ورد في كتاب أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني: أن أصول محاسن الكلام تجتمع في «التشبيه والتمثيل والاستعارة، … والمجاز». ويُفرِّق علماء البلاغة والبيان بين الاستعارةِ والمجاز؛ فالمجاز أعمُّ من الاستعارة، كما يفرقون بين التشبيه والاستعارة، فهو مغزاها وجوهرها، وإن كان مقصدُ الاستعارة هو التشبيه على وجه المبالغة والاختصار والإيجاز. وبينما ينقل المستعير اللفظ عن أصله في اللغة، فإن ضارب المثل لا يفعل ذلك ولا يقصدُه، ولكنه يقصدُ إلى تقرير الشبه بين الشيئين. وفرقوا أيضًا بين التشبيه والتمثيل، فهما وإن اقتضى كلٌ منهما شيئين؛ مشبهًا ومشبهًا به؛ إلا أن التمثيلَ تشبيه عقلي، والتشبيه لا يُشترط فيه ذلك.

وإذا كان التشبيه قاسمًا مشتركًا بين أصول محاسن الكلام؛ فإن له حروفًا وأسماء تدل عليه. وأهمها همزةُ الاستفهام في بعض استعملاتها، وحرف الكاف، ولفظ مثل. وقد توزعت الأمثالُ في القرآن الكريم بنسب مختلفة بين الورود بلفظ «مثل» أو بأحد تصريفاته، والورود بكاف التشبيه في مواضع كثيرة، والورود بهمزة الاستفهام في سياقات متنوعة. وجاءت الأمثال كذلك بصيغ أخرى لم تشتمل على تشبيه أو استعارة في بعض المواضع من آيات القرآن، ومن أهمها القصص القرآني.

وأيًا كان نمطُ المثل القرآني؛ فإن «الأمثال كلها من قبيل التمثيل، والتمثيل من باب الاستعارة»، كما قال عبد القاهر الجرجاني. والسبب في رأي الشيخ أبي زهرة هو أن «الاستعارةَ ذات شعبتين، إحداهما أن تكون في تشبيه شيء بشيء، من غير أداة كتشبيه الرجل بالأسد، وتشبيه حال بحال، وهو التمثيلُ، وهاتان الشعبتان تجريان في التشبيه الذي يكون بأداة التشبيه، كما تكونان في الاستعارة؛ إذ إنهما متلاقيان في المعنى والاختلاف في طريق الأداء». وترتسم المعالم العامة لمواقع الأمثال في القرآن في أربعة مواضع هي:

1. التشبيهُ بالأمثالِ

تشكلُ مادة «مثل» وتصاريفها اللغوية المعاني الأساسية في مواقعها القرآنية، وترسم ملامحها العامة في سياقاتها. وقد وردت مادةُ «مثل» وتصاريفها في القرآن الكريم 180 مرة، باثنين وعشرين اشتقاقًا. منها 86 مرة بمعنى شبه، أو نظير، أو وصف، أو علة، أو شرح، مع ملاحظة تكرار لفظ مثل بإضافة كاف التشبيه (كمثل) في بعض المواضع بهذا المعنى المذكور. و88 مرة بمعنى مساوٍ تمام المساواة. ومرتين بمعنى الأمثل أو الأفضل، ومرة بمعنى العقوبات الفاضحة، ومرتين بمعنى شَخُص أو تَجسَّد، ومرة بمعنى شخص/أو تجسد.

2. التمثيل بكاف التشبيه

تشكل «كاف التشبيه» باستعمالاتها المتعددة معاني الأمثال الواردة بصيغتها وترسم ملامحها العامة. وقد ورد التشبيه أو التمثيل بكاف التشبيه في القرآن الكريم بطريقتين:

