يمكن الإشارة إلى «الانتقال الديمقراطي» كمرحلة تمر بها الدولة، من النظام الديكتاتوري القديم إلى النظام الديمقراطي الجديد. وتشمل هذه المرحلة إعادة صياغة جميع مؤسسات الدولة، ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات العملية والسياسية والتعليمية والثقافية. فضلاً عن إعادة هيكلة لسلطات الدولة وصياغة دستور جديد، وتشريع قوانين جديدة تخدم هذه المرحلة، للوصول إلى التجسيد الديمقراطي المطلوب.

شهدت الدول العربية موجة من التحول الديمقراطي تحت مسمى «الربيع العربي» عام 2011، تلتها فترات الانتقال الديمقراطي. انطلقت الشرارة الأولى لهذه التحولات في تونس، ثم لحقت بها معظم الدول العربية الأخرى. وقد قامت هذه الثورات نتيجة لنظم استبدادية قائمة. وبالرغم من الأزمات التي مرت بها كل دولة منهم إلا أن بعضهم نجح في تعدي هذه المرحلة، والوصول إلى النظام الديمقراطي الجديد، والبعض تأخر، والبعض الآخر فشل، وأدى فشله إلى تمدير نسيجه الاجتماعي والوطني والقومي.

وهنا تجدر الإشارة إلى التفرقة بين التحول الديمقراطي والانتقال الديمقراطي، فالتحول الديمقراطي هو عملية تراكمية تهدف في النهاية إلى الانتقال من نظام استبدادي الى نظام ديمقراطي شامل. أما الانتقال الديمقراطي فهو الفترة التي تكون بين الخروج من هذا النظام الديكتاتوري لمحاولة الوصول إلى النظام الديمقراطي السليم.

إن الفترة التي تمر بها الدولة في مرحلة الانتقال الديمقراطي، يمكن أن تتميز بالاضطرابات السياسية وربما تصل إلى مساومات بين النخب السياسية على مستقبل الدولة، أو محاربة رموز الدولة القديمة والذين يحاولون بدورهم أن يبتعدوا عن منصة المحاكمات، أو أن يكون لهم نصيب في النظام الجديد. وقد تصل الاضطرابات إلى حد الحروب الأهلية وانقسام المجتمع وتفكيك النسيج الاجتماعي.

دول غير المؤهلة للتحول الديمقراطي

ليست كل الدول مؤهلة للنجاح في الانتقال الديمقراطي، أو إسقاط نظم وإقامة نظم أخرى، فإن لم تكن الدولة مؤهلة لذلك، سوف يؤدي هذا التحول إلى كارثة تطيح بجل المقومات السياسية للدولة وتدميرها وقد يصل الأمر إلى التدخل الصريح في شئونها واحتلال أراضيها. فالأمر أشبه بالتعامل مع قنبلة موقوتة، فإن لم تكون مؤهلاً لتفكيكها سوف تطيح بك بالضرورة.

ويمكن القول إن المعايير التي تتميز بها الدول غير المؤهلة للانتقال الديمقراطي تتمثل في:

1. غياب الوعي السياسي والثقافي لدى الأفراد:

لا شك أن تمتع الأفراد داخل الدولة بالوعي السياسي والثقافة السياسية القانونية اللازمة، يؤهلهم إلى الالتفاف حول كلمة سواء يجتمعون عليها لتخطي هذه المرحلة. حتى وإن كان هناك نخب تحاول افتعال الإضرابات والانقسامات؛ سوف تفشل بالضرورة، لأن هناك وعيًا كافيًا من الأفراد تجاه هذه المرحلة، فالوعي يُسقِط المؤامرات لأنها تعتمد على الكذب وتدليس الحقائق.

2. وجود نزعات قبلية أو طائفية أو عرقية:

الحقيقة أن أكبر خطر يُهدد الدولة في فترة الانتقال الديمقراطي ويؤدي إلى فشلها وتدميرها هو التعددية القبلية والعرقية. ذلك لأنهم ليس لديهم ولاء قومي للدولة يجتمعون حوله لصياغة مستقبلهم. فتكون هذه هي الأرض الخصبة لتنامي الاضطرابات والانشقاقات المجتمعية والحروب الأهلية. فالعرقيات تجمعهم ثقافات مختلفة وولاءات مختلفة، وعقائد ومذاهب مختلفة، وحتى إذا وُجد الولاء القومي فسيكون في المرتبة الثانية بعد الولاء القبلي أو العرقي لكل طائفة داخل الدولة.

3. وجود جيوش طائفية موازية:

وهذا المعيار مترتب على المعيار الثاني، والمقصود هنا بالجيوش الطائفية الموازية هي الميليشيات المسلحة غير النظامية التي قد يحصل عليها حزب أو ائتلاف ثوري وما إلى ذلك. وقد تكون أيضًا عبارة عن قوات الحرس الوطني الخاصة برئيس الدولة والتي لا تنتمي إلى ولاء قومي واحد.

