حالة من الهوس تجتاح المدينة، عالمي جديد أكثر عالمية من سابقه، يقود ناديه إلى نهائي دوري أبطال أوروبا ويقود منتخب بلاده إلى نهائيات كأس العالم بعد حرمان طويل. اللاعب المصري العالمي محمد صلاح يتصدر المشهد كما لم يتصدره أحد من قبل. ونحن المصريين لم نعتد على ذلك، فلا تتوقع منا رد فعل متزن لأننا بالأساس نعشق التطرف ونكره اللون الرمادي؛ لذلك سيشجعه الجميع رغمًا عنهم، بل سنحاول جميعًا أن نصير مثله.


من الأسود إلى الأكثر سوادًا

يأخذ الشاب موعدًا لمقابلة والد الآنسة المختارة، فيسأله الوالد السؤال المعتاد عن وظيفته؛ ليخبره الشاب بأنه لاعب كرة قدم. يستعجب الوالد لأنه لا توجد وظيفة بهذا المسمى، ليسأله مرة أخرى: «هل يمتلك مرتبًا ثابتًا؟ أملاكًا؟» هكذا كان الأمر، وهكذا كان ينظر المجتمع إلى اللعبة، مجرد مضيعة للوقت وعلى الجميع أن يركز في دراسته.

اليوم وبعد بزوغ نجم محمد صلاح ووصوله إلى ما وصل إليه، أصبح الكل يلهث وراء اللعبة. من النقيض إلى النقيض تمامًا لأننا لا نعرف الوسطية.يحكي محمد صلاح في أحد اللقاءات أن بلدة نجريك التي نشأ فيها أصابها ذلك الهوس، والجميع صار يلعب كرة القدم ساعيًا إلى حلم صلاح.

الأمر لا يتوقف على هذه القرية الصغيرة فقط، فأكاديميات كرة القدم اجتاحت البلاد. النادي الواحد يضم أكثر من أكاديمية، وجميعهم يضع صورة صلاح ويدعونك إلى الانضمام ليجعلوك مثله. مجرد شعار تسويقي يحاول استغلال الحالة التي وصل إليها المجتمع، لكن السؤال هو كيف ولماذا انتقلنا من الأسود إلى الأكثر سوادًا؟


العبثية تحكم

لا يخفى على أحد ما وصل إليه المجتمع المصري جراء ذلك السوس الذي ضرب فكره وأخلاقياته. حملة للاستخفاف بالتعليم تتبعها حملة أخرى لتسفيه البحث العلمي، وتحويله إلى مادة للسخرية على يد بعض الأطفال غريبي الأطوار. وبعيدًا عن وجود شبهة التعمد في ذلك من عدمها، فإن الأمر أصبح ملحوظًا والكل قرر البحث عن البديل.

بعد أن كانت الطرق تنقسم بين كليات القمة وكليات القاع، أصبح الكل في القاع، والقمة أصبحت حكرًا على الكليات العسكرية دون غيرها. ثم أتت من بعيد كرة القدم لتتقدم بضع خطوات للأمام؛ لتتحول من موضع سخرية إلى وسيلة تكفل لك مكانة أكثر رقيًا في المجتمع أسوة بصلاح أو بأقرانه ممن كانوا أقل شأنًا لكنهم يحتلون شاشات التليفزيون اليوم.

الأخطر من ذلك التحول الخطير في فكر المجتمع هو تلك الحقيقة المحزنة التي تتجاهلها الغالبية، والتي تتمثل في سعيهم وراء السراب، فدفع الصغار نحو اللعب في سن مبكرة لا يعني بالضرورة أن يصبحوا نجومًا في المستقبل.


ماذا تعرف عن التخصص المبكر؟

بالطبع أنت تعتقد أن الطفل الصغير عندما يتخصص في رياضة ما منذ نعومة أظافره، فإنه سينال الفرصة مبكرًا لاكتساب المزيد من المهارات، والتي ستؤهله فيما بعد للمنافسة بقوة عندما يحين الوقت.الكاتب والصحفي «دافيد إبستين» في كتابه «The Sports Gene» لديه وجهة نظر مغايرة تمامًا قد تفاجئك.

اكتشف دافيد إبستين أن معظم الرياضيين المتميزين حتى سن الثانية عشر كانوا قد قضوا وقتًا أقل في ممارسة الرياضة التي تفوقوا فيها مستقبلًا. توجه دافيد لسؤال عدد من الباحثين لمزيد من التوضيح. يُفضَل أن يمارس الرياضي أكثر من رياضة في سن صغيرة، حتى يتسنى له في تلك الفترة أن يكتسب العديد من المهارات البدنية والذهنية، إضافةً إلى منحه الوقت الكافي ليكتشف الرياضة التي تناسب إمكانياته. يطلق الباحثون على تلك الفترة مسمى فترة التجارب «Sampling Period».

دلل دافيد إبستين على كلامه بلاعب كرة السلة الكندي المعتزل «ستيف ناش» والذي انضم مؤخرًا إلى قاعة مشاهير دوري كرة السلة الأميركي للمحترفين. ناش كان قد تحصل على جائزة أفضل لاعب في الموسم عامي 2005، 2006 مع فريق «فينكس صنز». التعرف على «ناش» سيكون أسهل لو شاهدت مقطع الفيديو التالي لتتعرف على حجم موهبته.

