يُريد هذا المقال أن يلفت النَّظر إلى الدَّور الذي لعبه مفهوم «النُّبوة» في العهد القديم، وذلك في إعادة صياغة وعي الإنسان والانتقال به من التَّمركز حول الطَّبيعة إلى التَّمركز حول الإنسان.

بفضل هذا المفهوم تحوَّلت الأسطورة الطَّبيعية (التي تؤدِّي فيها الآلهة دور البطولة في الدِّيانات القديمة) إلى أسطورة تاريخية (يؤدِّي فيها الإنسان هذا الدَّور من خلال قصص الأنبياء). فالعهد القديم يتضمَّن ما يمكن أن نسمِّيه «علمنة دينيَّة» إزاء ديانات الشَّرق الأدنى القديم؛ وهي علمنة يُمارسها الدِّين بغرض التَّخفُّف من ثقل القداسة في الوجود، وتوسيع حريَّة الإنسان ومسئوليته الكونيَّة في المقابل.

هذه العلمنة تزيد من ارتباط السَّرد الدِّيني بالأزمنة التَّاريخية وتقلِّل من ارتباطه بالأزمنة الأزليَّة، حيث تُجرِّد عالم الألوهة من الأحداث، فيصير بلا تاريخ، وفي المقابل تجعل من البشر محورًا لهذه الأحداث، فتتبدَّل أدوار البطولة من الآلهة إلى البشر (الأنبياء)، ويُصبح للإرادة الإنسانية دورٌ في توجيهِ مسار التاريخ والتَّحرر من حتميَّة القدر الأعمى.

بطولة الآلهة

يبدأ المشهد الدِّرامي للكون في كثير من أساطير الشَّرق الأدنى القديمة بلحظة السُّكون والظَّلام المطلقين، فلا زمان ولا مكان ولا حتَّى آلهة، فقط تسودُ «المياه البدئيَّة» (بالإنجليزية: Primordial Water) كتجسيد للعالم ما قبل الإلهي؛ عالم العماء والفوضى الذي يُشبه البحر متلاطم الأمواج في اللَّيل الدَّامس. وإذا كانت «المياه البدئيَّة» (مثل؛ «تعامة» في أساطير الخلق البابليَّة، و«نون» في الأساطير المصريَّة القديمة) ترمز إلى العدم أو القوة التَّدميريَّة الموجودة في الأزل، فإنَّها ترمز كذلك إلى مبدأ الخلق الأوَّل (غير المُشخَّص) الذي صدرت عنه الآلهة والتي صدر عنها الكون والإنسان بدورهما في مراحل لاحقة. وبالتالي تجتمع متضادات (التَّدمير/الخلق) في المياه البدئيَّة كقوَّة طبيعيَّة لا عقلانيَّة وغير مُشخَّصة.

يميل مشهد الصَّدارة في أساطير الشَّرق القديم إلى إسباغ صفة «الكليَّة» على المياه بوصفها صورة فائقة للطَّبيعة لا على الآلهة بوصفها صورة فائقة للإنسان. ومع استحواذ الطَّبيعة على صفة «الكُليَّة»، لا يستطيع الإنسان الوقوف في مواجهتها مباشرة، بل يلجأ إلى التَّواري خلف صورته الفائقة والممثلة في «الآلهة»؛ حيث يتعرَّف إلى نفسه «مُمَزَّقًا» فيها كمخلوقات من الدَّرجة الثَّانية تحمل صفات «التَّفوُّق» لا «الكليَّة». فلا وجود لإله واحد كليِّ القدرة وكليِّ المعرفة، بل آلهة مُتعدِّدة لكلٍ منها اختصاصه؛ فثمَّة إله للعدل وإله للحَرب وآخر للخصوبة ورابع للجدب والجفاف وخامس للحبِّ والجنس… وهكذا. لذا؛ اقترنت رغبة الإنسان في إحكام السَّيطرة على شئونه بقدرتهِ على حشد أكبر قدر ممكن من الآلهة.

