على الرغم من تراجع اكتساح مدرسة التحليل النفسي التي أسّسها «سيجموند فرويد» أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فإنها ضربت جذورًا عميقة لا يمكن اجتثاثها في نمذجة الآلية الكامنة بداخل الإنسان، تعالج ما يستقبله من مؤثرات وتتفاعل معها، فينتج ما يترتب عليها من إدراك وشعور وسلوك، وتنشأ العصابات والذهانات تبعًا لمكونات هذه الآلية، من رغبات وغرائز ووعي وذات.

في كتابه «مبادئ التحليل النفسي»، يشرح لنا محمد فؤاد جلال أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس أسس مدرسة التحليل النفسي كما وضعها فرويد.

جاذبية النموذج الفرويدي

ظل النموذج الفرويدي محافظًا على جاذبيته للباحثين والدارسين ومؤلفي وقرّاء الروايات، فما سر هذه الجاذبية؟

تكمن جاذبية النموذج الفرويدي في أنه يسبر أغوار الجزء القاتم من الإنسان، تلك الرغبات الممنوعة المكبوتة في «اللاشعور»، وكيف أنها تُلاقي كبت الشخص لها بمكر، فتختبئ وتتخفّى وتُجاهِد للخروج والظهور رغمًا عنه.

كما أن فرويد تناول الأحلام، وما تنطوي عليه من رموز، وما تُعبِّر عنه من رغبات خفية تفسِّر وتبرز ذلك الجزء الخفي من الإنسان، وتكون مفتاحًا لفهم النموذج الكامن وراء تحريك مشاعره وسلوكه وتفسير أزماته.

وهناك أيضًا الجدل الدائر حول نموذجه الذي يُولِّي الجنس أهمية خاصة، ويجعله منطلق الإنسان، ومغزى وجوده، ومُحركه الأساسي، والذي يحدد سيره منذ الولادة وحتى الممات.

ولنبدأ رحلتنا بإجابة السؤال: ما علم النفس؟

علم النفس هو ذلك العلم المختص بدراسة وظائف غير فيسيولوجية يقوم بها الإنسان، كالشعور والإدراك، والانفعال والإرادة، والتفكير والتذكر، والفرح والغضب. وعلاقة بعضها ببعض، ثم علاقتها بجوانب أخرى من الإنسان، كالجوانب الفيسيولوجية مثلًا.

وقد ذهب فرويد إلى أن الطاقة الجنسية هي المحرك الغرائزي الأهم للإنسان منذ طفولته، فما الذي يقصده بالضبط؟

«الجنس» كما قصده فرويد

إن ما قصده فرويد بكلمة «جنس» قد أسُيء فهمه، وتلبّس بالمعنى المُختزل السائد في المجتمع، والمتمثل في تحصيل الشخص البالغ للمتعة عن طريق الممارسة الجنسية. في حين أن هذا هو مجرد شكل من أشكال الطاقة الجنسية تبعًا فرويد. والذي رأى أن الطاقة الجنسية تشمل كل فعل يفعله الإنسان- مدفوعًا بغريزته- لحفظ نوعه، وما يتطلبه ذلك من حفظ نفسه حتى يُتِم دوره في حفظ النوع، مدفوعًا بغرائزه. وإننا إذ نجد أن هذه الأفعال تسبقها الرغبة وتُصاحِبها المتعة، فإنهما تختلفان عن تلكما الرغبة والمتعة المصاحبتين للممارسة الجنسية المعروفة.

فها هو الطفل في أيامه الأولى في الحياة يحتاج الطعام كي يحفظ نفسه، فيبكي طالبًا ثدي أمه، ويحتاج للشعور بالأمان والمحبة، فيبكي طالبًا ضمة أمه، فإذا شرع في تناول طعامه استمتع والتذ به، وإذا ضمته استمتع بمشاعر الأمان والتذ بها.

فما رغبته في الجنس (حفظ نفسه عن طريق الطعام وتحصيل الأمان بضمة الأم) برغبة اليافع في ممارسة الجنس بالمعنى السائد، وما متعته بها بمتعة اليافع. وما يُبيِّن أيضًا نظرة فرويد للإنسان، رؤية مدرسة التحليل النفسي لما يُحرِّك الأنواع المختلفة، وتمييزها للإنسان عن غيره من الأنواع.

