأمريكي ول ديورانت (1885-1981) في كتاب «قصة الحضارة»، أنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على زيادة إنتاجه الثقافي، وأنها بالفعل تبدأ حين ينتهي الاضطراب والقلق. فعصارة الحضارة هي إنتاج الناس في كل الأزمنة ما ينفعهم من أشياء في تدبير أمورهم. وتستند الحضارة على مقومات: من موارد اقتصادية، ونظم سياسية وأخلاقية، وفنون، وعلوم وصنائع.

أمّا ابن خلدون (1332-1406) يرى أنها عملية نوعية في انتقال الناس من البداوة الى الحضارة، ومن الخشونة والتغلب إلى الرقة والسكون والبناء. أمّا في رأي الفيلسوف الألماني شبنلغر (1880-1936) في كتاب «انحطاط الغرب»، فالحضارة عبارة عن روح زاخرة بالإمكانات والطاقات المولدة للمدنية والتقدم، والدافعة نحو الرخاء والهيمنة، نموها وأفولها أشبه بعملية بيولوجية مماثلة للكائن البشري، فلكل حضارة طفولة وشباب وشيخوخة، ولابد أن تتحول من القوة إلى الانحطاط والأفول، وبذلك تظهر حضارة جديدة بمعالم أخرى.

أما المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973)، يعتبر الحضارة نتاج جهد الإنسان في حسن تدبير مجموعة من العناصر المركبة والمتفاعلة: مشكلة الإنسان، ومشكلة التراب، ومشكلة الزمن. فالحضارة صناعة ذاتية من عوامل داخلية تنبني على إصلاح أعطاب الفرد الفكرية بالذات، وحسن استغلال الموارد الطبيعية، وتدبير الزمن مهم في الإقلاع، إضافة إلى قوة الشبكة الاجتماعية وميلاد مجتمع جديد، شمس الحضارة أشرقت من الشرق فوصلت للغرب، ويمكن أن تعود في دورة كاملة. فمن وحدة الناس على الفكرة الواحدة شُيدت الحضارة، وذلك عندما تجد الفكرة الدينية قلوبًا مفتوحة وعقولاً صاغية للتنفيذ. هذا الأمر واضح في تشكيل الحضارة الغربية من روح الثقافة، ومن الفكرة الدينية المسيحية حسب فيلسوف التاريخ هرمان كيسرلنج، ولذلك يقسم مالك بن نبي الحضارة إلى مراحل: مرحلة الروح وتتمثل في الفكرة الدينية، ومرحلة العقل وتتمثل في الفهم والتحفيز على العلم والعمل معًا، ومرحلة الغريزة التي تعني انحراف الحضارة عن طريقها الصحيح وبدون توازن بين الجوانب المادية واللا مادية. فالحضارة تنبثق من روح الأمة، والدين مكون أساسي في النهضة والتوازن الفردي والجماعي.

لماذا صراع الحضارات؟

إن المحدد المركزي في صراع الحضارات، حسب المفكر الأمريكي صمويل هنتغتون، هي الثقافة أو القيم بصفة عامة، وليست العوامل الاقتصادية المادية، حيث استخلص المفكر عصارة التفكير في الرد على كتاب فوكوياما «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» في سيادة النموذج الليبرالي والفكر الرأسمالي في العالم من خلال ثقافة العولمة، وبناءً على النموذج الأصلح في قيادة العالم نحو الرخاء والسلام.

النهاية هنا تعني القضاء المطلق على الفكر القومي والنظم التوليتارية، من الشيوعية ورواسب النازية واستبعاد الحركات الدينية المتشددة، بفضل ما توفره الفلسفة الليبرالية من إمكانيات في العمل والتنظيم، والتقليل من الصراعات والاحتقان السياسي والاجتماعي. مبدأ التعددية السياسية، والتداول السلمي للسلطة، والمنافسة الحرة، وفتح المجال للتبادل التجاري، وعالمية الحقوق والحريات مميزات الفكر الليبرالي، في وحدة العالم وفي النموذج الديمقراطي وعولمة الحريات وثقافة حقوق الإنسان.

