الإسلام دين ونظام حياة، والاقتصاد الإسلامي جزء من كل؛ يتفاعل ويتكامل مع بقية الأجزاء المكونة للإسلام، ويُحكَم بالضوابط الشرعية. والاعتبارات القِيَميَّة أو الأخلاقية هي الركيزة، والمحرك الأساسي لهذا الاقتصاد. ويطلق على الاقتصاد الإسلامي الاقتصاد الديني RELIGIOUS ECONOMICS، أو الاقتصاد الأخلاقي ETHICAL ECONOMICS، أو الاقتصاد الإنساني HUMANOMICS؛ حيث يرتكز في تحليله على الإنسان الأخلاقي بشكل واقعي.

وعنصر العمل هو العنصر الرئيس بين عناصر الإنتاج. لذلك اهتم المنهج الإسلامي، بل الإسلام ذاته بحماية حقوق العمال، وضرورة إتقان العمل وإحسانه، وكذلك تمكين العاملين. ونتناول في هذا المقال، في ضوء القرآن الكريم والسنة المطهرة، حماية حقوق العمال، والجودة والابتكار في الإسلام.

حماية حقوق العمال في القرآن والسنة

حقوق الإنسان في الإسلام كثيرة؛ تبدأ بحق الحياة، وحق الحرية، وحق المساواة، وحق العدالة، والحق في محاكمة عادلة، بالإضافة إلى الحقوق الاقتصادية؛ ومنها حقوق العمال. ومن الآيات التي تناولت عنصر العمل، وحماية حقوق العمال؛ يقول الله عز وجل:

﴿َوأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾
النجم: 39
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
النحل: 79
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾
الأحزاب: 70، 71
﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِين﴾
هود: 85، والشعراء: 183
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۖ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾
الأحقاف: 19

ويُستنبط من هذه الآيات ما يلي:

  • العمل هو العنصر الأول في عمارة الأرض؛ سواء عمل الجسم أو الفكر.
  • من حقوق العامل أن تُوفَر له الحياة الكريمة. وضرورة ارتباط عنصر العمل بالقيم الإيمانية والأخلاقية.
  • يجب الالتزام بإعطاء العامل حقه؛ دون بخس أو ظلم. وضمان حقوق العامل واجب على الفرد والمجتمع والدولة.

وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث القدسي:

قال الله: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُم غَدر، وَرجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، ولم يُعطِه أجرَهُ. [1]

ويقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

ما أكلَ أحدٌ طعاماً قطٌ خيراً من أن يأكل من عمَلِ يدهِ، وإن نبي اللهِ داوودَ عليه السلامُ كان يأكلُ من عمَلِ يدهِ. [2]
لأن يحتطبَ أحدُكم حُزمةً على ظَهرِهِ خيرٌ من أن يسألَ أحداً فيُعطيَهُ أو يَمنعَه. [3]
إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. [4]
أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه. [5]

وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «عن استئجار الأجير حتى يتبين له أجره». [6]

أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. [7]

ويُستنبط من هذه الأحاديث ما يلي:

  • من أهداف النظام الاقتصادي الإسلامي حماية حقوق العامل، وتحسين مستوى معيشته، وتنمية قدراته، والعلم بالأجر؛ حتى لا يكون هناك نزاع.
  • على الدولة دور محدد يتمثل في حماية تلك الحقوق.
  • المنهج الإسلامي في القيادة يشتمل على مجموعة من الأسس والمبادئ؛ التي تجعل القيادة الإدارية -أي راع مسئول عن رعيته- قادرة بإذن الله على استثمار طاقات البشر فيما يعود بالخير.

جودة الإنتاج والابتكار في القرآن والسنة

لقد سبق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) علماء الإدارة والاقتصاد في هذا الزمن الذين ينادون بالجودة والابتكار والإبداع، ويعتبر الحافز على ذلك هو الفوز بحب الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، أي أن المفهوم الاقتصادي للمنافسة في تحقيق الجودة له بعد تعبدي روحاني وهو تحقيق رضا الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم). [8]

وقضية الجودة والرقابة هي قضية سلوكية بالأساس. ويتفاوت العاملين في قبولهم لمفهوم الجودة ودرجة التزامهم بقواعدها، ومراعاة المواصفات؛ وبذلك تنشأ عادة «فجوة الجودة»؛ وهي الانحراف في السلوك الفعلي للعاملين عن سلوك الجودة المستهدف. [9] وفي ذلك يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» [10]. وقد أعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نماذج عملية في إتقان العمل؛ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إنَّ الله كَتَبَ الإحسَانَ على كل شيءٍ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدُكُم شَفرَتَهُ وليُرِح ذَبيحَتَهُ». [11]

وفي مجال إدارة السلوك في منظمات الأعمال؛ يوجد السلوك المتميز؛ الذي يعتبر المورد البشري شريكاً في المسئولية، ويطبق درجة من التمكين Empowerment. والسلوك الإبداعي؛ وهو إدارة متميزة تؤمن بالقدرات البشرية، وتسعى للاستفادة منها لأداء العمل بالإتقان والإحسان والإبداع، دون وجود عائق. ونجيب فيما يلي على سؤال: كيف تناول القرآن الكريم والسنة الشريفة تمكين العامل والإبداع؟

1. تمكين العامل

يُقصد بالتمكين إعطاء الفرد الفرصة كاملة للسيطرة على عمله والتجويد فيه وإبداع أحسن ما لديه.