ماذا يحرك الأنواع؟

نجد أن ما يحرك عالم الحشرات هو حفظ النوع. لذلك حينما يُلقِّح الذكر أنثاه يتم قتله أو عزله، لأنه أدى دوره في حفظ النوع، وأصبح عالة على النوع.

في عالم الطيور والحيوانات أيضًا نجد أن الغريزة الأساسية هي حفظ النوع. ولكن الذكر له في حفظ النوع دور غير التلقيح، وهو الحماية والمساعدة في جلب الطعام للصغار. ولذلك فإنه لا يُعدَم أو يتم تجاهله، ولذلك أيضًا يتعاون أفراد الأسرة من أجل حماية وإطعام الصغار.

أمّا عالم الإنسان، فهو يتميز عن غيره من الأنواع بالذكاء والتذكر والتخيّل، الأمر الذي جعل له غريزة جديدة بجوار حفظ النوع، وهي غريزة حفظ الفرد ذاته. في عالم الحشرات يتم اعتبار الذكر بعد التلقيح عالة على النوع، وبالتالي فمن مصلحة النوع التخلص منه. الأمر يخلف في عالم الإنسان، فحفظ النوع ليس هو الغريزة الوحيدة، بل حفظ الفرد ذاته غريزة يتميز بها الإنسان. بل وتدفعه تلك الغريزة المتميزة أيضًا لتحقيق غايات معنوية وثقافية أعلى.

وتبعًا لذلك تكون الغريزة الجنسية (الهادفة لحفظ النوع) لدى الإنسان مقيّدة بغريزة حفظ الفرد ذاته، وبلوغه غايات معنوية أعلى. ومن هنا، فإنه عند حدوث تعارض بين الغرائز الجنسية وما يحفظ للإنسان ذاته وقيمه المعنوية، يقوم الإنسان بكبت مثل تلك الرغبات.

فمنْ يكبت هذه الرغبات، وأين يكبتها؟

النموذج الفرويدي: «الأنا» والـ«هي» بين الشعور واللاشعور

إن الصورة الأولية للعقل هي صورة رغبات وغرائز نابعة من الطاقة الجنسية، تسبح في كل مكان، وتسمى: الـ«هي» (بالألمانية: das Es، بالإنجليزية the it). وتصطدم الـ«هي» بالعالم الخارجي، فتنشأ «الأنا» (بالألمانية: das ich، بالإنجليزية: the I)، والتي تحتوي على الرقيب، الذي يقوم بكبت الرغبات والغرائز التي لا تتماشى مع العالم الخارجي.

وهكذا تختفي الـ«هي» بداخل اللاشعور، وتبقى «الأنا» فقط على اتصال بالعالم الخارجي. ويسكن الجزء الأكبر من «الأنا» في الشعور بينما يقبع جزء منها في اللاشعور وهو الرقيب، ووظيفته الأساسية هي كبت الغرائز غير المرغوب فيها في الـ«هي».

وهكذا فإن «الأنا» أو «الذات» تقوم بالتحكيم بين قيود العالم الخارجي وغرائز الـ«هي»، فإذا ما هي قامت بهذا الدور فإنها تتعرّض للمحاسبة مما يسمى «الأنا العليا» (بالألمانية: das Über-ich، بالإنجليزية: the super I)، ويمكن فهم «الأنا العليا» على أنها ضمير الإنسان القابع في لاشعوره.

«الأنا» والـ «هي» بين الشعور واللاشعور في النموذج الفرويدي
«الأنا» والـ «هي» بين الشعور واللاشعور في النموذج الفرويدي. (الصورة من تصميم كاتب المقال)

العصاب والذهان

وهكذا يمكن- تبعًا للنموذج الفرويدي- فهم العصاب أو الاضطراب النفسي على أنه فشل «الأنا» في تحقيق التوازن بين الـ«هي» برغباتها الغريزية، والمجتمع بأعرافه وقيوده، مع دراية «الأنا» بهذا الفشل وتيقظها له ومحاولة إصلاحه.

