يُثار نوع من الجدل حول الحضارة الفارسية عند الحديث عنها بالمطلق أو عند البحث في علاقتها المضطربة والطويلة باليونان أو حتى عندما يتعلق الأمر بالفترة التي احتلت فيها الدولة الأخمينية مصر. لكن هل كان الفرس بتلك الصورة الدموية التي روجت لها المصادر اليونانية حقاً؟

عديد من الحقائق في الواقع تشير لفجوة ما بين علماء المصريات والكلاسيكيات اليونانية من جهة، والتاريخ الفارسي الممتد طويلاً من جهة أخرى، ربما ترجع في المقام الأول للمبالغات اليونانية في توصيف (بشاعة) الفرس.

جنود فرس على بوابة عشتار، من متحف بيرغامون بألمانيا

في الواقع من بين الأدلة على التحيز اليوناني المتعمد ضد الفرس الاكتشاف المعروف باسم (لوحة المرزبان)، التي أعيد استخدامها في مسجد بالقاهرة. تم اكتشاف هذا الحجر ونشره علمياً في عام 1871م، ويشير النص الهيروغليفي المكتوب على هذا الحجر إلى تجديد التبرع بالأرض لمعبد (بي وديب) في مدينة بوتو، ويرجع تاريخ هذا النص إلى عام 311 قبل الميلاد، عندما كان بطلميوس الأول لا يزال يحكم مصر والياً عليها، وتشير الكتابات على تلك اللوحة إلى بطلميوس كبطل حرب، وأحد أسباب بطولته في تلك الحرب أنه أعاد التماثيل واللوحات المقدسة للآلهة المصرية من آسيا إلى جانب أدوات طقوس ولفائف مقدسة مأخوذة من معابد في مصر العليا والسفلى. واتفق معظم العلماء على أن تفسير هذا السياق يعني أن بطلميوس أعاد هذه الأغراض المقدسة من بلاد فارس عندما نهبها الفرس في وقت الغزو الثاني لأرتازيركسيس (أرتحششتا) عام 343 قبل الميلاد.

وقصة هذا النقش حسب ديودور الصقلي هو أنه عندما زار بطلميوس معبد «بي وديب» في بوتو، أخبره الكهنة أن الملك الفرعوني (خبابش)، أثناء تحضيره لثورة ضد الحاكم الآسيوي، منح المعبد قطعة من الأرض، ولكن تم إحباط هذه المنحة من قبل شخص يشار إليه بالعدو، (العدو = Ḫšryš) الذي يشير غالباً إلى Xerxes (باللغة العربية خشايارشا هو أحد أسماء Xerxes)، وبالتالي فإن وجود الاسم كان دليلاً على أن كان الفرس قد قلّصوا أرض المعبد ونهبوا ممتلكاته، في وقت كانت مصر مستهدفة بالفعل من الهجمات الفارسية القادمة من الشرق، فكان ذكر اسم زركسيس دليل دامغ في وجهة نظر ديودور الصقلي، وهكذا أصبح الفرس هم من استولوا على مقدسات المصريين، لكن المثير للدهشة والتأمل هو أن بطليموس لم يذهب أبعد من سوريا في حروبه في آسيا، لذا فإن قصة اللوحة بأكملها في الغالب لا تعدو أكثر من مجرد تلفيق بغرض الدعاية المزدوجة؛ تفخيم البطالمة والحط من شأن الفرس.

قد تكون فكرة الدعاية السياسية طريقة قديمة لإثبات شرعية الملوك ومدى سيطرتهم، ولعل أشهر مثال على الترويج السياسي هو هذا النقش الذي يروي انتصار رمسيس الثاني على الحيثيين، الذي لا يخلو من كثير من المبالغة، لأنه من المؤكد تاريخياً أن الحروب بين مصر والحيثيين انتهت بتوقيع أول معاهدة سلام مكتوبة في التاريخ؛ حيث لم يفز أي من الطرفين بالحرب، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ على أي أساس قامت حملات ترويج البطولة اليونانية؟

إلى جانب العداء التاريخي بين الإغريق والفرس نتيجة الغزو الفارسي لليونان وسوابقه التي تضمنت التدخل في شئون الدول اليونانية والتجسس على إداراتها، كان لدى الإغريق أيضاً نظرة متعالية واضحة لكل ما هو فارسي، ربما كان أصلها شعورهم بالتفوق الطبيعي على الفرس على الرغم من أسبقية الحضارة الفارسية وامتدادها الحضاري الأكثر رسوخاً في التاريخ مقارنة باليونان.