في أطروحة صمويل هنتغتون، الصراع يتجه أكثر نحو رفض الحضارات للقيم الغربية بدافع الخصوصية والغزو الثقافي. هذه القيم لا تبدو منطقية في عقلية المسلم أو الأرثودوكسي. فالزيادة في حجم المبادلات لا يعني سيادة الفكر الغربي وتقبل البلدان لأنماط العقلانية الغربية، وتغلغل هذه القيم يُعجِّل بعودة المكبوت الديني والقومي من جديد. فيطفو على السطح في شكل مواقف وآراء مُعبِّرة عن القلق من الاحتواء. وتزداد مخاوف هنتغتون من «خطر الإسلام وحضارة الصين» (الخطر الأخضر والأصفر)، ومن القوميات الموجودة في البلدان الغربية، ومن تزايد أعداد المسلمين في الغرب. هذه القوميات لا تعترف بالذوبان والاندماج في النسيج الاجتماعي الغربي، بل تريد في غالب الأحيان الهيمنة وتحويل الغرب لقيم بديلة.

ففي كتابه «من نحن؟» تزيد الهواجس والمخاوف على القيم الغربية وعلى الروابط التاريخية، وعلى الحضارة التي أصبحت مُهددة في عقر دارها من الجماعات المختلفة، تهديد للهوية وللروابط التاريخية التي تشكلت منها الولايات المتحدة الأمريكية. وتبدو المخاوف معقولة بالنسبة للمفكر هنتغتون من تضاعف المهاجرين وتزايد نسبة الولادات، مخاوف مبالغ فيها بالنسبة للذين يعتبرون أمريكا بلد التعدد والتنوع، ملاذ للمقهورين والحالمين، مبني على العلمانية وكونية الحقوق وفلسفة العمل والاستهلاك.

فالحضارات تجابه انحرافات المشروع الأمريكي في السيطرة وفرض الإرادة بالقوة، وتوجيه النقد للسياسة الخارجية، ولا يعني بالضرورة دخول العالم الإسلامي والصين وغيرهما من الحضارات ضد أمريكا وتقويض روح ثقافتها. فالكل يدرك أن أمريكا وحدة مركبة ومزيج من الحضارات، الحضارة اللاتينية والأفريقية والأوروبية والإسلامية. ولو كانت سماتها الأولى من خصائص الثقافة الأنكلوساكسونية والقيم البروتستانتية.

هذا الصراع يقوّض فرص السلام بين الحضارات، ويصنع العدو الوهمي والمصطنع، ويُبقِي الولايات المتحدة في درجة عالية من الخوف والترقب. والواقع أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 زادت في مصداقية نظرية «صراع الحضارات»، من استهداف جماعة إسلامية متطرفة لأمريكا، عندها قال جورج بوش الابن إن الحرية قُصفت، وإنهم بالفعل مستهدفون في قيمهم، وطرح هذا السؤال: لماذا يكرهوننا؟

ومن هناك كانت بداية الحرب على العالم الإسلامي من خلال وضع الدول تحت خيار إمّا معنا أو ضدنا، فكانت الحرب على ما يسمى الإرهاب، التي دفعت الشعوب ثمنها من ضحايا الحروب والخسائر المادية والأخطاء السياسية القاتلة في جموح الإنسان وخروجه عن الصواب، ولا زالت شرارة وتبعات الحرب في الشرق مستمرة.

شأن هنتغتون كغيره من منظري الأيديولوجية الرأسمالية ضد الشيوعية وكل الأنظمة المضادة للسياسة الخارجية الأمريكية الميالة للمصلحة الذاتية، وإشعال الحروب، وإلهاء العالم بالصراعات الهامشية دون النظر إلى جوهر النظام العالمي الذي يعني بداية تنوع الأقطاب وتنامي دول صاعدة وخصوصًا الصين، وميل بعض الدول الإسلامية إلى رفض التبعية العمياء، والأخذ بالسيادة والمصالح المشتركة، والأحرى الالتفات إلى المشاكل العالمية التي تضاعفت من الفقر والبطالة والهجرة ومشاكل التنمية البشرية.

