ذكرى الأميرة فاطمة بنت الخديوي إسماعيل (وشهرتها البرنسيس فاطمة) لا تزال حاضرة في الذاكرة الجماعية للمصريين وغير المصريين، إلى اليوم؛ وذلك رغم مرور مائة سنة على وفاتها؛ حيث إنها توفيت في يوم 6 ربيع الأول 1339هـ/ 18 نوفمبر سنة 1920م. ولحضورها إلى اليوم مظاهر رمزية كثيرة منها تلك اللوحة المُثبتة أعلى مدخل كلية الآداب بجامعة القاهرة ومكتوب عليها:

ذكرى عطرة للأميرة فاطمة إسماعيل التي أسهمت في بناء هذه الكلية.

ولا يرجع الفضل في حضور ذكرى الأميرة فاطمة الدائم إلى شيء بقدر ما يرجع إلى مبادراتها الخيرية الوقفية الخالدة؛ التي خصّصتها لنهضة الأمة نهضة شاملة مرتكزة على التعليم بعامة، والتعليم الجامعي بخاصة، وإتاحة فرص التعليم للبنين والبنات والنابغين من أبناء الفقراء تحديدًا، وهو ما أسهم في تخليد ذكراها في تاريخ مصر الحديث والمعاصر كله.

وكانت -بحق- في هذا الميدان الخيري نموذجًا رائدًا للمرأة المصرية في تطوير الحياة العامة، كما كانت –بحق- «بنت أبيها» الخديوي إسماعيل، الذي تفوق بمبادراته الوقفية الخالدة على كل من سواه من حكام مصر من أسرة محمد علي باشا.

ولكن، رغم شهرة الأميرة فاطمة في مجال الوقف والعمل الخيري؛ إلا أن هذه الشهرة لا تزال محصورة في موضوع واحد فقط هو تبرعها بالوقف لإنشاء «الجامعة المصرية»، ونادرًا ما أتت الدراسات التاريخية على ذكر وقفياتها النهضوية الخيرية الأخرى رغم كثرتها، ورغم أنها أكبر حجمًا من حج وقفيتها على الجامعة المصرية.

وعليه فقد ظل الوعي بالأعمال الخيرية العامة التي أسهمت بها الأميرة مشوهًا إلى اليوم، وظلت المعرفة بها قاصرة وجزئية، وبقيت مختزلة بشكل معيب ومخل بحقائق تاريخية لها وثائقها ومستنداتها المثبتة لها. وقد آن الأوان لمعالجة هذا القصور والاختزال والتشويه، وآن الأوان لتحرير الوعي العام من تلك المعايب كلها مرة واحدة، وهو ما استعنا بالله عليه، واعتزمنا تقديمه هنا -وفي مقالات أخرى مقبلة- في قراءة شاملة لجميع أوقاف الأميرة فاطمة ومبادراتها ذات النفع العام.

لقد عثرت أثناء التنقيب في وثائق الأوقاف المصرية على جميع مستندات أوقاف الأميرة ووثائقها، واطلعت على الملفات التي سجّلت التصرفات التي جرت عليها والمآلات التي آلت إليها بصورة متكاملة وشاملة إلى حد كبير، وبمثل هذه الوثائق وحدها يمكن للتاريخ أن يفصح عما قدمته لوطنها ولأمتها، ويمكن للمؤرخ أن ينصف في الحكم لها أو عليها.

تأسيس «الجامعة المصرية»

وُلدت الأميرة فاطمة في 25 شعبان 1269هـ/ 3 يونيو 1853م، للخديوي إسماعيل من زوجته «شهرت فزا هانم». ونالت حظاً من التعليم المنزلي والثقافة العامة التي كانت سائدة في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري. وفي عام 1288هـ/ 1871م تزوّجت من الأمير طوسون بن محمد سعيد باشا والي مصر، وأقيم لها عرس أسطوري، ارتدت فيه تاجًا من الماس ثمنه 40 ألف جنيه، وكان فستانها من الحرير الأبيض الفرنسى الثمين المُرصع بأغلى أنواع اللؤلؤ والماس، وبلغ طول ذيله 15 مترًا، وأنجبت من هذا الزواج الأمير جميل والأميرة عصمت. ثم تزوجت من الأمير محمود سرى باشا بعد وفاة زوجها الأول عام 1293هـ/ 1876، وأنجبت منه ثلاثة أولاد وبنتًا.