كان هذا واضحاً في كتاباتهم الأدبية، مثل مسرحية (الفرس) لأسخيلوس، التي صورتهم على أنهم مندفعون، وعاطفيون، بل وذهبت بتصويرهم على أنهم مخنثون، وخاضعون، وفاسدون، وأنهم كانوا نوعاً مختلفاً جداً من البشر مقارنة بالإغريق الأحرار والحكماء.

تتكرر نفس الثيمة أيضاً في عديد من الأعمال اليونانية الأخرى مثل Persica لكاتيسيس (Ctesias)، ونهاية كتاب Cyropaedia لأكسينوفون (Xenophon)، وأيضاً أطروحة أبقراط (الأهوية والمياه والأماكن) التي صورت الفرس بالترهل العقلي والجبن، وقد أرجع ذلك إلى المناخ والاستبداد الذي فُرض عليهم بالفعل من ملوكهم.

وإضافة إلى وجهة النظر (الاتهامات) التي حاول الإغريق إثباتها على الفرس، كانت هناك أيضاً صورة أخرى ذهنية حاول اليونانيين إسقاطها عليهم، فنجد أن هيرودوت قد ذكر صراحة أنه بعد وفاة كورش وداريوس دخلت الإمبراطورية الفارسية في حالة لا رجعة فيها، وكان هذا نتيجة لانحلال القيم والانحلال الفطري لدى الفرس، والعجيب أن هذه الفكرة صارت بالوقت جزءاً من تعريف الإغريق لأنفسهم في كل سياق؛ أنهم بشر طيبون يتمتعون بغريزة حسنة، على عكس الفرس، وهذه الفكرة توارثتها أجيال من الكتاب والمفكرين وتم نقلها دون وعي إلى الوعي الجمعي العالمي، لذلك تم تحديد الحضارة الفارسية على أنها دموية ووحشية وبربرية دون النظر إلى إنجازاتها على أي حال. [1]

ومن ناحية أخرى، انتشرت عبادة سيرابيس مع بزوغ شمس الحكم البطلمي في مصر كنوع من محاولة التقريب بين الإغريق والمقدونيين من جهة، والمصريين من جهة أخرى برباط الدين. تجدر الإشارة إلى أن سيرابيس قُدم للمصريين على شكل الثور/ العجل أبيس، بينما قُدم إلى الإغريق في شكل بشري مشابه جداً لشكل زيوس، والمُتأمل لتلك الحالة يستنتج أن الإغريق لم يحتقروا صراحة الآلهة المصرية التي تتخذ أشكالاً حيوانية، لكنهم عبّروا بذكاء عن رفضهم وامتعاضهم من هذا التجسيد الحيواني للآلهة عندما جعلوا سيرابيس الخاص بهم إنساناً، وليكون هذا موقف الدولة الرسمي من العبادات المصرية، في وقت كانت تهمة إهانة الديانة المصرية مرتبطة بالفرس، على الرغم من أن الأمر في الواقع لم يتعد بضع حالات من الازدراء الفردية من بعض الجنود ولم يكن موقفاً خالصاً من الملوك الفرس، بل إن هؤلاء الملوك تعاملوا مع حالات التعدي تلك بكثير من الاسترضاء للمصريين، فنجد أن داريوس بنى معبداً للإله آمون في واحة الخارجة، جنباً إلى جنب مع عديد من أعمال الترميم والإهداءات للمعابد المصرية، وهذا دليل على تسامح ملوك الفرس مع عبادات المصريين وطقوسهم.

