«الحتمية اللغوية» هو تعبير يُطلق على قدرة اللغات وتركيباتها المختلفة على تحديد وتشكيل معرفة وفِكر الإنسان، حيث إنها تُحتِّم بعض أوجه المعرفة دون أخرى، بالإضافة إلى أن عمليات التفكير المختلفة مثل التصنيف والذاكرة والتصور، محدودة أيضاً باللغة التي يتحدثها الإنسان.

واعتماداً على هذا المبدأ فإن الأشخاص الذين يتحدثون أكثر من لغة (كلغتهم الأم) يمتلكون عمليات وقدرات تفكيرية مختلفة.

ويُعتبر مفهوم حتمية اللغة صورة من صور النسبية اللغوية، أو ما يُطلَق عليها «فرضية سابير-وورف»، والتي تفترض أن الأفراد يعيشون في هذا العالم اعتماداً على اللغة التي يتحدثونها بشكل يومي، فهي التي تتحكم في نظرتهم للعالم وإدراكهم، بالإضافة إلى أن تصور الأشخاص مرتبط بشكلٍ ما باللغة التي يتحدثونها.

وقد كتب «نيتشه» -مُعلِّقاً على هذه الفرضية- «سنتوقف عن التفكير إن لم نكن نرغب في عمل ذلك ضمن قيود لغوية»، ورغم عدم تحديد نيتشه للقيود اللغوية، إلا أنه تمت ترجمة كلماته على أنه قصد أقصى درجات الحتمية اللغوية أو لفظ «سجن اللغة». غير ذلك فقد كان نيتشه يؤمن بأن اللغة تُمثل لبنات بناء الفكر، حيث تعمل على تشكيله والتأثير عليه بشكل أساسي.

اللغة وإدراك الهوية الجنسية

في نهايات القرن العشرين، تحديداً في عام 1982 نُشرت دراسة تجريبية في إحدى الدوريات المتخصصة في دراسات اللغة، والتي أُجريت بجامعة ميتشيجان على مجموعة من الأطفال الناطقين بلغات مختلفة (العبرية، والإنجليزية، والفنلندية). وكان الهدف من القيام بهذه الدراسة هو الإجابة على تساؤل عما إذا كان هناك علاقة بين وجود الضمائر والعلامات المميِّزة للجنس في اللغة، وتطور إدراك الطفل الخاص بالتمييز بين الجنسين أو تحديد هويته الجنسية.

أشارت نتائج الدراسة لوجود علاقة مباشرة بين وجود الضمائر والعلامات المميزة للجنس وقدرة الطفل على تحديد الهوية الجنسية وإدراكه لها، فأظهرت النتائج أن الأطفال الناطقين باللغة العبرية أكثر قدرة على التمييز، وكانت لهم الأفضلية -وإن كانت مؤقتة- فيما يتعلق بإدراك الهوية الجنسية بفارق يصل لعام.

وقد بدا إدراك الأطفال الفنلنديين لهويتهم الجنسية (والجدير بالذكر أن اللغة الفنلندية لا تحتوي على ضمائر مميِّزة للجنس) متأخراً بعام مقارنة بأقرانهم الناطقين باللغتين العبرية والإنجليزية.

غياب الأرقام من اللغة وتأثيرها على القُدرات التقديرية

في دراسة أخرى لإحدى أكثر اللغات المثيرة للجدل، وهي لغة «البيراها» التي ينطق بها أحد الشعوب الأصلية التي تعيش بمعزل في غابات الأمازون بالبرازيل، والتي تُقَدَّم كدليل على فرضية النسبية اللغوية.

يستخدم متحدثو لغة البيراها نظام (واحد، اثنان، ثلاثة، أكثر) في العدِّ، حيث يُطلقون «أكثر» على الكميات الأكثر من ثلاثة، فلغة البيراها تعتبر لغة غير عددية.

ويتساءل الكاتب «بيتر جوردون» عن قدرة أفراد قبيلة البيراها على تقدير الكميات الكبيرة بدون استخدام ألفاظ خاصة تصفها كـ «الأرقام»، مما بدوره يطرح السؤال الكلاسيكي لفورف، عما إذا كانت اللغة يمكنها بالفعل تحديد الفكر.

