تثير قضية المهاجرين في المرحلة المعاصرة نقاشًا حادًا حول إمكانية قبول أو عدم قبول أعداد متزايدة منهم. فهناك بعض الدول مثل كندا ترحب بالمهاجرين، وهناك دول أخرى مثل الولايات المتحدة تفرض قيودًا على من يدخل أراضيها وخصوصًا مع تولي ترامب مقاليد الحكم، نظرًا لما يحمله من مشاعر ضغينة تجاه المسلمين وتجاه المهاجرين من المكسيك، وحجته في ذلك أن المهاجرين المكسيكيين يفسدون أخلاقيات الشعب الأمريكي لأنهم -وفقًا له- يجلبون المواد المخدرة إلى البلاد وأنهم لصوص… إلخ.

فهل بالفعل تمثل قضية المهاجرين خطرًا على أخلاقيات وخصوصيات الشعوب؟ وهل تكون الحكومات مسئولة فقط أمام أبناء جنسها وجماعتها الخاصة، أم أنها مسئولة أمام الإنسانية جمعاء؟

بين تقبل اللاجئين ورفض المهاجرين

يرى البعض أن أفضل حجة للحد من الهجرة هي الجماعية، وكما كتب «مايكل ولزر» فإن القدرة على تنظيم شروط العضوية ووضع شروط القبول والاستبعاد هو في صميم الاستقلال الجماعي، وبخلاف ذلك لا يمكن أن تكون هناك مجتمعات ذات طابع شخصي ومستقرة تاريخيًا ولديها روابط مستمرة بين الرجال والنساء، مع بعض الالتزام الخاص لبعضهم البعض، وبعض الإحساس الخاص بحياتهم المشتركة، كذلك فإن العديد من الأمريكيين لديهم تخوف من السماح لأعداد كبيرة من المكسيكيين بالهجرة إلى الولايات المتحدة، لأن ذلك ربما يفرض عبئًا كبيرًا على الخدمات العامة وعلى إنتاج رفاه اقتصادي للمواطنين الحاليين. فهناك من يرى أن فتح باب الهجرة سيخفض من مستوى المعيشة الأمريكي. (1)

وفيما يتعلق بالاستعانة بالعمالة من الخارج، فيقول الفيلسوف السياسي مايكل ساندل: إن العمال يعتقدون الآن أن بلادهم تهتم أكثر بالسلع الرخيصة والعمالة الرخيصة أكثر مما تهتم بإتاحة فرص عمل لشعبها، لذا فهم يشعرون بالخيانة وهذا الشعور بالخيانة غالبًا ما يجد تعبيرًا قبيحًا وغير متسامح، حيث يؤدي إلى بزوغ مشاعر كراهية تجاه المهاجرين وإلى قومية متشددة تسخر من الغرباء، فهم يتحدثون عن رغبتهم في استعادة بلادهم، ويرى مناصرو فكرة القومية والوطنية أنه حتى لو كان لزامًا علينا أن نقوم ببعض الواجبات لتأمين الحد الأدنى من الرفاهية للجميع، فإنه ما زال علينا واجب أن نعطي أبناء المجتمع الذي ننتمي إليه، وهكذا فإن عليهم أن يعطوا وزنًا أكبر لأبناء الجماعة التي ينتمون إليها أكثر من الأجانب. (2)

يري مايكل ساندل أن الحجة الأقوى لتقييد الهجرة هي لأجل حماية مستويات الوظائف والأجور للعاملين الأمريكيين، الذين هم أكثر عرضة للتشرد بسبب تدفق المهاجرين الراغبين في العمل، فيقول: إن السبب في ترددنا في قبول المهاجرين هو ما علينا من التزام خاص من أجل رفاه إخواننا المواطنين، من خلال فضيلة الحياة المشتركة والتاريخ المشترك، وهذا يعتمد على الموافقة على المفهوم السردي للشخصية، حيث إننا وفقًا لهويتنا كفاعلين أخلاقيين مرتبطون بالمجتمعات التي نسكنها. (3)

