يُمثّل مفهوم المجال العامّ (Public sphere) مفهومًا مركزيًّا حينما نتناول المجتمع الحديث أيًَّا كان، فـ ـ«المجال العامّ سمة مركزيّة في المجتمع الحديث، إلى حدّ يستلزم تزويره عندما يُراد قمعه أو التلاعب به»، كما ينبّهنا «تشارلز تايلر» في كتابه «المتخيّلات الاجتماعيّة الحديثة» (2003م). وعمل هابرماس الأساسيّ، أعني كتاب «التحوّل البنيويّ للمجال العامّ: تحقيقٌ في مقولة مجتمع برجوازيّ» (1962م)، في هذا المنحى هو المرتكز الرئيس -سواء لدى نقّاده أو موافقيه- للنّقاش حول المجال العام وظهوره. وقد حدّد هابرماس ظهور المجال العامّ بمجيء القرن الثامن عشر، حيث تطوّر الرأي العامّ في أوروبّا خلال القرن الثامن عشر.

وإنّ حداثة المجال العامّ التاريخيّة لا تعني بأنّه لم يكن ثمّة مجال عامّ من قبله، فقد وُجدت أشكالٌ من المجال العامّ فيما قبل القرن الثامن عشر، حتى لدى اليونان، حيث تتناقشُ الطبقةُ المثقّفة حول القضايا التي تشغل «المدينة». وأيضًا، مثّل نقاش «المُستنيرين» في القرن السابع عشر حول القضايا العامّة نوعًا من المجال العامّ.

المجال العامّ فضاء مشترك، يلتقي فيه أفراد المجتمع عبر جملةٍ من الوسائط وذلك لمناقشة مسائل ذات اهتمامٍ مشترك، والتوصّل من خلال ذلك إلى تشكيل تفكيرٍ مشتركٍ في هذه المسائل.
تشارلز تايلر

وفي ضوء الخلْط الحاصل بين أشكال التجمّعات «العموميّة» التي يتشارك فيها الجمهور تحت مظلّة همّ واحد، سواء أكان دينيًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا، وبالاعتماد على تشارلز تايلر، يمكننا أن نميّز بين نمطين من تجمّع النّاس في الفضاء العموميّ. فصحيح أنّ النّاس يشتركون ويشعرون بلحمةٍ واحدةٍ وهم يؤدّون، على سبيل المثال، عبادةً معيّنة، وهم مجتمعون في «موضع» معيّن. بيد أنّ هذا النّوع من الفضاء العامّ «الذي ينشأ على نحوٍ حدسيّ» بتعبير تايلر، لا يفي بالمعنى الحديث للمجال العامّ الذي يناقشه هابرماس وتايلر وغيرهم من المعنيّين بالشأن الاجتماعيّ الحديث. ومن ثمّ، يميّز تايلر هذا النوع من التشارك المجتمعيّ حول شعيرة، مبارةٍ، أو غيرهما، بأنّه «فضاء عامّ موضعيّ». وفهم هذا النّوع حاسمٌ، ههنا، في تمييز المجال العامّ في صيغته الاجتماعيّة الحديثة، بدءًا من القرن الثامن عشر.

فهذا الاجتماع الموضعيّ، في موضعٍ ما، هو بالتحديد ما قد تجاوزه المفهوم الحديث للمجال العامّ، إذ هو، على نحو ما يشخّصه تايلر، «فضاءٌ عامّ ما فوق موضعيّ». فهو لا يرتبطُ بأيّ شكلٍ من أشكال التموضع، إنّه فضاء ينشأ من شعور سبْقيّ بين المواطنين بتعالي مشتركهم الذي يجمعهم، أي إنّ ثمّ شيئًا يسبقُ اجتماعهم على هذا النحو لمناقشة «المشترك العامّ». ومن ثمّ، فهو يتعلّق بشعور المواطنين بأنّ اجتماعهم البشريّ داخلٍ كيانٍ سياديّ اسمه «الدّولة» يعني وجود مشتركٍ عامّ في قضايا تخصّهم جميعًا، ولدى الجميع منهم رأي حيال هذا الأمر أو ذاك. بيد أنّنا لا بدّ أن نعي بكون أنّ المجال العامّ لا يضمّ «الجميع»، إنه يستبعد شرائح ويُدمج بداخله شرائح؛ لذا إنّ طابعه الاستناريّ حاسم في قبول من يكون فيه، فلا بدّ أن يكون المرء متعلّمًا و«مستنيرًا».