من خلال جعل بعض أفراد قبيلة البيراها يقومون ببعض المهام الحسابية، كان من الواضح أن الإدراك الرقمي لأفراد قبيلة البيراها متأثر بشكل ملحوظ بغياب النظام العدِّي من لغتهم، فكان أداؤهم في التعامل بالأعداد ما بعد «الثلاثة» فقير جداً، لكن تقديرهم للأعداد ما بعد الثلاثة كان متقارباً بشكلٍ كبير.

اللغة والإنترنت

على المستوى التقني، كانت اللغة الأولى التي تم استخدامها في الانترنت هي اللغة الإنجليزية، فكان تقريباً 80% من محتوى الإنترنت مصنوعاً باللغة الإنجليزية. لكن تقلصت هذه النسبة مع سرعة انتشار واستخدام الإنترنت وصناعة المحتوى الرقمي، لتصل إلى 30% تقريباً، بينما قفزت لغات أخرى كالفرنسية والألمانية والصينية وغيرها إلى قائمة العشر اللغات الأولى في استخدام الإنترنت.

لكن، هل تؤثر اللغة المستخدمة أثناء البحث والتصفح على الإنترنت على نتائج البحث؟ أو كيف ستكون تجربة البحث ونتائجه إذا كانت لغة البحث لغة الزولو مثلاً (اللغة الأم الأكثر انتشاراً في جنوب أفريقيا) بدلاً من الإنجليزية؟

بدايةً من وسائل التواصل الاجتماعي، فاللغة المستخدمة على أي منها هي التي تحدد جمهور المتابعين أو المخاطَبين. بالإضافة إلى أنها تحدد كم المعلومات التي يمكن أن تحصل عليها من الويكيبيديا على سبيل المثال، كما أن البحث بلغة معينة قد يُظهِر نتائج أضعاف ما قد تُظهره لغة أخرى، غير أنه إذا كانت هناك لغة ما مهددة بالانقراض فمن الممكن أن ينعدم وجودها من الأساس على الإنترنت.

على صعيد آخر، فالموضوعات المثيرة للجدل على الإنترنت تختلف باختلاف اللغة المستخدمة أثناء التصفح، فعلى سبيل المثال عند التصفح باللغة الإنجليزية قد تظهر الانتخابات الرئاسية الأمريكية على رأس قائمة الموضوعات الأكثر حديثاً، بينما تزايد أعداد الإصابات وبداية الموجة الثانية من وباء الكورونا يتصدر نتائج البحث باللغة الفنلندية.

إذاً يُمكننا القول بأن الإنترنت متوفر فقط بحجم اللغة المستخدمة أثناء التصفح والبحث، وأن اللغة مهمة لبناء جسور بين الناس في الحياة الافتراضية بقدر أهميتها في بناء ذات الجسور في الحياة الواقعية.

الأكثر من ذلك أن اللغة فد تتسبَّب في عدم المساواة في المعلومات، فمُحرك البحث الشهير «جوجل» الذي يتعرف على 30 لغة أوروبية يتعرف فقط على لغة أفريقية واحدة في المُقابل.

حتى بالنسبة للغات المُعرَّفة بواسطة جوجل، يبدو أنه ليس لديهم نفس الشعبية وهذا ما أمكن إيضاحه من خلال بحث أجراه كل من «مارك جراهام» و«ماتيو زووك»، حيث قارنا نتائج البحث في منطقة الضفة الغربية بالثلاث اللغات (العبرية، والعربية، والإنجليزية)، ولاحظا خللاً مذهلاً في النتائج بين الثلاث اللغات، فكانت نتائج البحث باللغة العربية دائماً تتراوح بين 5% و15% ضمن عدد النتائج التي تظهر عند البحث باللغة العبرية والإنجليزية.

وكذلك يعكس موقع «ويكيبيديا» عدم تماثل ضخم في حجم المعلومات المتوفرة بلغات مختلفة، فبينما تُمثل اللغة الإنجليزية اللغة الأكثر انتشاراً، تتبعها الألمانية والفرنسية من حيث كم المحتوى المتاح على الإنترنت، يوجد غياب تام لأي محتويات بلغات أفريقية وآسيوية عدة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.