  • الأولى بالدخولِ على حرف «إن» بغرض التمثيل والتوكيد، وقد وردت 38 مرة، وهي تفيد التشبيه (كأن 10 مرات، كأنهم 11 مرةً، كأنه 5 مرات، فكأنما 3 مرات، كأنها 3 مرات، كأنما 3 مرات، كأنهن مرتين، كأنك مرة واحدة).
  • الثانية بالدخول على الاسمِ بغرض التشبيه، وقد دخلت في القرآن على الاسم بغرض التشبيه 223 مرة: منها 86 مرة دخلت فيها الكاف على اسم الإشارة «ذلك»، ومرة واحدة على اسم الإشارة «ذلكم»، و9 مرات على الاسم الموصول «الذين» بصيغة الجمع، و5 مرات على الاسم الموصول «الذي» بصيغة المفرد. ومنها: 59 مرة دخلت فيها على «ما» بمعنى الذي، و9 مرات على «مَن» بمعنى الذي أيضًا. ودخلت على لفظِ «مثل» 13 مرة، وعلى «أمثال» مرةً واحدة، وعلى لفظ «دأب» ثلاث مرات. ودخلت الكاف مرتين على أسماء: شجرة، وهيئة، والأعلام، والأنعام. ومرة واحدة على: عرض. عذاب. الظلل. خيفتكم. الحجارة. الجواب. المفسدين. الفجار. غلي. جهر. الرميم. هشيم. لمح. الفخار. الدهان. زرع. الصريم. المجرمين. صاحب. القصر. الفراش. العهن. عصف. مشكاة. الطود. طي. صيب. ذكركم.

وقديمًا اختلف علماء البلاغة والبيان في استعمالات كاف التشبيه وتأويلاتها. أما حديثًا فقد ذهب الشيخ عبد الله كنون (عالم مغربي، وكان رحمه الله عضوًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة) إلى رأي له حجيتُه، وهو جواز دلالة كاف التشبيه على أربعة أوجه هي: التعليل، والتشبيه، والتمثيل، وأن تكون زائدة. وتدخل جميعُ حالاتِ التشبيه أو التمثيل أو التعليل بحرف الكاف في آيات الذكر الحكيمِ كلها في نطاق بحثنا هذا عن مقاصد الأمثال القرآنية.

3. التمثيلُ والتشبيهُ بهمزة الاستفهام

تشكلُ همزة الاستفهامِ المعالم الرئيسية لهذا النوع من التمثيل. والتشبيه بالاستفهام عمومًا هو أوسع مواقع الأمثال في القرآن الكريم بحسب ما تبين لنا من استقصاء أسلوب الاستفهام فيه. فقد ورد الاستفهامُ في الكتاب العزيز في 1260 موضعًا من آياته البالغ عددها 6236 آية؛ أي أنَّ أسلوبَ الاستفهام وحده يمثل ما يقرب من خمس الآيات الكريمة. وهذه الكثرةُ في استعمال الاستفهام تدل على قوته في البيان بشكل عام. وقد استعملت همزة الاستفهام وحدها في 560 موضعًا؛ أي ما يساوي نصف المقدار الذي جاء عليه الاستفهام بأدواته كلها في القرآن، وليست كلُّها مواقعَ تمثيل وتشبيه كما سيأتي في البيانات الإحصائية النهائية للبحث.

ويُعرف الاستفهامُ بأنه طلب العلم بشيء لم يكن معلومًا من قبل بأداة خاصة من أدوات الاستفهام. وليس التشبيهُ أو التمثيلُ هو مقصد الاستفهام بالهمزة؛ بخلاف كل من كاف التشبيه، أو التشبيه بالتمثيل القياسي. فالاستفهام التقريري بالهمزة، مقصده هو أن يقر المخاطب بما يسأل عنه إثباتًا أو نفيًا. أما الاستفهام الاستنكاري بالهمزة فله مقاصدُ أخرى من أهمها: الدعوة للتفكر، والقياس، والاختيار، إضافة إلى مقاصد التوبيخ والاستهجان والتعجب والنفي والوعيد… إلخ.

ولكن ذهبَ بعض النحاة إلى أن الاستفهام بالهمزة يكون بقصد التسويةِ بين شيئين أو بين حالين. وهذا الرأيُ يكشف عن كثيرٍ من الأمثال الشارحة التي وردت في القرآن بأسلوب الاستفهام بالهمزة. والشواهد على ذلك كثيرة في آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
الزمر: 21.

ويدل سياق سورة الزمر على أن همزة الاستفهام بالهمزة (ألم) يفيد المقايسة أو المشابهة بين إنزال الماء من السماء، وإنزال الكتاب؛ وبين ما ينتج عن إنزالِ الماء من آثار في الأرض؛ من إنباتِ مختلف أنواع الزروع، ثم نموها واصفرارها، ثم صيرورتها حطامًا، وما ينتج عن إنزال الكتاب بالنسبة للذين يخشونَ ربهم فتلين قلوبهم لذكر الله، وبالنسبة للذين أضلهم الله فليس لهم من هاد. ومقصد التسوية بالهمزة الاستفهامية واضح في قوله تعالى:

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ۚ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
الأحقاف: 33.

وفي قوله تعالى:

﴿ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾
الشعراء: 136.

والتمثيل بالغ الوضوح باستفهام الهمزة في قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
الحجرات: 12.