وذاعت شهرة الأميرة فاطمة نظرًا لامتلاكها كثيرًا من الحلى والملابس الرائعة. ومع هذا الثراء كله، آثرت أن تتخلّى عن ملكياتها وتحوّلها إلى أوقاف خيرية، وتبرّعت بحليها كلها لتمويل بناء الجامعة المصرية، وأغدقت في الإنفاق على مدارس للتعليم ما قبل الجامعي أيضًا، وأشفقت على الفقراء والمساكين وخدامها رجالًا ونساءً؛ حتى إذا حان وقت رحيلها لم يكن بقي لها أملاك خاصة تحت يدها، وكأنها كانت تكرر قصة والدها الخديوي إسماعيل الذي فارق الحياة بعد أن قام بوقف جميع أملاكه ولم يبق له شيء يسمى مالًا «سوى الملابس التي على جسده».

كانت الأميرة فاطمة أكبر المتبرعين بالوقف للجامعة المصرية، ولكن تبرعها لهذه الجامعة لم يكن أكبر تبرعاتها الوقفية كما سبقت الإشارة؛ إذ لها وقفيات تعليمية أخرى أكبر من وقفيتها على الجامعة المصرية، كما أن إنشاء هذه الجامعة المصرية ذاتها لم يكن من بنات أفكارها، ولا من اقتراحاتها حسب ما يشيع بعض الكُتّاب؛ وإنما كان فكرة الجامعة من اقتراح «مصطفى بك كامل الغمراوي»، وكان من أعيان بني سويف وكبار مُلّاكها، وكان أيًضًا من مشاهير مؤسسي الأوقاف في مصر هو وعائلته في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري/ مطلع القرن العشرين الميلادي.

وقد اقترح الغمراوي بك الاكتتاب للجامعة، واُفتتح الاكتتاب في أكتوبر سنة 1906م، بمبلغ 500 جنيه، وأوقف في سنة 1907م ستة أفدنة لصالح مشروع الجامعة. وعلى إثر ذلك انعقد اجتماع حول هذا المشروع في منزل سعد باشا زغلول، واكتتب الحاضرون بمبلغ 4585 جنيهًا، ثم اجتمع المكتتبون مرة أخرى في ديوان عموم الأوقاف المصرية في يوم 20 مايو 1908م برئاسة الأمير أحمد فؤاد (الملك فيما بعد)، وسمّوها «الجامعة المصرية»، وقرّرت لها الحكومة إعانة سنوية قدرها 2000 جنيه، بينما قرّر لها ديوان عموم الأوقاف إعانة سنوية قدرها 5000 جنيه بتوجيه من الخديوي عباس (انظر كتابنا: الأوقاف والمجتمع والسياسة في مصر، مدارات للنشر، 2016م، ص280).

وتوالت التبرعات والوقفيات لصالح مشروع الجامعة. وكانت وقفية الأميرة فاطمة كما سلف القول: هي أكبرها حجمًا، وأبقاها أثرًا مقارنةً ببقية الوقفيات على الجامعة ذاتها؛ حيث وقفت في 28 رجب 1331هــ/ 3 يوليو 1913م مساحة قدرها 674 فدانًا من أطيانها بمديرية الدقهلية، إضافةً إلى ستة أفدنة ببولاق الدكرور تبرعت بها لبناء دار الجامعة، كما تبرعت بمجوهرات قيمتها 18 ألف جنيه حسب أسعار سنة 1913م، لتمويل عملية البناء. ولكن قصة الأميرة فاطمة مع الوقف والتعليم كانت أسبق تاريخيًا من قصتها مع الوقف على الجامعة المصرية.

بداية قصة الوقف

بدأت قصة الأميرة فاطمة مع الوقف وهي في الثالثة والخمسين من عمرها، ففي 28 صفر 1314هـ/ 8 أغسطس 1896م، بادرت بتحرير أول حجة وقفية لها أمام محكمة الفشن الشرعية بمديرية بني سويف، وكانت عبارة عن 21 قيراطًا و196 فدانًا من الأراضي الزراعية بتلك المديرية. وكانت هذه الوقفية أهلية وليست خيرية.