وفي ظلِّ تعدُّد الآلهة وغياب صفة «الكُليِّة» عنها، تغيب «الوحدة النَّفسيَّة» عن الإنسان، فيزداد ضعفًا وتشظيًا، ويتقدَّم ظِله ويتراجع وعيه، حيث تَخرج آلهته عن السَّيطرة، فتستولي صراعاتها على أعماقه، ويُمثِّل تعدُّد الآلهة في هذه الحالة انعكاسًا سرديًّا لصراعاته النَّفسيَّة، وتناقضاته اللاشعوريَّة، وإحساسه اللامتناهي بالضآلة أمام الطَّبيعة. وهنا تحدث المُفارقة؛ فكلما حشد الإنسان الآلهة لإحكام السَّيطرة على الطَّبيعة، زاد ذلك من تمزُّقهِ الوجودي وضعفه الأخلاقي.

لهذا السَّبب تكشف أساطير ما قبل العهد القديم عن انسحاب كبير للإنسان من ساحة السرَّد، فالآلهة وحدها في هذه الأساطير هي التي تؤدِّي «دور البطولة» على مسرح الأحداث، وبالتَّالي يقتصر مجال الفاعليَّة والحركة على الأزمنة الأزلية (خارج التاريخ)، ولا يمثل التاريخ كزمن واقعي إلا مرآة باهتة تعكس صورة الأزمنة الأسطورية.

إن البشر وفق هذه الأساطير ليسوا أكثر من «عَرَضٍ كوني»، فهم موجودين لا لإدارة شئون حياتهم، بل من أجل إدارة أعمال الآلهة؛ فالإنسان لم يُخلَق إلا لخدمتهم؛ يزرع أرضهم ويرعى قُطعانهم كما تقول الأساطير البابليَّة. هكذا تُعزز أساطير ما قبل العهد القديم (أو الأساطير الطَّبيعية) اتجاه الإنسان القديم خارج نفسه؛ فتصله بالطَّبيعة، فيما تقطع عليه الطَّريق نحو توحيد أعماقه.

بهذا المعنى يتراجع الإنسان وتتقدَّم الآلهة لتُمسك بخيوط العالم من أطرافه إلى أطرافه؛ من الخلق إلى التدمير، ومن الخير إلى الشر، ومن السلم إلى الحرب، ومن النور إلى الظلمة، ومن الحكمة إلى الجنون. وبالتالي يسيطر المقدَّس على كامل المساحة الأخلاقيَّة، فينغمر الوجود بأسره في القداسة.

ويُسمي فيلسوف الأديان بول تيليش Paul Tillich هذا النَّمط من رؤية العالم بـ«قداسة الوجود»؛ حيث يُظهِر المقدس طبيعةً شموليَّة يتَّحد فيها الإلهي مع الشَّيطاني. وتحت هذا النَّمط من القداسة يتراجع فهم الإنسان لنفسه ككائن ذي إرادة يبحث «عما ينبغي أن يكون»، حيث يسعى وراء «ما هو كائن» فحسب. [1]

ووفقَ هذه الرُّؤية، يوجد الشَّر مثلًا لأنَّه من طبيعة الأشياء، يَسري في جنبات الكون بحكم الآلهة ويقع بأقدارها، فهو باختصار «شر وجودي» وليس «شرًا أخلاقيًا»، يعدُّ الإنسان مسئولًا عن وقوعه. ويعني هذا تضخُّم فكرة القدر والمصير، في مقابل تَضَاؤُل فكرة الإرادة والاختيار. فالإنسان الواقع تحت سيطرة هذه الرُّؤية يكون مدفوعًا بغريزته، نصفه الحيواني، أو جانبه المظلم، تُملي عليه أعماقه طريق حياته، فيَضْمُرُ وعيهُ، وتَضْمَحِلُ إرادته. فـ«ما لا نَجلبِه إلى نورِ وعينا، يَظهر في حياتنا كَمصير» كما يقول كارل يونج.