4. التمثيل والتشبيه من خلال القصص القرآني، ودون أداة تشبيه

صنّف ابن تيمية القصص القرآني في باب «الأمثال». وصنّف الآيات التي تضمنت قياسًا تمثيليًا دون أداة تشبيه، في باب الأمثال أيضًا. واعتبر أن «القصص» نظير ما يرد في القرآن من ذكر الأصل المعتبر به ليستفاد حكم الفرع منه من غير تصريح بذكر الفرع، كقوله تعالى:

﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾
البقرة: 266.

قال رحمه الله: «ونظير ذلك ذكر القصص، فإنها كلها أمثال؛ هي أصول قياس واعتبار، ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها، لأن كل إنسان له في حالة منها نصيب»، فيقال فيها:

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
يوسف: 111.

ويقول تعالى عقب حكاية القصص:

﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ﴾
الحشر: 2.

ويقول تعالى:

﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾
آل عمران: 13.

قال ابن تيمية: «والاعتبار هو القياس بعينه، كما قال ابن عباس لما سئل عن دية الأصابع فقال: هي سواء، واعتبروا ذلك بالأسنان، أي: قيسوها بها، فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع، فكذلك الأصابع، ويقال: اعتبرتُ الدراهمَ بالصَّنْجَةِ إذا قدرتها بها».

ولا زلنا في المراحل الأولى لحصر القصص القرآني، وكذلك لحصر صور التشبيه دون أداة تشبيه مثل قوله تعالى:

﴿َلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾
الإسراء: 29.

وغاية ما توصلنا إليه حتى الآن هو: أن القصص القرآني منه ما هو قصص الأنبياء والأمم السابقة. وقد أورد الشيخ عبد الوهاب النجار قصص واحد وعشرين نبًيا ورسولاً بمنهجية رصينة هي من أرقى المنهجيات التي اطلعنا عليها في تناول قصص القرآن (كتاب قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار، طبعة بيروت: دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة. وتمتاز هذه الطبعة بأنها تتضمن نص تقريرين كتبتهما لجنة الأزهر التي رفضت منهجية الشيخ النجار وفندتها، وردود الشيخ النجار على التقريرين).

ومن القصص القرآني أيضًا ما هو قصص حوادث وشخصيات غابرة وفئات معينة من الناس سبقت بعثة الرسول بآماد طويلة، ومنه ما هو قصص وقعت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها قصص بعض الغزوات. وثمة خلافات كثيرة حول ما يصنف ضمن هذا النوع أو ذاك. وثمة خلاف آخر يصعب من مهمة حصر وتصنيف القصص القرآني وهو: هل القصص من المحكم أم من المتشابه؟ وما المقصود بالقصة القرآنية أصلاً؟ وما مقاصدها العامة والخاصة؟

وبخصوص مقاصد القصص القرآني، ثمة آراء متعددة أيضًا لم نصل -حتى الآن- إلى معرفة أيها الأرجح وما دليل الرجحان؟ فالقصص القرآني هو من «المتشابه» حسب رأي بعض العلماء ومنهم يحيى بن معمر، والشوكاني، وهو من المحكم حسب رأي آخرين ومنهم ابن حزم.

أمّا مقاصد القصص فهي تشتمل على مقاصد البيان والوعظ والتشريع والكشف عن السنن الاجتماعية والتاريخية شأنها شأن بقية الأمثال القرآنية. وما يرجح تعددية مقاصد القصص، وعدم اقتصارها فحسب على مقصد الوعظ البليغ، ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية قديمًا، وما ذهب إليه العلامة أبو زهرة حديثًا وقال: «ومن صور التصريف البياني بالقصص القرآني بيان بعض الأحكام الشرعية، فإنَّ ذلك يثبت هذه الأحكام ويدعمها؛ لأنها تكون أحكامًا متفقًا عليها في كل الشرائع السماوية، وبيان أنها غير قابلة للنسخ، وأنها مؤكدة ثابتة، وفي القصة تكون حكمة شرعيتها قائمة والغاية منها ثابتة».

وعلى أية حال فليس هذا إلا تمهيد لبحث موسع في القصص القرآني ومقاصده العامة باعتبار ما في تلك القصص من «أمثال» ضربها الله تعالى للناس لعلهم يتفكرون.

تلك جملة مقدمات للبحث في الأمثال ومقاصدها في كتاب الله العزيز. وسبحان من لو شاء لأعاننا على إتمامه بعد إتقانه وإحسانه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.