والحقيقة أن وجود هذا النوع من الجيوش داخل الدول متعددة الطوائف والثقافات يزيد من حدة الانقسامات المجتمعية في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وقد تصل إلى معاداة صريحة للجيش النظامي الأساسي للدولة. فتنشأ الحروب الأهلية داخل الدولة، ويتمزق النسيج المجتمعي وتنقسم أراضي الدولة، وربما يطالب إقليم من أقاليم الدولة بالاستقلال أو حتى إقامة حكم ذاتي.

وعليه، يمكن القول إن هناك شرطين أساسيين لاندلاع الحروب الأهلية داخل الدول وهي:

  • وجود التعددية القبلية والطائفية والمذهبية داخل الدولة، وطغيان الولاء القبلي على الولاء القومي للفرد، الأمر الذي يؤدي إلى رفع السلاح في وجه الدولة، إذ إن الفرد هنا يكون ولاؤه لقائد القبيلة وليس لحاكم الدولة.
  • وجود جيوش موازية بمذاهب عقائدية في مقابل ضعف الجيش النظامي للدولة، وتحمل هذه الجيوش أو الميليشيات ولاءً لعقيدتها ولانتمائها العرقي أو المذهبي فوق ولائها للدولة، الأمر الذي يُسهِّل عملية دخولها في مواجهات وحروب مباشرة مع الجيش النظامي، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تفكك في النسيج الوطني وتصبح الحرب الأهلية أمرًا لا مفر منه.

تكييف الانتقال الديمقراطي

الحقيقة أن هناك ثلاثة سيناريوهات للدولة التي تدخل في فترة الانتقال الديمقراطي:

  • السيناريو الأول: وهو نجاح الدولة في انتقالها إلى الديمقراطية، وما يترتب عليه من إقامة نظام ديمقراطي جديد، واحترام حقوق الشعب وحرياته وإشراكه في عمليات صنع القرار السياسي، فضلاً عن إقامة تداول سلمي سليم للسلطة.
  • السيناريو الثاني: وهو فشل الدولة في الانتقال الديمقراطي، وهذا يؤدي إلى تداعيات خطيرة تصل إلى الحروب الأهلية، والتدخلات الأجنبية في الشئون الداخلية، بل وقد تصل إلى الاحتلال الصريح لبعض أقاليم الدولة، فضلاً عن تدمير البنى التحتية ومؤسسات الدولة ونزوح ملايين اللاجئين، وتدمير النسيج الاجتماعي.
  • السيناريو الثالث: وهو العودة إلى الصفر، وهنا لا يمكن أن نقول عليه فشل الانتقال الديمقراطي، لأن الانتقال الديمقراطي إذا فشل سيتبعه تداعيات خطيرة كما ذكرنا. ولكن يمكن القول إنه تم استبدال نظام ديكتاتوري بنظام ديكتاتوري آخر، وغالبًا ما يتم ذلك بانقلابات عسكرية. وسوف نتطرق لهذا السيناريو بالتفصيل فيما يلي.

يعود الفضل في عودة الدولة إلى النظام الديكتاتوري مجددًا إلى زيادة نفوذ الدولة العميقة داخل مؤسساتها القومية، فضلاً عن أن الثقافة السياسية للأفراد تلعب دورًا مهمًا في مساعدة رموز الدولة العميقة في مسعاهم، أو الوقوف أمامهم ومنعهم. والحقيقة أن الدولة العميقة في مثل هذه الحالات تكون أكثر قوة من مؤسسات الدولة الفعلية، فضلاً عن سيطرتها على المؤسسات الإعلامية والصحفية، التي تروج أفكارها، وتحاول من خلالها تغيير الآراء والقناعات لدى الأفراد داخل الدولة، وهذا ما يسمى بالهيمنة الأيديولوجية.

صناعة الوهم: العودة إلى النظام الديكتاتوري

ويمكن القول إن هذا النظام يسلك في مواجهة أزمات التنمية السياسية ثلاثة مسالك رئيسية:

عند تأسيس نظام ديكتاتوري آخر بعد انتهاء فترة الانتقال الديمقراطي، فإن أول ما يُروَّج له على الصعيد الداخلي والخارجي، أنه نظام ديمقراطي، فيأخذ شكلاً ديمقراطيًا من الخارج فقط. كإقامة انتخابات نيابية ورئاسية صورية، تكون نتائجها معروفة مسبقًا، وإطلاق يد الصحف والبرامج التلفزيونية المختلفة، لتكون الصوت الموحد المنتظم للنظام القائم.

