اسمها أم محمد، ومن عندها تبدأ الحكاية، فبحسب الأستاذ محمود السعدني [1] عاشت هذه السيدة تحت رعاية والي مصر محمد علي تقرأ القرآن في حرملك قصره، وتمدح النبي، ويعجب الوالي بها ويرسلها إلى الأستانة لإحياء ليالي رمضان في حرملك السلطانة العثمانية، وتموت قبل هزيمته فيجهز لها مدفنًا يليق بها في الإمام الشافعي، وتُشيع جنازتها في احتفال.

وبوفاة هذه القارئة التي لا يتوفر لدينا الكثير من المعلومات عنها تنقطع أخبار قارئات القرآن من النساء والمداحات النبويات فترة زمنية طويلة، فلا يصلنا من أخبارهن شيء يذكر حتى العشرينيات والثلاثينيات من بداية القرن الماضي.

حين ظهر صوت الست سكينة حسن ترتل القرآن مسجلة بعض الأسطوانات، وصلنا منها تسجيلات لسورتي النجم، وطه، إضافة إلى تسجيلات أخرى لأغانيها العاطفية، بعد أن أتقنت أداء الأدوار الغنائية والطقاطيق، متنافسة ومطربا معروفا -حينها- يدعى محمد أنور على مبيعات سوق الأسطوانات.

ولا أعرف على وجه التحديد السبب الذي جعل أسطوانات سكينة حسن تعيش مدة أطول، فبرغم وجود ثلاث قارئات شهيرات عشن في الفترة نفسها أو بعدها بفاصل زمني قصير، وحققن شهرة أكبر من الست سكينة، هن كريمة العدلية، ومنيرة عبده، ونبوية النحاس، لكن المواد الصوتية المتوفرة للقارئات الثلاث من تلاوات قرآنية أو مدائح نبوية شحيحة للغاية، مع أن وفاة الأخيرة جاءت عام 1973، في زمن كان التوثيق فيه متاحًا.

وقد نشرت BBC تسجيلًا صوتيًا للشيخة منيرة سجل في ليلة الإسراء والمعراج، ويعد من أندر التسجيلات المتاحة والتي توثق لتلك الفترة.

وبحسب BBC فإن الشيخة هي أول امرأة تعتمد قارئة للقرآن في الإذاعة المصرية الرسمية، وطبقًا للمتاح لدينا تقاضت الشيخة منيرة خمسة جنيهات مقابل القراءة في الوقت الذي تقاضى فيه الشيخ محمد رفعت عشرة جنيهات، قبل أن تُجهز فتوى أصدرها بعض المشايخ الكبار – قبيل الحرب العالمية الثانية- بتحريم قراءة المرأة للقرآن في الإذاعة على آمال الشيخة الكفيفة، وعلى وجود القارئات والمداحات في وسائل الإعلام الرسمية بشكل تام.

وبإغلاق الإذاعة أبوابها أمام القارئات والمداحات أخذ المديح النسائي الشعبي يسيطر على مساحات أوسع في خريطة مِزاج الشارع المصري، وخرجت مجموعة من المداحات الشعبيات من رحم الموالد، وحلقات الذكر، وليالي الأفراح، وشكلن مدارس مختلفة تتميز بالتباين الشديد فيما بينها، ولمعت أسماء من بينها الحاجة هنيات شعبان ونفيسة الرجالاتي ورقية العطار، وأخيرًا نبيلة عطوة، والتي وصفها الأستاذ عمار الشريعي بآخر نسل المداحات الكبار.

أبرز المداحات في هذه المجموعة، الحاجة هنيات شعبان، قال عنها الموسيقار فريد الأطرش «إنها صوت صاف رائع لا شائنة فيه ولا نشاز صاحبته مطربة حقيقية تساوي عشرين مطربة قديمة مضروبة في ثلاثين مطربة حديثة يذكرك بصوت أم كلثوم في الأربعينيات‏،‏ ولو أحسن استغلال هذا الصوت لكانت هذه السيدة من أشهر المطربات في مصر [2]».