الحضارات من الصراع إلى الغرق

من صراع الحضارات إلى غرقها، يكتب الروائي اللبناني أمين معلوف كتاب «غرق الحضارات» من ضمن مجموعة من الإصدارات التي سبقت الكتاب. عن الحروب الصليبية، والصراع بين الشرق والغرب، والبحث عن المشترك المنسي في القيم الإنسانية من خلال شخصية عمر الخيام في رواية «سمرقند»، والحديث عن اختلال العالم في موازينه بين الخير والشر والاندفاع نحو الصراع في زمن العولمة، وهذا التيه الذي تشهده الحضارات ولا مفر منه، بدل صيانة هذا العالم من الغرق وليس كل الحضارات في مأمن عن هذا الغرق.

يصيبها الذوبان والانهيار من الداخل، تحولات كبرى تصيب الإنسانية من جراء العنف الذي يستشري في العالم، ومن اختلال في المستوى الاجتماعي والسياسي. السفينة تقترب من جبل الجليد والناس فوق السفينة طبقات، والغرق يمس الكل ولا طوق للنجاة من جراء القيادة الهزيلة للعالم، قوارب الموت وفرار الناس في بؤر عدة من الحروب وضيق العيش، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وبداية تفكك أوروبا في عودة الشعبوية والأحزاب القومية الراديكالية المناهضة للآخر، وتصاعد الحركات الإسلامية المتشددة في الشرق. والتغيرات المناخية وتدهور الديمقراطية في العالم بصعود دونالد ترامب في أمريكا، وأزمة اللاجئين والحروب المتتالية في الشرق. هناك عودة وتزايد للهويات القاتلة التي ساهمت في اندلاع الحرب اللبنانية، وتوسع نطاقها عندما تتغذى على الدين والماضي في عودة المكبوت الأخلاقي والقيمي للواجهة، وهذا ينذر بعودة الحروب بين الحضارات بدل التنافس.

طوق النجاة في تحويل التهديد إلى تعايش يفسح أملاً جديدًا في إنسانية واحدة، وعدالة دولية تزيل التوتر وتلغي أصوات الذين يرفعون شعارات الحقد والاستئصال والعدوانية. هنا دور المفكر والفيلسوف والداعية والفنان، والذين يؤمنون برسالة السلام والتسامح.

أما في الشرق العربي، فإن أمين معلوف يعود للتاريخ مرة أخرى ويستمد الفكرة والحدث منه، ثم يعيد طرحهما بصيغة أخرى، يقترب أمين معلوف من الماضي البعيد والقريب للقول والتعبير في الأشياء التي ساهمت في عقد اليوم، يتكلم عن الشام ومصر ونكسة 1967 والحرب الأهلية اللبنانية والقومية العربية والنهضة المعاقبة، وتجارب اليوم في الحركات الإسلامية الراديكالية، وصعود الخميني للحكم في إيران وأحداث في الشرق والغرب التي تشكل عوامل تأجيج للصراع وتنتهي إلى غرق الحضارات. ويبدي رغبة في تجاوز نظرية صراع الحضارات للخوف على الحضارة المشتركة التي أنتجها الإنسان، وفي تأملاته عن الكوني والخصوصي يحاول التعبير وإعطاء انطباع عن المشترك بين الإنسانية في العيش والمصير.

عاش العالم على الحرب الباردة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبانهيار جدار برلين استبشر العالم خيرًا في الانفتاح وتشكيل نظام عالمي جديد. بوادر هذا النظام لاحت في الأفق من خلال زعامة الغرب للعالم بقيادة أمريكا التي كرّست للقطبية الواحدة، وفرضت سياسة العولمة وانتهت إلى الحروب الاستباقية، والحرب على الإرهاب والهجرة. وفرض سياسة الحمائية والعقوبات الاقتصادية على ما يُسمى الدول المارقة، وظل العالم على التقسيم القديم بين الدول المُنتِجة للمواد الأولية والدول الصناعية. وزاد في قتامة السياسة العالمية اليوم منطق دونالد ترامب في الابتزاز والتنصل من المسئولية والانسحاب من المعاهدات الدولية، هذا الاندفاع والقلق سياسة براغماتية ضيقة تتجه صوب عودة الهويات القاتلة وينذر أكثر بغرق الحضارات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.