وقد عَدَتْ عليها عوادي الزمن وطمست معالمها من الوجود، وحفظت لنا وثائق ملف التولية الخاص بوقفيات الأميرة فاطمة مستندًا رسميًا وحيدًا عبارة عن قرار من محكمة بني سويف الشرعية بعزل كل من: زهرة بنت حسن خورشيد، وفاطمة بنت إسماعيل أغا من النظارة على وقف الأميرة فاطمة المعين بحجة صادرة في 28 صفر سنة 1314هـ، وهي التي سبقت الإشارة إليها، وقررت المحكمة أن عزلهما فيه مصلحة للوقف، وأقامت بموجب قرارها هذا أحمد شفيق باشا مدير عموم الأوقاف المصرية وقتها ناظرًا على وقف الأميرة فاطمة. وفيما عدا هذه المعلومات، لا يوجد أثر في الوثائق لهذه الوقفية الأولى للأميرة فاطمة.

وفي سنة 1328هـ/1910م، قامت الأميرة وهي في السابعة والخمسين من عمرها بإنشاء وقفية ثانية جمعت فيها بين الأغراض الأهلية والأغراض الخيرية، وحرّرت بها حجة أمام محكمة مصر الشرعية بتاريخ 8 شعبان 1328هــ/ 13 أغسطس 1910م، وهي مُسجلة بالجزء 12، وجه 46 مسلسلة 1922 بسجلات تلك المحكمة، وبتوكيل منها لأحمد جودت بك مدير أسيوط (سابقًا). وبلغت مساحة هذه الوقفية 4 أسهم، و12 قيراطًا، و4427 فدانًا من الأراضي الزراعية الواقعة بخمس نواحٍ بزمام مديرية الدقهلية هي: منية سندوب، وسندوب، وأبو داوود العنب، وميت أبو الحسن، ودروه.

وبعد وصف المساحات الواقعة بكل ناحية من تلك النواحي وبيان حدودها، أثبتت حجة تلك الوقفية أن تلك المساحة «جارية في ملك صاحبة العفاف والصون، البرنسيس الموكلة فاطمة هانم، وتحت يدها وتصرفها إلى الآن (وقتها) ويشهد لها بذلك شهود إبرام عقد الوقف، ودل على تكليف القدر الموقوف باسم البرنسيس بدفاتر الحكومة؛ السبعةُ كشوفٌ الرسمية الصادرة من مديرية الدقهلية، والخمسة أوراد دفع الأموال المربوطة عليها لجهة الحكومة سنة تاريخه، المحررة من مديرية الدقهلية».

وقد اشترطت الأميرة أنه بعد «انتقالها لدار النعيم ومحل الكرامة» يكون هذا الوقف مقسومًا على أربعة وعشرين قيراطًا (حصة، أو سهمًا):

منها 17 قيراطًا (تُعادل 3135 فدانًا وكسور من فدان) يكون ريعها لأنجالها الخمسة وهم: الأمير محمد جميل باشا طوسون، المرزوق لها من زوجها الأول محمد طوسون باشا، وأصحاب السعادة: محمد جمال الدين بيك، وأحمد جلال الدين بيك، وعلي محي الدين بيك، والست المصونة أميرة هانم، المرزوقين لها من زوجها الثاني محمود سري باشا. على أن يكون ريع الحصة المذكورة بالسوية بين أنجالها الخمسة للذكر مثل حظ الأنثى، مدة حياتهم، ثم لأولادهم من بعدهم.

ثم من بعد انقراض نسلهم جميعًا؛ اشترطت شرطًا افتراضيًا «محتمل» التحقيق، ويعبر عن حلمها في نهضة البلاد من باب التعليم، وإتاحته مجانًا للجميع، وذلك بأن:

يُصرَف ريع القدر المذكور في «مشترى قطعة أرض بمصر المحروسة بأشهر جهة معدة لسكنى المسلمين، ويبنى عليها مدرسة تسمى مدرسة البرنسيس فاطمة هانم أفندي، لتعليم البنين والبنات بها العلوم الدينية الإسلامية، من: علم التوحيد، والفقه، والنحو، والحديث، وتفسير القرآن، وعلم الصرف والبلاغة، ونحو ذلك، والعلوم العصرية من: الحساب بأنواعه، والجغرافيا، والتاريخ، والهندسة، واللغات الأجنبية، وغير ذلك، بحسب ما يراه الناظر على ذلك حينذاك».