المجال العامّ سمة مركزيّة في المجتمع الحديث، إلى حدّ يستلزم تزويره عندما يُراد قمعه أو التلاعب به.
تشارلز تايلر

ويعتبر تايلر سِمَتين أخريين، إضافةً إلى سِمة اللا موضعيّة، تسمان المجالَ العامّ، ألا وهما سمة كونه علمانيًّا، وسمة كونه خارج السياسة، فلنمضِ إلى بيانهما كما أبنّا عن السمة الأولى.

تتعلّق السمة الثانية بمفهوم العلمانيّة، وهو مفهوم حاسمٌ لا بدّ من احتراز الخوض فيه لأنّ لها تأويلاتٍ منافسة كثيرة. وما سنعتمده ههنا هو مفهوم تايلر لها، باعتبارها عصرًا، أو ضربًا من الزمن. فالعلمانيّة هي نوعٌ من فهم الزمن، وهي لا تعني الإلحاد كما يُفهم منها غالبًا، لأنّ العلمانيّة لم تلغِ الدين، ولا الممارسة الدينيّة حسب تايلر. إنّ العلمانيّة لدى تايلر ستأخذ بُعدًا آخر، إنّه هيمنة «الإطار المحايث Immanent frame» في مقابل «الإطار الترنسندنتاليّ Transcendental frame» السائد قديمًا. وهذه نقطة تحتاج توضيح. فلمّا كان في العصر ما قبل الحديث ما يُملي نماذج العيش البشريّة هي الإطارات الترنسندنتاليّة سواء تمثّلت بالدّين أو بالطبيعة، فإنّ العصر الحديث سيهيمن عليه النسق المحايث، حيث العيشُ والتدبيرُ أصبحا قضيّة من داخل الزمن لا خارجه. ولا يعني هذا أن الدين لم يعد يُملي شيئًا، إنّما ستُعاد موقعته على يد العلمانيّة. يقول تايلر في كتابه «عصر علمانيّ» موضّحًا هذا المعنى:

لقد انتقلنا من عالَمٍ حيث كان مكان الامتلاء مفهومًا على نحوٍ لا إشكال فيه بوصفه خارجَ أو ’ما وراء‘ (beyond) الحياة البشريّة، إلى عصرٍ مُتنازعٍ عليه تعرّض فيه هذا التأويل إلى التحدّي من قبل تأويلات أخرى صار مكانها (في نطاقاتٍ واسعةٍ من الطرق المختلفة) ’في صلب‘ (within) الحياة الإنسانيّة.

ما يريد تايلر أن يَعْقده بين هذا الفهم للعلمانيّة وبين المجال العامّ هو القول بأنّ ما يحكم المجال العامّ هو الشعور الزمنيّ للمواطنين أنفسهم، وليس شيئًا من خارجهم، فالمجال العامّ لا تؤسّسه سرديّات ميتافيزيقيّة حول الاجتماع البشريّ من خارج الزمن، إنّ سرديّاته زمنيّة ونابعة منه. فالأشكال الاجتماعيّة الحديثة -وقد خصّها تايلر بثلاثة: الاقتصاد، والمجال العامّ، والحكم الذاتيّ أو ما أسماه «الشّعب السيّد»- موجودة في الزّمن العلمانيّ بالمعنى الحصريّ. ولذلك، سيقيم هذا إشكالًا آخرَ متعلّقًا بالمضامين الدينيّة داخل هذا المجال ذي البنية العلمانيّة مسبقًا، وهو إشكال سيتناوله هابرماس لاحقًا وتايلر وغيرهم (ويحتاج إلى تفحّص وتحقيق بداخله، خاصّة مع بزوغ ما صار يسمّيه هابرماس بـ«المجتمعات ما بعد العلمانيّة»، وكنّا قد تناولنا بعضًا من قضايا هذا الأمر سابقًا، ولعلّنا نعود إليه).