يقول الله عز وجل:

﴿وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾
يوسف: 21
﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾
الكهف: 84
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾
الأعراف: 10
﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾
الحج: 41
﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ﴾
الكهف: 95
﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾
يوسف: 55

ويُستنبط من هذه الآيات ما يلي:

  • إن التمكين ليس عملاً من طرف واحد، ولكنه علاقة مشتركة.
  • في مقابل الصلاحيات والفرص التي تمنحها القيادة للأفراد بتمكينهم من تحمل المسئولية وممارسة السلطات؛ يجب أن يؤدي الأفراد واجباتهم، ويتقنوا في الأداء؛ حتى يكونوا جديرين بهذه الثقة.
  • إعطاء أولوية للخبرة والتخصص؛ لأن اكتساب الخبرة وإتقان التخصص يؤديان إلى جودة المنتج، ويستلزم ذلك مع زيادة التخصص؛ إعطاء التدريب أهمية، ومواكبة العصر في التطور التقني.

2. الإبداع والابتكار

لكي يوصف الإنتاج بالإبداع لابد من توفر إحدى صفتين؛ وهما:

  • الإحداث: بمعنى ظهور الإنتاج أو الأفكار إلى حيز الوجود، أمام الوعي الإنساني في لحظة معينة من الزمان لأول مرة.
  • التكوين أو الصنع: وفيها تتمثل الفكرة في وجود مادي جديد للشيء.

ويتحقق الإبداع في المنظمات أو المجتمعات عندما تتوفر بعض الركائز؛ أهمها: [12]

  • وجود نموذج فكري مرن يسمح بانطلاق الأفكار دون عائق أو تهديد.
  • اجتماع العقول وإبداء الآراء، يقول الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (الشورى: 38).
  • التوجه بالإنجاز؛ فغاية المبدع أن يحقق شيئًا لم يوجد من قبل، وغاية الإبداع السبق في حل المشكلات بأفكار تتسم بالجدة والحداثة؛ مع الأخذ في الاعتبار الضرورة العملية والجدوى الاقتصادية للفكر الجديد.

ويستلزم ذلك وجود نمط إيجابي للقيادة الابتكارية. وكان منهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقوم على كافة أركان ومقومات نمط القيادة الابتكارية؛ الذي يشجع ويدعم الابتكار، وذلك في كل مظاهر إدارته (صلى الله عليه وسلم). وقد جعل كل فرد من الصحابة متميزًا في مجال عمله، يستشعر المسئولية، ويشارك بتقديم الأفكار والآراء.

ومن النماذج العملية على ذلك: يوم بدر، ومبادرة الحباب بن المنذر باقتراح موضع لنزول الجيش غير ذلك الموضع الذي أمر به الرسول (صلى الله عليه وسلم). ونموذج آخر يوضح النمط الابتكاري، وهو في غزوة الأحزاب.

فبعد ورود معلومات إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن اعتزام المشركين اقتحام المدينة، وكانت معلومات دقيقة في الوقت المناسب، ولعل هذا ما جعل لها قيمة في اتخاذ القرار لمواجهة الخطر القادم.

بادر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعقد جلسة تشاورية عاجلة؛ وهو ما يطلق عليه «العصف الذهني»؛ وهي من الاجتماعات التشاورية؛ التي تُفعل الإدارة المعرفية. فكانت فكرة الصحابي سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وهي حفر خندق عند الجزء الذي يمكن اقتحام المدينة منه من قبل المشركين الذين تم تحزيبهم ضد المسلمين بتدبير من اليهود. وهي فكرة لم تكن موجودة عند العرب في ذلك الوقت.

إن المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية يتميز عن المناهج الوضعية في أنه يركز على ضرورة توفر المناخ المناسب المطلوب لإحداث التنمية من العدل والحرية على مستوى الفرد؛ الذي يقوم بأعباء الجهد الإنمائي المطلوب، ولا يكون التركيز فقط على المؤشرات الكلية مثل الناتج الكلي؛ لأن تحقيق النمو في ظل عدم توفر هذا المناخ هو نمو بدون تنمية.

وهناك ارتباط بين تمكين العمال وحسن اختيارهم من ناحية، وجودة الإنتاج من ناحية أخرى. كما أن العدل والحرية وحماية حقوق العمال هي أسس للإبداع في العمل؛ فالعامل المظلوم أو المقهور أو المُستغل لا يقدر على عمل شيء. والجزاء على حسن الأداء والإتقان هو جزاء مادي وجزاء معنوي، والإيمان بأن رضا الله سبحانه وتعالى هو الجزاء الحقيقي. وبذلك يتحقق الفلاح في الدنيا والآخرة.

المراجع
  1. حديث أبي هريرة: رواه البخاري في صحيحه برقم 2227.
  2. رواه البخاري في صحيحه برقم 2072.
  3. رواه البخاري في صحيحه برقم 2074.
  4. رواه مسلم.
  5. رواه ابن ماجة.
  6. رواه أحمد.
  7. متفق عليه.
  8. حسين حسين شحاتة: الإعجاز الاقتصادي في هدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) (القاهرة: دار النشر للجامعات، 1426هـ = 2005م)، ص 13، 14.
  9. أنظر: علي السلمي: إدارة السلوك التنظيمي Managing Organizational Behavior (القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، 2004م)، ص 210، 211.
  10. رواه البيهقي.
  11. رواه مسلم.
  12. أنظر: علي السلمي، مرجع سابق، ص 734 – 743.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.