حلم نهضة التعليم

اشترطت الأميرة أيضًا شروطًا، إذا قرأتَها اليوم؛ فكأن المدرسة ماثلةً أمام عينيك، وكأن العملية التعليمية فيها قائمة على قدم وساق في أرض الواقع، ومن تلك الشروط: أن «تكون العلوم الدينية هي المقدمة» وأن «تكون المدرسة مستوفيةً أماكن التدريس والمنافع والتوابع واللواحق أسوةَ أعظمَ وأكبرَ مدرسةٍ من المدارس الأميرية بمصر التابعة للحكومة المصرية، وبشرط أن يكون التعليم فيها مجانًا بدون مصاريف مطلقًا، وأن يكون المتعلمون والمعلمون وجميع الموظفين بها من المسلمين».

وأصرت البرنسيس في عديد المناسبات على اختصاص «المسلمين» بالعمل في مؤسساتها التعليمية، والتعلم فيها، والاستحقاق في خيراتها الوقفية، بصورة توضح شعورها بثقل عبء التغلغل الأجنبي وخطره على مستقبل البلاد. ولم يثبت لنا أنها قصدت بذلك أي تمييز ضد غير المسلمين، بدليل أنها كانت تستعين ببعضهم في خدمتها وتدبير بعض شئونها الشخصية.

ونصّت حجة الوقفية أيضًا على كيفية تنظيم المدرسة وإدارة شئونها بالتفصيل، ووفق أحدث نظم الإدارة التعليمية؛ بما في ذلك الإنفاق من الريع في حال تحقق شرط إنشاء المدرسة في «مشترى ما يلزم المدرسة من الدواليب والمكاتب والكراسي والمفروشات وغير ذلك مما تحتاجه المدرسة من الأثاثات، وفي مشترى أدوات التعليم للتلامذة والتلميذات من كتب دراسية وكراريس وورق أبيض، وورق كتابة، وأقلام بجميع أنواعها، ومداد، وآلات، وعُدَد وغير ذلك، مما يلزم من أدوات التعليم أيًا كان نوعها»، ويصرف من الريع «في ماهيات ناظر للتلامذة الذكور، وناظرة للتلامذة الإناث، ومدرسين للذكور، بحيث يقدم في وظائف تدريس العلوم الدينية من يكون عالماً بالأزهر الشريف، ومدرسات مسلمات للإناث، وفراشين للذكور وفراشات للإناث، وبوابين لعموم المدرسة…».

وبالنسبة لعَدد التلامذة والتلميذات الذين يوجدون وقتها بالمدرسة، ولمزيد من الضبط والربط؛ اشترطت الأميرة فاطمة أنه كلما زاد عددهم زاد الناظر على الوقف عددَ المستخدمين من مدرسين وغيرهم، وبشرط أن يكون عدد التلامذة الذكور والتلميذات الإناث بها يستغرقون باقي إيراد الحصة الموقوفة بعد ما يلزم صرفه على إدارة المدرسة. وشرطت أيضًا ألّا تكون هذه المدرسة تابعة لنظارة المعارف المصرية، لا هي ولا إيرادها، في أي وقت من الأوقات، ولا بحال من الأحوال.

ثم أوردت الحجة شروطًا خاصة بماهيات ناظر المدرسة والمدرسين، وأجازت للناظر على الوقف أن يزيد عليها بحسب ما يراه، وبما يسمح به الريع، وذلك على النحو الآتي:

  • ماهية الناظر لا تقل عن 30 جنيهًا شهريًا، وماهية الناظرة لا تقل عن 15 جنيهًا شهريًا.
  • ماهية المدرس لا تقل عن 10 جنيهات شهريًا، وماهية المُدرسة الأنثى لا تقل عن 8 جنيهات شهريًا.
  • ماهية كل واحد من الفرّاشين والفرّاشات والبوابين لا تقل عن جنيهين اثنين شهريًا.

ولسنا ندري ما السبب الذي جعلها تُميِّز مرتبات المدرسين والناظر وتجعلها أكثر من مرتبات المدرسات والناظرة. وقد يكون ذلك أثرًا من آثار التقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة في وقتها. وقد شرطت أيضًا الصرف من الريع في «عمارة وترميم وتصليح ما يلزم للمدرسة على الدوام والاستمرار».