النبوة في العهد القديم

لا يمكنك الوصول إلى «الأعلى» إلا كقاتل، إن أردت التغلُّب عليه، تريد آلهتُنا أن تُهزَم لأنها تحتاج إلى ولادة جديدة. [2]

وهذا بالضبط ما فعلته التَّوراة في مطلع سفر التكوين حين عَلْمَنَت «المياه البدئية»، وحوّلتها إلى مياه طبيعيَّة، واستبدلت سيادتها الافتتاحية للكون بسيادة إله العهد القديم.

يقول مطلع السفر:

في البدء خلق الله السماوات والأرض، وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. [3]

إن لفظة «الله» هُنا هي ترجمة لكلمة «إلوهيم» (بالعبريَّة: אֱלֹהִים)، التي أتت على صيغة الجمع، لتُعبِّر كما يرى بعض المفسرين عن اتحاد الآلهة في إله واحد. فإلوهيم هو جمع الآلهة، وهو الكلُّ المستولي على مشهد الأزل وفقًا لنص الآية، وليس الغمر (أي البحر) الذي هو ترجمة لكلمة «تهوم» (بالعبرية: תהום)؛ التي تشير بدورها إلى «تعامة» إلهة البحار أو المياه البدئيَّة (العنصر الأسطوري الأقدم) في الأساطير البابليَّة. فالتَّرجمة هنا بمثابة «علمنة للطَّبيعة» ونزعًا لقداستها، لأن المياه التي يَرِفُّ على وجهها روح الله لم تعد «تعامة»، وإنما صارت مجرد «مياه» طبيعيَّة (بالعبريَّة: הַמָּיִם) بعدما انتزعت منها القداسة.

يبدأ المشهد الأسطوري إذن بإعلان إله العهد القديم لنفسه قبل الجميع وفوقهم. وهو مشهد تُسيطر عليه (بعكس الأساطير السَّابقة) دراما الخلق لا التَّدمير، فلا عماء ولا فوضى يسبقان الآلهة، ولا كونًا يتمخَّض عن صراعها. وإنما يَخْلِق المُقدَّس باللوغوس (باليونانيَّة: λόγος) أي؛ بالكلمة بوصفها أمرًا إلهيًّا «وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ» [4]، ولا يُنازعه في الخلق مُنازعٌ.

واقتران مبدأ الخلق بـ«الكلام» يُقرِنُ المقدَّس بالإنسان بدلًا من اقترانه بالطَّبيعة، ليصير الخالق والمخلوق على صورة واحدة؛ حيث يتحقَّق المُقدَّس على صورة الإنسان الفائقة، فيما يتحقَّق الإنسان على صورة المُقدَّس الواقعيَّة. وهذا بالفعل ما يشير إليه سفر التكوين في هذه الآية: «خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ»، لتنتهي بذلك صورة المُقدَّس «الطَّبيعيَّة» وتُبعث صورة المُقدَّس «الإنسانيَّة». [5]

ولما كان الإنسان مُتناقضًا، تناقضت صورة مقدَّسه، فها هو إله العهد القديم يقول عن نفسهِ: «أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ، مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ. أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هذِهِ» [6]، ويقول أيضًا: «الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، الْفَقْرُ وَالْغِنَى مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ». [7]

ربما لمعترض أن يقول ألم يحمل المُقدَّس في صورته الطَّبيعية (المياه البدئيَّة) التناقُض ذاته مثل تناقض الخلق والتَّدمير؟ هنا يبدو الاعتراض وجيهًا، لأن اجتماع المتناقضات في مجال القداسة ليس بالفعل أمرًا جديدًا يحتكره مُقدَّس العهد القديم، لكن ما يعد جديدًا واستثنائيًا هو اجتماع هذه المتناقضات في أفق «إرادة واحدة». وهذا من شأنه أن يعيد هيكلة العمليَّة النفسيَّة لاستدعاء المقدَّس برُمَّتها، فالإنسان الذي يستدعي المقدَّس (في هذه الحال) لا يَستدعي «شطرًا» فائقًا من الوجود محرَّرًا من نقائضهِ (كما يُستدعى إله المطر من دون إله الجفاف في طقوس الاستمطار) وإنما يستدعي «كلًا متحدًا» كشخص يكترثُ للكمال الأخلاقي، يُقيِّد نفسه بنفسه؛ ويُرجِّح كفَّة إلى الرَّحمة على العذاب، ويُفضل الصَّفح على الانتقام، والهدى على الضلال.