تميزت الحاجة هنيات بغناء القصص الملحمية من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو من القصص المؤلفة بحيث تحمل عظة وقيمًا أخلاقية، وهو النهج المشابه لحكايات الشعراء على الربابة قديمًا، الأمر الذي مثل علامة فارقة وطريقًا انتهجه أغلب المداحين الشعبيين رجالًا ونساءً.

ومن الضروري هنا الحديث عن اللوم الذي تتعرض له المداحات، وحالة الرفض المجتمعي لمثل هذه الوظيفة في كثير من المناطق والبلدان المصرية، وإن ظل للمداحات جمهورهن ومستمعيهن دومًا.

الأمر الذي كان له صدى في أعمال بعضهن، فأنشدت الشيخة نفيسة الرجالاتي «ومهما لاموا عليا ارتضيت اللوم».

وأنشدت الشيخة نبيلة عطوة «يا ناس لا تلوموني في حبه سيبوني»، فجاءت تلك المدائح كأنها رد على البعض ممن يحمل لهن رفضًا مسبقًا.

ولا يمكن الحديث عن الإنشاد الشعبي دون التعريج على لون مختلف تمامًا عن الألوان السابقة، مثلته الفنانة الشعبية خضرة محمد خضر، والتي جاء مديحها بلحن سريع، وكلمات أكثر شبهًا بالغزل، وأكثر قربًا من الوجدان الريفي، مع عوامل فنية منضبطة بشكل أكبر، وبصمة واضحة لزوجها الفنان الكبير زكريا الحجاوي، والذي كان مكتشفها في الأصل.

مدائح الست خضرة مشبعة بالبهجة، ومرتبطة بشكل أكبر بالفن الشعبي المصري في صورته الواسعة، وتمثل موهبة مصرية لا تخطئها عين.

والحق أن المديح النسائي كان غنيًا للغاية بالتجارب المختلفة والأصوات المميزة، وهو وإن لم يكن على مستوى مديح الرجال وابتهالاتهم من حيث القوة والانتشار، فإنه كان شديد التنوع والتعبير عن طبقات متفاوتة وأذواق متباينة، وأثبت تأثيرًا حين أتيحت له فرص التأثير.

ففي تجارب أكثر بعدًا عن النمط الشعبي أدت ياسمين الخيام وحازت على شهرة واسعة وقتها، وحين تسنى لسعاد محمد الغناء الديني أقامت أبرز معالم فيلم الشيماء على الإطلاق بأغنيات باقية في الأذهان حتى اللحظة.

وفي نظري تتعدى حكايات المداحات كونها مجموعة من الحكايات الفنية، وتتجاوز ذلك لترسم صورة مصغرة للمجتمع المصري، وتنوع طرقه في التعبير على طول الفترات الزمنية التي اشتهر فيها المدح النسائي، كما تؤرخ تلك الحكايات – إذا ما تم تحليلها بشكل أوسع – لوضع أكثر انفتاحًا واحترامًا للنساء اللاتي قدمن فقرات من المدح والغناء الطويل في حفلات أقمنها بالأساس في مناطق شعبية مزدحمة بحضور كثيف دون التعرض لأذى.

بل على العكس حصلن على تقدير واستحسان مكن سيدة مثل الست فاطمة سرحان من أن تصبح أحد أصغر النساء اللاتي يقام لهن سرادق للمدح في منطقة الحسين في عقدي الخمسينيات والستينيات، والمؤكد أن حكايات النساء لم تكشف بعد عن كامل وجهها، وأنها لا تزال في حاجة إلى جهد واسع لجمع القصص والتفاصيل واستقصاء المعلومات في مجتمعات عربية أرخت للرجال بأكثر كثيرًا مما اهتمت بقصص النساء وإسهاماتهن.


[1] ألحان السماء ص 60- كتاب اليوم عن دار أخبار اليوم [2] مجلة الشبكة – عدد 849 – مايو 1972 [3]الحفل الكامل[4] تسجيل صوتي مقتطع من إنشاد مشترك للشيخة نفيسة مع الشيخ شرف التمادي

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.