في عام 1990 كشفت بعثة المتحف الوطني الأسكتلندي بسقارة عن حجر عثر عليه في أعمال التنقيب عند سور (قصر المدير) بسقارة. والرائي لهذا الحجر يجد أنه مقسم لجزأين: علوي وسفلي، يصور الجزء العلوي مشهداً جنائزياً لجدربس Djedherbes، ابن أرتام Artam وتانوفريثر Tanofrether. التأثيرات الفنية الفارسية مثل السرير الجنائزي الذي جاء على شكل أسد وأقدامه الأربعة وذيله تتجلى في هذا الجزء من اللوحة.

أمّا بالنسبة للجزء السفلي من اللوحة، فيصور شخصاً ملتحياً جالساً على ما يشبه العرش، عرشه ولباسه يعلنان كونه شخصية فارسية رفيعة المستوى، يرتدي رداءً فارسياً (كانديس)، وله لحية مجعدة، وجاء شعره بتصفيفة الشعر الفارسية الطويلة المجعدة، أمامه مائدتان جنائزيتان مصريتان وخلفهما رجلان مصريان.

في إشارة إلى النصوص الموجودة على الحجر، فإن اسم الأم (Tanofrether) مصري، واسم صاحب المقبرة مصري أيضاً، لكن اسم الأب (Artam) فارسي، وفي الوقت التي كانت فيه الألقاب الفارسية لا تُمنح لغير الفرس، تم توثيق أن بعض المسئولين الفرس اتخذوا لأنفسهم أسماءً مصرية في حين لم توثق حالات لنساء فارسيات يحملن أسماء مصرية.

وهكذا يمكن القول إن هذا الحجر دليل لا يمكن إنكاره على اختلاط المصريين بالفرس من خلال الزواج [2]، مما يُدحض كثيراً من ثوابت الكلاسيكيين؛ بأن المصريين والفرس كانوا في عداوة مستمرة.

لا يوجد احتلال رحيم، فكل غزو عبر التاريخ كان يأتي للبلاد بالفوضى والدم والعنف، والافتراض بأن هناك احتلالاً هادئاً وسلمياً ومزدهراً يبدو غريباً، بقدر ما هو غريب وصف أمة بأكملها على أنها دموية وعنيفة دون النظر لحضارتها القديمة والأدلة على وجودها التي بقيت تثبت أنها لم تكن بهذا السوء على الإطلاق.

ولعل لهذا التحيز جذور تاريخية، كلها مرتبطة بإثبات التفوق العرقي والثقافي لليونانيين على حساب الأمم الأخرى، مستغلين الآنفة الفارسية والميل الشهير للغطرسة والهيمنة والتجسس على جيرانها. كل هذه الصفات الحقيقية جعلت من مبالغات اليونانيين التاريخية فكرة قابلة للتصديق سرعان ما تحولت من مجرد نظرية إلى حقيقة تاريخية لا موضوعية فيها.

وفي الواقع، تبدو أن شيطنة اليونانيون للفرس، بجانب الحقد القديم المتبادل، كانت أيضاً بدافع تلوين الفترة الهلنستية وفتوحات الإسكندر وحكم خلفائه بالشاعرية ومنحها الصورة الإنسانية وصبغها بالشرعية، ولا شك أن الإغريق استفادوا من قدراتهم الخطابية إضافة إلى أناقتهم السياسية التي لم يمتلكها الفرس، الذين اعتقدوا  أنهم ليسوا بحاجة إلى البراعة السياسية لأن لغتهم في التعامل مع الآخرين كانت دوماً الاحتلال والسلطة، وهكذا؛ يثبت التاريخ أن القوة الناعمة؛ قوة الخطابة والتأثير والرواية، قد تتدخل فتشكل النظرة الذهنية لأمة بأكملها في الوعي الجمعي.

المراجع
  1. Edward Said, Orientalism, Vintage Books, 1944, pp: 56- 58.
  2. Ian Mathieson, Elizabeth Bettles, Sue Davies and H. S. Smith, A Stela of the Persian Period from Saqqara, The Journal of Egyptian Archaeology, 1995, Vol. 81 (1995), pp: 23, 28, 29, 34, 37, 38.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.