وتبقى السّمة الثالثة للمجال العامّ، وهي كونه «خارج السياسة». ويوضّح تايلر هذه السمة بقوله: «ينطوي كون المجال العام خارج السياسة على وجهٍ من أوجه جدّته؛ ففيه يجب أن يُنظر إلى أفراد المجتمع السياسيّ جميعًا (أو أفراده الأكفياء المتنوّرين على أقلّ تقدير) باعتبارهم يشكّلون مجتمعًا خارج الدّولة». ومن ثمّ، فهو فضاء بين المجتمع والدولة، بنية وسيطة بين الاثنين. ويبقى هذا التحديد مهمًّا على المستوى المفاهيميّ والتحديديّ. وهذه السّمة نلحظها لدى هابرماس بشكلٍ كبير في تعريفه للمجال العام. حيث يعرّف هابرماس المجال العامّ بقوله:

نقصد بالمجال العامّ في المقام الأوّل مجالًا من مجالات حياتنا الاجتماعيّة يتشكّل فيه شيء يقترب ممّا نسميه بالرأي العموميّ. وولوج هذا المجال يكون متاحًا ومضمونًا بالنسبةِ إلى المواطنين كافّة. وتبرز اللحظة من المجال العامّ مع كلّ نقاشٍ ينعقدُ بين أفرادٍ خصوصيين حول قضايا تعنيهم أو تؤرّقهم بوصفهم كيانًا عموميًّا. فهم في هذا الوضع (أي بوصفهم كيانًا عموميًَّا) لا يتصرّفون تصرّف رجال أعمالٍ أو أصحاب مهنٍ يتداولون في أمور أعمالهم أو مهنهم الخاصّة، أو تصرّفَ أعضاءٍ ينتمون إلى نظام الدّولة الرّسميّ حيث يكونون خاضعين للقيود القانونيّة التي تفرضها بيروقراطيّة الدولة. لا يتصرّف المواطنون بوصفهم كيانًا عموميًّا إلّا عندما يتّجهون دون تقييدٍ إلى الخوْض في قضايا المصلحة العامّة. والمقصود بعدم التقييد هنا أن حريّة التجمّع والمشاركة والتعبير عن الآراء ونشرها تكون متاحةً ومضمونة.

وبالنّظر في تعريف هابرماس الشّامل للمجال العام، نجد أنّ السمةَ الأبرز له هو كونه منفصلًا عن الدّولة، إنّه يسكن مساحة وسطى ما بين المجتمع والدّولة، كما إنّه فضاءٌ غير ماديّ، «فوق موضعيّ» بتعبير تايلر، ويلعبُ دورًا هامًّا في إكساب المشروعيّة للسلطة التنفيذيّة، فرأي المجال العامّ تقييميّ لها وعليها أن تنصت له.

ويُوجز تايلر على نحوٍ طريف مفهوم المجال العامّ بهذا القول، فيكتب:

المجال العامّ فضاء مشترك، يلتقي فيه أفراد المجتمع عبر جملةٍ من الوسائط […] وذلك لمناقشة مسائل ذات اهتمامٍ مشترك، والتوصّل من خلال ذلك إلى تشكيل تفكيرٍ مشتركٍ في هذه المسائل. […] المجال العامّ سمة مركزيّة في المجتمع الحديث.