وداخل هذه الحالة الافتراضية، افترضت الواقفة أنه قد يتعذر بناء المدرسة، أو يتعذر الصرف عليها، أو قد يوجد مانع من إدارتها؛ وفي هذه الحالات المحتملة، ومن باب الاحتياط اشترطت الأميرة أن يُصرف ريع حصة الــ 17 قيراطًا:

على الفقراء المسلمين من البنين والبنات الموجودين بالمدارس الإسلامية بمصر المحروسة، في مشترى أدوات وكتب دراسية وماهيات معلمين وغير ذلك… فإن تعذر الصرف لذلك (وهذا افتراض داخل الافتراض السابق)؛ صُرف ريع الحصة المذكورة في: «مشترى خبز، ليُفرَّق في أيام السنة على طلبة العلم المجاورين بالجامع الأزهر الشريف، الموجودين بجميع الأروقة». فإن تعذر الصرف لذلك (وهذا افتراض ثالث)، صُرف الريع للفقراء والمساكين المسلمين أينما كانوا وحيثما وُجدوا، فإن زال التعذر ورجع الإمكان (وهذا افتراض رابع)، رجع الصرف كما كان، يجري الحال في ذلك كذلك، وجودًا وعدمًا، تعذرًا وإمكانًا، أبد الآبدين ودهر الداهرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

تلك شروط «افتراضية» اشترطتها الأميرة؛ وهي شروط ظلّت معلقة على شرط حاسم وبعيد المدى، وطويل الأجل هو: انقراض ذريتها وخلو بقاع الأرض منهم جميعًا. ومثل هذا الشرط بعيد الاحتمال، إلا بعد أحقاب زمنية طويلة، ولكن النص عليه كان سائدًا في أغلب الوقفيات الأهلية التي نشأت في مصر ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا.

وقد كشف مرورُ السنين الطويلة بالفعل عن ندرة تحقق هذا الافتراض في الواقع. وهو ما حدث في حالة هذه الوقفية للأميرة فاطمة، إذ لا يزال أفراد من ذريتها ونسلها على قيد الحياة، وفي عام 2014م حضر حفيدها محمد طوسون حفل تكريمها بجامعة القاهرة بمناسبة مرور 90 عامًا على إنشاء كلية الآداب. ورغم طول أجل تحقق شرط انقراض الذرية، إلا أن الواقفين في أغلبيتهم، ومنهم الأميرة فاطمة، كانوا يسهبون في تفصيل ما الذي يتعين عمله إذا ما تحقق «الافتراض» في حينٍ من مستقبل الدهر، كما لو كان قد تحقق فعلًا.

تلك الشروط الافتراضية كانت تعبر من ناحية: عن زيادة في الحرص والاحتياط والرغبة في ضبط مآلات الوقف في المستقبل البعيد، وتكشفُ من ناحية أخرى عن جوانب من التوجهات والآمال والأحلام التي يتطلع إليها بعض أبناء المجتمع في لحظة تاريخية ما، ويأملون تحققها في لحظة مستقبلية أخرى.

ومما أشارت إليه تلك الشروط الافتراضية السابق ذكرها في وقفية الأميرة فاطمة أيضًا: الرغبة في نشر التعليم وتعميمه للبنين والبنات مجانًا ودون مصروفات، وكان تلك الرغبة في وقت كانت سياسة الاحتلال البريطاني تحاصر التوسع في تعليم المصريين والمصريات، وتضع العراقيل المادية التي تحول دون حصولهم على نصيبهم من التعليم. وقد كانت مجانية التعليم في أوائل القرن العرشين حلمًا يبدو بعيد المنال ويداعب الخيال، ولم يتحقق إلى بعد عشرات السنين. وكان لمدارس الأوقاف دور كبير في تحقيق هذه المجانية في وقت مبكر من تاريخ مصر الحديث (انظر كتابنا: الأوقاف والمجتمع والسياسة في مصر، مدارات للأبحاث والنشر، 2016، ص262-265).

وعبَّرت تلك الشروط الافتراضية التي وضعتها الأميرة فاطمة في حجة وقفيتها كذلك عن الشعور بوطأة إرساليات التبشير التي كانت تتغلغل آنذاك في مصر عبر المدارس لتعليم أبناء الكبراء، وعبر المستشفيات والمساعدات الاجتماعية للفقراء، ولهذا حرصت الأميرة فاطمة على أن يكون ناظر المدرسة وناظرتها والمدرسون والمدرسات والتلاميذ والتلميذات كلهم من المسلمين. كذلك اشترطت الأميرة عدم تبعية المدرسة لوزارة المعارف؛ لأنها كانت تحت سيطرة الاحتلال البريطاني ومستشاره الشهير «دانلوب»؛ الذي كان يسخِّرُ التعليم لخدمة الاحتلال والتمكين لبقائه في مصر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.