وإذا قمنا باستطلاع للرأي حول ما إذا كنت تقبل بدخول اللاجئين أم المهاجرين إلى البلاد، فإن النتيجة تكون دائمًا موافقة مع اللاجئين ورافضة للمهاجرين، حيث إن الجميع لديهم تعاطف قوي تجاه اللاجئين. أما بالنسبة للمهاجرين، فإن الجميع يقلق من تبعات قبولهم، إذ إن اللاجئ مضطر إلى ترك بلاده أما المهاجر فلا.

وبالنسبة لفكرة الأهمية الأخلاقية للحدود الوطنية، فإن هناك من يؤيدها وهناك من يعارضها، ومن يعارض فكرة الحدود هم من دعاة الإنسانية العالمية الذين يرون وجوب احترام كرامة وحقوق الفرد أيًا كان انتماؤه، وليس مشروطًا أن يكون مواطنًا لنفس البلد الذي أنتمي إليه. أما الآخرون فيرون أن الحدود القومية مهمة لأنها تحمي الوطنية والتاريخ المشترك وثقافة الشعب الواحد، وتحمي من التدخل الثقافي واختلاط الأعراق والتقاليد المختلفة بحيث تضيع وتختفي الهوية القومية للبلد.

الجنسية مجال للبيع والشراء!

يدرك الجميع أن الهجرة هي من بين القضايا السياسية الأكثر إثارة للجدل في عصرنا، وقد شهدت السنوات الأخيرة منعطفًا تقييدًا فيما يتعلق بالهجرة العادية وطلبات التجنس، لأولئك الذين يدخلون على أساس المطالبة بلم شمل الأسر أو لأسباب إنسانية. والحساسية التي يواجهها أي مجتمع سياسي هي كيفية تعريف من ينتمي أو يجب أن ينتمي إلى دائرة أعضائه، غير أن الجميع لا يعرفون أن الحكومات تُسهِّل الآن بشكل استباقي الحصول على الجنسية بشكل أسرع وأكثر سلاسة بالنسبة لأولئك الذين يستطيعون الدفع، وكمثال فقد مُنح المستثمرون الأجانب الأثرياء الجنسية في قبرص، كتعويض عن خسائرهم في الودائع المصرفية القبرصية. (4)

وتندرج برامج الجنسية حسب الاستثمارات التي تم وضعها للتو ضمن فئة ما يمكن أن نطلق عليه التبادل النقدي مقابل جواز السفر، وتركز الأدبيات الموجودة حول بيع الجنسية على حالة الأجانب الذين يشترون الجنسية مباشرة من الدولة نفسها، وعلاوة على ذلك فإن معظم النقاش هو نقاش اقتصادي وليس نقاشًا فلسفيًا، ومع ذلك فقد قدّم البعض مؤخرًا دفاعًا أخلاقيًا عن بيع الدولة للجنسية، وتتمثل الحجة تقريبًا في أنه إذا كانت الدولة قد تتحكم في عضويتها بشكل عام، فإنها قد تقبل أعضاءً جددًا مقابل الدفع نقديًا، فأي مبدأ للعدالة التوزيعية والذي يوصي باستفادة تفضيلية للفقراء أو بالأولوية أو المساواة أو المنفعة سيعترف بسبل تسمح بهذه الأسواق. (5)