ولذلك، ومن خلال هذا التعريف، يعني المجال العامّ فرضيّة مسبقة حول المشترك، ولذلك فهو من «المتخيّلات الحديثة»؛ أي من جملة التخيّلات التي يتصوّر من خلالها المواطنون كونهم مواطنين، كونهم ذواتًا تعيشُ في فضاءٍ سياسيّ ما، وعليها أن تشتركُ في الفضاء السياسيّ الذي يعني أنّهم منتمون له. وفي هذا افتراضٌ مسبق بعقلانيّة مَن يدخلون إلى هذا الفضاء، وبــ «أهليّتهم» في حيازة مضامين مبرّرة على نحو عموميّ.

ولذلك، فإنّ المجال العامّ هو فضاء عقلانيّ (Rational) بالمقام الأوّل، فضاء عقلانيّ بمعنَيين: فهو عقلانيّ باعتبار أنّه يستبعد غير العقلانيين، كالمجانين مثلًا والأطفال والنساء حتى عهدٍ قريب من جهة، وعقلانيّ باعتبار ما يُناقشُ فيه من حيث دلالته المعياريّة. فأيًّا كانت المسائل التي تُناقَش فيه، فإنّه لا بدّ لها من «إعادة تلسين»، إذا صحّ تعبيري، أي من إعادة استنطاقها ضمن لغة عموميّة عقلانيّة، كما يشير هابرماس. فبالاعتماد على كانط، ومن ثمّ على جون رولز الذي أسّس «عدالته» على الكانطيّة، يشيرُ هابرماس إلى أنّ «المصطلح الكانطيّ عن ’الاستخدام العموميّ للعقل‘ في المجال العامّ ذو جاذبيّة؛ إنّه يخدم بوصفه طريقةً تساعد على تفسير توقّعات أخلاقيّة معيّنة بشأن المواطنة». وبما أنّ المجال العام فضاءٌ عقلانيّ بالمعنيين اللذين ذكرتهما، فهو في بنيته استبعاديّ بشكلٍ أساسيّ، وذلك لما يرتكز عليه من عقلانيّة متعالية تُعيد صياغة الذوات التي تدخله، وهو على عكس الشائع بأنّ الناس هم الذين يصوغون هذا المجال ويؤطّرونه،فإنّه ليس كذلك لأنّ له بنية ترنسندنتاليّة مسبقة.

وختامًا، يتحتّم ههنا التنبيه إلى أنّه حين القول بأنّ المجال العامّ هو متخيّل اجتماعيّ حديث، لا بدّ أن نعرف أنّ مفهوم «المتخيّل (Imaginary)» لا علاقةَ له، كما يوحي للوهلة الأولى، بالكذب أو الصْدق كحقائق معياريّة. حيث يخطأ الكثير في فهم معنى المتخيّل بظنّه يدلّ على أمورٍ كاذبة ومختلقة بالمعنى ذاته الذي يرّوج فيه مفهوم الأيديولوجيا. إلّا أنّ للمتخيّل، وللأيديولوجيا كذلك أيضًا، وظيفة تكوينيّة بنائيّة هامّة؛ «وظيفة جعل الممارسات التي تمكّنها وتخلق معنى لها أمرًا مهمًّا. وبهذا المعنى، فإنّ زيفها [أي المتخيّلات الاجتماعيّة] لا يمكن أن يكون شاملًا […] إنّ المتخيّل الاجتماعيّ يمكن أن يكون مليئًا بأشكال التخييل والكبت التي تخدم الذّات، لكنّه مكوّن أساسيّ من مكوّنات ما هو حقيقيّ. وهو غير قابلٍ للخفض إلى مرتبةِ حلمٍ لا قيمةَ له»، كما يقول تايلر نفسه. وإضافةً إلى ذلك، فإنّ دور المتخيّل الاجتماعيّ مهمّ في تشكيل شعور المواطنين المُحدثين تجاهم كونهم موجودين في فضاءٍ اجتماعيّ يستلزمُ متخيّلات لطبيعة من يكونون، تاريخيًّا، ولمعنى كونهم رابطةً واحدة، وهذا ما قد تتبعّه بجدارةٍ الرّاحل بندكت أندرسن في كتابه التأسيسيّ «الجماعات المتخيلة» (١٩٨٣م).