ما رأيته سيوحي لك بأنك أمام لاعب مولود وفي يده كرة سلة، لكن الحقيقة أن «ستيف ناش» لم يمارس كرة السلة إلا في الثالثة عشر من عمره، وما قبل ذلك كان يمارس كرة القدم والبيسبول،وتحديدًا كان مغرمًا بكرة القدم، لكن رغبته بالانضمام إلى أصدقائه ولعب كرة السلة معهم بجانب رؤية النجم الأسطوري مايكل جوردان حسما رغبته ليصبح لاعب كرة سلة.


نظام نقل المواهب

لعل «ستيف ناش» قد استجاب لندائه الحقيقي، ليجد نفسه يمارس الرياضة التي تتماشى مع موهبته. لكن في أستراليا ظهر ما يشبه ذلك لكن بشكل علمي أكثر وضوحًا. حيث قرر معهد الرياضة بأستراليا أن يمنح بعض الرياضيين فترة الـ «Sampling Period» لتجربة رياضات أخرى، في إطار برنامج أطلقته الدولة للتنقيب عن المواهب. في عام 1994، كانت «أليسا كامبلين» تمارس الألعاب البدنية كسباقات المضمار والميدان، وسباقات القوارب الشراعية.

وكتجربة ضمن تجارب نظام نقل المواهب تحولت «أليسا» إلى التزحلق على الجليد بناءً على نصيحة العلماء المختصين في هذا البرنامج. في أول مرة كسرت أحد ضلوعها، وفي الثانية اصطدمت بشجرة. ظن الجميع أن الأمر مجرد مزحة لن تستمر.

أليسا للقناة التاسعة الأسترالية.

لكن بحلول عام 1997، كانت «أليسا» تنافس في منافسات بطولة العالم، ثم الأولمبياد الشتوية في عام 2002 بمدينة سالت لايك سيتي الأمريكية حيث حصدت الميدالية الذهبية. كان نجاحًا مذهلاً لهذا البرنامج، وقد ذكره «دافيد إبستين» في كتابه أيضًا. خلُص دافيد إلى استناج مهم يقضي بأن نجاح الدول على المستوى الرياضي لا يتوقف فقط على امتلاكها للمواهب، بل يتوقف أيضًا على وضع تلك المواهب في مكانها الصحيح.


معًا نحو السراب

لقد أخبروني أنني تأخرت كثيرًا حتى أصبحت كبيرة على التعلم.

نستنتج مما سبق أن ما يحدث في مصر هو قمة العبثية. لكن يبدو أن أحدهم ما زال يريد لحالة الهوس تلك أن تنتشر؛ فيفاجئنا أحمد حسام ميدو في أحد البرامج التليفزيونية بإعلانه عن مشروع الألف محترف بتوجيه من الرئيس المصري. ثم يوضح ميدو أن المشروع سيكون تحت إشراف وزارة الشباب والرياضة، ويهدف إلى اكتشاف عدد يصل إلى 400 محترف على شاكلة محمد صلاح، والنني، وأحمد حجازي، ورمضان صبحي، نعم ذكر اسم رمضان صبحي!

الأمر ليس بسيطًا كما يبدو. إعلان الدولة التوجه بشكل رسمي نحو الاهتمام بمواهب كرة القدم دون غيرها من الألعاب سيضيف مزيدًا من عدم الاتران إلى الرياضة المصرية. الكل يعلم ذلك، لكنه لم يكن بشكل رسمي. الدولة تريد المزيد من لاعبي كرة القدم المشاهير حتى لو مثل رمضان صبحي. لا نريد مثل كرم جابر، أفضل رياضي في تاريخ مصر بحصوله على ميداليتين أولمبيتين، ولا مثل أبطال العالم في الإسكواش، والتي قامت هيئة الإذاعة البريطانية «BBC» بعمل تقرير يتساءل عن سبب اكتساح المصريين لهذه اللعبة، وكأن كرة القدم في حاجة إلى مزيد من التلميع، وهذه الألعاب ينقصها مزيد من الإهمال.

الأمر لن يتوقف عند هذا الحد، فاتجاه الدولة إلى مشروع لتأهيل المواهب يعني بالضرورة أن المنظومة الحالية لا تكفي. اعتراف غير مباشر بعدم كفاءة قطاعات الناشئين، والأكاديميات في جميع الأندية، وهذا يبدو أقرب إلى الحقيقة لكن هل الحل هو إنشاء منظومة موازية أم إصلاح المنظومة الحالية التي تخضع لإشراف اتحاد كرة القدم بالأساس؟ الأمر مربك تمامًا، والخوف كل الخوف من أن يكون الأمر يتعلق برغبة الدولة في التوجه إلى البيزنس الرياضي أسوة بباقي المجالات.

سيظل الأمر غامضًا حتى يأتينا المستقبل بمزيد من الإجابات حول هذ المشروع، لكننا نأمل ألا ينجرف الجميع وراء السراب. مزيد من الوعي يكفيك لتمييز الأسود من الأكثر سوادًا، وقليل من الهدوء يكفيك لتجنب اختيار هذا أو ذاك.

احتراف رياضة بعينها ليس إجباريًا، ومحمد صلاح ليس القاعدة. عليك اختيار طريقك حيث يلتقي شغفك بموهبتك، ولا تجعل ذلك الهوس يقودك. وإلى أن يشاء الله ويقتحم العلم الرياضة المصرية، عليك أن تعلم أن مشروع الألف صلاح قد لا يناسبك.