ويرى الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل «جاري بيكر» أنه لا ينبغي أن ندع الدولة تتألف من مواطنين حدث أنهم ولدوا فيها، أي بالمصادفة، حيث إنهم ولكونهم لم ينضموا إليها بإرادتهم فإنهم لن يقدروها، ويرى أننا ينبغي أن نجعلها عبارة عن أشخاص يحبون ويريدون بشدة الانضمام إليها ويدفعون بالتالي ثمن هذه العضوية، ومن المؤكد أن محترفي السوق الحرة سيدافعون بحماس عن مثل هذه البرامج وكأنها تحررنا من أغلال الثقافة والأمة والتقليد وتنقل المواطنة إلى عصر عالمي جديد، وأكثر قدرة على المنافسة في مجال التعاقد على المعاملات، كـ جاري بيكر، الذي وضع آلية بديلة للأسعار المتعلقة بالمعايير المعقدة التي تحدد الآن الدخول القانوني. (6)

ثمن المواطنة

والمواطنة كما نعرفها على الأقل منذ أرسطو تتألف من العلاقات السياسية، وعلى هذا النحو من المتوقع أن تعكس وتولد فكرة المشاركة والحكم المشترك درجة من التضامن بين أولئك المتضمنين داخل الهيئة السياسية، ومن الصعب أن نتصور كيفية الحفاظ على هذه القيم في ظل الظروف التي يتم فيها التمييز بين من يدخلون ومن لا يدخلون فقط من خلال القدرة على دفع ثمن معين.

والاعتراض الذي يمكن إثارته هنا هو فكرة أن كل شيء بما في ذلك العضوية السياسية هو قابل للقياس ويمكن تخفيضه إلى قيمة بالدولار، وهذا هو ما يجعل التبادل النقدي مقابل الحصول على تصريح بالدخول إلى دولة معينة يشكل مشكلة عميقة ومُعترَض عليه، وموضوع بيع الجنسية يبدو وكأنه يبعث برسالة طمأنة إلى أولئك المهاجرين، بأنهم سيصبحون مواطنين مستقبليين، والاعتماد على آلية الأسعار وحدها باستثناء الاعتبارات الهامة الأخرى لن يمنع فقط الغالبية العظمى من سكان العالم من فرصة الحصول على الجنسية في سياسات رغيدة للحياة، وإنما قد يؤدي أيضًا -وعلى مر الزمن- إلى عالم حيث يجب على كل شخص من الأشخاص المدرجة أسماؤهم في العضوية أيضًا أن يدفعوا ثمن ذلك. (7)

ويدافع العديد من الفلاسفة عن قيود الهجرة ويبررونها من خلال الاحتجاج بالأثر الثقافي للهجرة، فالهجرة يمكن أن تسبب تغييرًا ثقافيًا سريعًا، فينشد مثلاً الفيلسوف السياسي «مايكل ولزر» قيمة تقرير المصير الجماعي في الدفاع عن القيود المفروضة على الهجرة.

ومنْ يدافع عن الهجرة يقول إن الاعتبارات الأخلاقية الأخرى مثل التزامات مساعدة الأشخاص الذين يعانون من سوء المعاملة، يمكن أن تفوق حقوق الدول في استبعاد الأجانب، فقد تكون الدول مطالبة أخلاقيًا بقبول عدد كبير من اللاجئين وملتمسي اللجوء وربما حتى المهاجرين الاقتصاديين، وبالتالي يرى المؤيدون للهجرة أن الدول الآن إذا رفضت فإنها تفشل في الوفاء بواجباتها لمساعدة الفقراء في العالم، وبالتالي فإن قيود الهجرة الخاصة بهم غير مقبولة، وفقًا لهم.

أسواق اللاجئين

أما بالنظر إلى مسألة اللاجئين فهناك اقتراح لعمل سوق عالمية ينقسم إلى حصص من اللاجئين، حيث إنه في كل عام يطلب عدد كبير من اللاجئين اللجوء السياسي ويكون عندئذ العدد أكبر من رغبة الدول في الاستقبال، وتم اقتراح بالسماح للدول أن تبيع وتشتري الالتزامات فيما بينها، وأن الدول ستقبل عدد اللاجئين القادرين على شراء طريقهم للخروج، ويقول مايكل ساندل في ذلك: إن هناك شيئًا يبعث على الانزعاج إزاء سوق اللاجئين لتغيير وجهة نظرنا لـ اللاجئين وكيف ينبغي أن يعاملوا، حيث أنهم يفكرون في اللاجئين وكأنهم مصادر للإيرادات بدلاً من كونهم كائنات إنسانية في خطر، ويمكن للمرء أن يعترف بالأثر المدمر لسوق اللاجئين، ولا يزال يخلص إلى أن هذا المخطط لا يزال خيره أكثر من ضرره. (8)