يختار «يهوه» منذ البداية الخلق على حساب التَّدمير، وينحاز إلى النُّور على حساب الظُّلمة، ويميل للنِّظام (الشَّريعة) أكثر من ميله إلى الفوضى. وبالتَّالي يتماهى المقدَّس مع الخير والعدل والحق. وهذا يعني أن ثمَّة قتالاً نَشب ضدَّ العنصر التَّدميري (أو الشَّيطاني كما سُمي لاحقًا) في المقدَّس، وأن انشطارًا ذاتيًا قد تولَّد من أعماقه كشف عن ذلك الميل الأخلاقيِّ إلى «علمنة الشَّر»، أي رغبة ما هو إلهي في التَّخلُّص من «ظلِّه» من خلال قذفه إلى نطاق ما هو دنيوي. [8]

هنا يصير الشَّر مسئولية إنسانيَّة بعد أن كانت إلهيَّة، ويصير في استعانة الإنسان بالخير على الشَّر استعانةً بصورتهِ الفائقةِ على صورتهِ الواقعيةِ. فتتهيَّأ أعماقهُ لاستقبال «ما ينبغي أن يكون» على حساب «ما هو كائن»، ويستعدُّ للعب دور البطولة تحت إشراف الإله. وبالتالي يولد النَّموذج الجنيني للإله الأخلاقي الذي يشفُّ عن أعماق الإنسان، ويكترث لأفعاله أكثر من اكتراثه بالطَّبيعة.

لذلك يمكن القول إن الآلهة البابليَّة والكنعانيَّة قد تنحَّت عن مشهد البطولة لصالح إله العهد القديم، الذي أفسح المجال بدوره أمام الإنسان لأداء هذا الدَّور في نظام السَّرد التَّوراتي، من خلال ما يُعرف أساسًا بـ «تقليد النُّبوة» في العهد القديم.

فالإنسان هو بطل القصص التَّوراتي، و«الأنبياء» هم محور السَّرد لا الآلهة، لكن بطولة الإنسان هنا هي «بطولة بالوكالة»، يختارها الإله ويُشرف عليها ويضع قواعدها. ويمثل مفهوم «العهد» موضوع هذه البطولة، حيث يعهد بنو إسرائيل وأنبياؤهم إلى الإله بوحدانية العبادة، فيما يعهد بنفسه إليهم دون بقيَّة الأمم. هكذا تَحِلُّ الأسطورة التَّاريخيَّة مَحَلَ الأسطورة الطَّبيعيَّة، ويدفع العهد القديم بالوعي الإنساني خطوة أقرب نحو التَّاريخ، لكنَّه يبقي تاريخًا محليًا قبائليًا كان عليه أن ينتظر تأويله المسيحي والإسلامي ليصير تاريخًا عالميًا.

المراجع
  1. بول تيليش، فاعليات الإيمان، ترجمة: مجاهد عبد المنعم، القاهرة: مكتبة دار الكلمة، 2009، ص75–77.
  2. كارل يونغ، الكتاب الأحمر، ترجمة: متيم الضايع ورنا بشور، اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، ص171.
  3. سفر التكوين، 1: 1.
  4. سفر التكوين، 1: 3.
  5. سفر التكوين، 1: 27.
  6. سفر أشعياء، 45: 6-7.
  7. سفر يوشع بن سيراخ، 11: 14.
  8. بول تيليش، فاعليات الإيمان، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، القاهرة: مكتبة دار الكلمة، 2009، ص27.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.