1. المسلك التقليدي التكيفي:

يقوم النظام هنا بزيادة نفوذ وصلاحيات مؤسساته الموالية له: كالجيش والبيروقراطية، على حساب باقي المؤسسات. فنجد تناميًا صارخًا لصلاحيات الجيش على حساب المؤسسات الأخرى، وتناميًا صريحًا لبيروقراطية العمل والتعامل الوظيفي بين قطاعات الدولة. فضلاً عن القضاء نهائيًا على منظمات المجتمع المدني وغياب دور الأحزاب وتقليصها، وتحجيم الكبرى منها.

2. المسلك التحديثي الإصلاحي:

يقوم النظام هنا بإقامة المشاريع القومية الكبرى، وإقامة عدد كبير من المشاريع التنموية والاقتصادية، والتي لا تمس الطبقة الفقيرة. وهو ما يؤدي إلى ما يُعرف بـ التنمية الخاطئة بسبب اختلال أولويات النظام، فهو من جهة يريد أن يبرهن ويثبت أنه عاكف ليلاً نهارًا على تنمية الدولة، ومن جهة أخرى يحاول أن يهيمن على التنمية بمؤسساته الموالية له، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات الفقر.

3. المسلك الثوري التعبوي:

هنا يقوم النظام بالترويج، داخليًا وخارجيًا، بأن هناك عدوًا يترصد بأمن الدولة ويريد تدميرها، ويحاول من خلال هذا البرهنة على أن فشله أو سقوطه سوف يهدد الدولة وأمنها، ويحشد بناءً على ذلك موالاة وتعاطف الأفراد والمؤسسات داخليًا، والدول والحكومات خارجيًا.

فشل موجة التحول الديمقراطي في الوصول للأنظمة الملكية العربية

إن موجة التحول الديمقراطي التي لحقت بالدول العربية في عام 2011 لم تجد طريقًا إلى الأنظمة الملكية في دول الخليج العربي، فهذه الموجة أصابت فقط الأنظمة الجمهورية دون غيرها. ولعل بقاء الأنظمة الملكية العربية، رغم أنها لم تكن في مأمن، يرجع إلى ثلاثة عوامل رئيسية هي:

1. تعاظم الثروات والموارد النفطية:

فقد منحت الأنظمة الملكية العربية مستوى رفاهية كبيرًا لشعوبها، بسبب تعاظم ثرواتها. فلا يجد الفرد سببًا للثورة. فضلاً عن تراجع الثقافة والمشاركة السياسية لدى المواطن الخليجي.

2. التعلم من تجارب الأنظمة الملكية الأخرى:

لا شك أن النظم الملكية العربية القائمة الآن، قد أخذت تتعلم من النظم الملكية التي كانت بجوارها وسقطت، مثل المملكة المصرية وغيرها، فنجد أن هناك إستراتيجية جديدة تتعامل بها هذه الأنظمة للحفاظ على مكانتها، وعلى رأسها تحجيم الجيوش تفاديًا للانقلابات العسكرية، وقد نجحت في هذا.

3. التوافق داخل العائلة الملكية:

لا شك أن جانبًا كبيرًا من سقوط الأنظمة الملكية يرجع إلى حروب تنافسية داخل العائلات الملكية ذاتها، وهذا ليس موجودًا في الأنظمة العربية بالتحديد، فالملك في النظم العربية يجب أن يحظى بموافقة جميع أفراد العائلة أولاً، حتى يُبايعوه ملكًا. كما أن دول الخليج هي أنظمة سياسية إسلامية، إذ لا يجوز الخروج على الحاكم أو حتى الثورة عليه أو معارضته وما إلى ذلك، وهذا محفور في قلب الثقافة الاجتماعية العربية لهذه الأنظمة.

أزمة المشاركة السياسية بعد الانتقال الديمقراطي

تمر الدول بإعادة صياغة وتشكيل سياستها بشكل عام بعد الخروج من فترة الانتقال الديمقراطي، فالمجتمعات التي تعود إلى الأنظمة الديكتاتورية مرة أخرى تعاني تراجعًا في المشاركة السياسية، بل وتصل إلى حد التقاعس عن الانتخاب على سبيل المثال، وذلك لأنهم يعلمون أن مشاركتهم إنما هي أمر صوري فقط ولن يؤثر في مجرى الأحداث، فالنتيجة معلومة ومُحددة سلفًا.

والحقيقة أن هذا التراجع الكبير في المشاركة السياسية، سمح للأنظمة الديكتاتورية بالتعمق أكثر في الاستبداد والتفرد المطلق بالحكم. فلا سبيل للمعارضة أو حتى للرأي الآخر.

إن هذا الخمول السياسي يستحق الكثير من التأمل، فالأفراد الذين ثاروا على نظام استبدادي هم أنفسهم من يقبلون ويعيشون تحت نظام استبدادي آخر من صنع أيديهم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.