بالتالي إذن فإن مسألة بيع وشراء الجنسية للقادرين على دفع ثمنها أو غير القادرين هي من وجهة نظر مايكل ساندل مسألة غير أخلاقية؛ لأن المواطنة تتعلق بفضائل مدنية معينة لا يمكن المقايضة عليها أو وضع أمامها سعر، أما مسألة اللاجئين فتتعلق بشيء إنساني بحت بحيث أن هؤلاء الأشخاص الذين اضطرتهم الحاجة إلى مغادرة بلادهم هم أساسًا غير راغبين في تركها وإنما يبحثون عن السلام والأمان لهم ولعائلاتهم، ولذلك يضطرون إلى اللجوء. فمن غير الأخلاقي إذن وضع شرط أمامهم وهم ليسوا في حالة تسمح لهم بالاختيار بين عدة بدائل، لأن في ذلك مهانة واحتقارًا لكرامة الفرد واستغلالاً لضعفه.

في يوم 25 يناير 2018 أراد ترامب وضع حد لعقود من سياسات الهجرة الأسرية وكذلك للجدار الحدودي الفاصل بين الولايات المتحدة والمكسيك، فقام بحملة واسعة على المهاجرين الذين يعيشون بالفعل في البلاد بشكل غير قانوني، وقد رفض الديمقراطيون المؤيدون للهجرة ذلك وكذلك بعض الجمهوريين، ووصفوا قرار ترامب بأنه محاولة قاسية لتخليص البلاد من المهاجرين وإغلاق حدود البلاد، وموقف ترامب المتشدد بشأن الهجرة يستهوي الناخبين من الطبقة العاملة الذين يخشون من تعرض وظائفهم وأجورهم للتهديد من قبل المهاجرين.

وقد تعهد الاتحاد الأوروبي ببناء نظام مشترك لـ «اللجوء» على أساس التطبيق الكامل والشامل لاتفاقية اللاجئين لعام 2015 والمنوط بعمل المفوضية، وللاتحاد الأوروبي دور مهم فيما يتعلق بقضايا اللجوء وإعادة التوطين داخل وخارج الاتحاد، كما أن لقوانين وممارسات الاتحاد الأوروبي تأثيرًا كبيرًا على تطوير آليات حماية اللاجئين في البلدان الأخرى، ولدى مؤسسات الاتحاد الأوروبي -مثل المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي ومحكمة العدل الأوروبية- سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية في المجالات المتصلة مباشرة بولاية المفوضية. ولكل هذه الأسباب فإن المفوضية تتابع عن كثب قانون وسياسة اللجوء الخاصة بالاتحاد الأوروبي.

المراجع
  1. Michael Sandel, Justice: What is the right thing to do? Farrar, Straus and Giroux, New York, 2009, p 119.
  2. Michael Sandel, To understand trump learn from his voters, The Harvard Gazette, 22 Feb, 2017.
  3. Michael Sandel, justice, p 119.
  4. Ayelet Shacher and Rainer Baubock, Should citizenship be for sale? European university institute, Robert schuman center for advanced studies, 2014.
  5. Christopher Freiman, The case for markets in citizenship, Journal of applied philosophy, 2017.
  6. Ayelet Schachar, should citizenship be for sale?
  7. ibid.
  8. Michael Sandel, Market reasoning as moral reasoning: Why economists should reengage with political philosophy, Journal of economic perspectives, volume 27, 2013.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.