أمّا الجنون أو الذهان أو الاضطراب العقلي، فيكون هو الفشل في تحقيق هذا التوازن، مع عدم دراية «الأنا» بهذا الفشل، مما يُفقِد الإنسان القدرة على نقد تصرفاته والحكم عليها وإدراك شذوذه.

الحيل اللاشعورية

تلك الغرائز التي كبتها الرقيب في عمق اللاشعور، لا تقبع هكذا في استكانة وسلام، بل إنها تتخفّى في مكر، وتنتظر الفرصة للخروج في لحظات ضعف أو غفلة «الأنا»، وقد لا تخرج بشكل واضح ودقيق، بل في شكل رمزي ومُبهَم يحتاج لجهد من التأويل والاستنباط حتى يُفْهَم. فقد تظهر تلك الرغبات المكبوتة في زلات اللسان وفي الأحلام، وهناك أيضًا ما يسمى الحيل اللاشعورية، نذكر منها:

  1. الإبدال: مثلًا أن ينهرك رئيسك، فتنكبت لديك رغبتك في أن تنهره، وتُخرِج تلك الرغبة في أقرب فرصة عن طريق أن تنهر ابنك.
  2. رد الفعل: لو تعامل «رد الفعل» مثلًا مع نزعة «حب الطفل للظهور» إذا تم كبتها في اللاشعور، فإنه يجعل الطفل انطوائيًا وخجولًا. فرد الفعل يعمل ليشفي غليل الطاقة الكابتة، عكس اتجاه النزعة الغريزية المكبوتة.
  3. التكثيف: في هذه الحالة يعبر سلوك الشخص عن النزعتَين، الكابتة والمكبوتة، في وقت واحد. ذكر الكاتب مثالًا يتلخّص في طفل ذهب لسوق الفاكهة، فوقَف أمام صندوق للتفاح ومدّ يده نحو التفاح، ولكن قبل أن يَلمسه سحب يده مرة أخرى. ولكن الأمر لم يقف عند هذا، بل استمرَّت حركة يده جيئة وذهابًا كرقّاص الساعة، واستمر يُكرِّر ذلك إلى أن شُغِل عنها بأمر آخر، وكان يُكررها حتى بعد انصراف نظره وذهنه عن التفاح. والمثال واضح؛ فالحركة الأولى تعبِّر عن النزعة البدائية للحصول على ما يريده بغير النظر للظروف، والحركة المضادة تُمثِّل النزعة المضادة نحو المحافظة على ما اصطلحت عليه البيئة من حق الملكية وحُسن السلوك.
  4. الإعلاء: وهو نوع من الإبدال يخرج فيه المكبوت على شكل يستحسنه المجتمع، كالأدب أو الموسيقى.

وقد ذهب فرويد لأن كبت المشاعر في مرحلة الطفولة المبكرة له أهمية خاصة.

مرحلة الطفولة الأولى

أعلى فرويد من أهمية وخطورة مرحلة الطفولة الأولى في تكوين نفسية الشخص، فسبب أي اضطراب نفسي عادةً ما يرجع إلى كبت حدث في مرحلة الطفولة الأولى. ولذلك فإنه تبعًا لفرويد، تكوّن هذه المرحلة شديدة الحساسية. لو مضت في سلام، كان بناء نفس الشخص سليمًا وخالٍ من التشوهات.

أمّا لو حدث الكبت في هذه المرحلة، فقد تظهر الأمراض النفسية والعقلية بعد ذلك، فما الأسلوب الذي اتبعه فرويد للعلاج؟

التداعي الحر

اعتمد فرويد على طريقة التداعي الحر في العلاج، لتحرير أفكار المريض ومساعدته أن يتذكر غرائزه المكبوتة والمختفية في لاشعوره. وقد طوّر فرويد هذا الأسلوب كبديل للتنويم المغناطيسي الذي كان سائدًا في العلاج النفسي.

ورغم ظهور العديد من مدارس العلاج النفسي التي فاقت بعضها مدرسة التحليل النفسي لفرويد، من حيث فعالية العلاج وتفسيرية النمذجة، فقد حافظ النموذج الفرويدي القابع وراء مدرسة التحليل النفسي على وضعه المميز وأهميته التفسيرية والفكرية، منذ ظهوره وحتى يومنا هذا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.