طوال أربعة عقود عشتها على هذه الأرض في عشرات المدن والبلاد، وسواءً كنت موظفًا أم لا، سعيدًا أم لا، رصينًا أم غاضبًا، لم يسبق لي أن لكمت أحدهم. ماذا عنك؟

كان السؤال أعلاه افتتاحية تحقيق طويل نشره «سام بوردين» صحفي «ESPN» البريطانية بعنوان: مثيرو الشغب الروس الجُدد. كانت إجابة «ڤوڤا»، ابن الـ19 ربيعًا وقتئذٍ، والذي يدرس «تصميم الجرافيكس» أنّه يَهوى ضرب الآخرين؛ معللًا ذلك بأن رجُلًا بلا ندبات لا يمكن اعتباره رجلًا.

مفردات هذا الشاب الحاسمة، ربما تجعلنا نخرُج قليلًا من فُقاعة الاشمئزاز من مثيري شغب الملاعب «Hooligans» التقليديين، لنرى الصورة الأوضَح؛ نحن الآن أمام حالة جديدة نسبيًا، مرتبطة بشكلٍ وثيق بكرة القدم، لكنّ كرة القدم -للمفارقة- آخر ما يؤثِّر عليها.

مرحبًا بك في عالم موازٍ، لا نعرِف عنه سوى القليل: عالم جيل «الهوليجانز» الجُدد.

الزمن الجميل

يُعتقد أن أول ملامح الشغب المرتبط بكرة القدم ظهر في إنجلترا بأواخر ستينيات القرن العشرين، وازدهر حتى وصل لذروته في منتصف الثمانينيات. وقتئذٍ، وعلى الرغم من الأثر السلبي الضخم للأحداث التي تسببت بها مجموعات «الهوليجانز» كانت هذه التصرُّفات مفهومة نسبيًا، على الأقل من الناحية النفسية.

مجموعات غير منظمة من جماهير كرة القدم المتعصّبة لأنديتها أو منتخباتها، ترى جماهير المنافس عدوًا يستحق العقاب، وتحت تأثير القَبَلية المبالغ بها، وأحيانًا الكحول، توالت الكوارث تباعًا.

باعتزال الحرس القديم من مثيري الشغب حول العالم، وجد الجيل الجديد، الذي ربما تأثَّر بنفس الأفكار العداونية أمام اختبار أشّد صعوبة؛ لأن إثارة الشغب لم تعُد ممكنة داخل الملاعب أو حولها، بسبب تشديد الحكومات على تطبيق إجراءات أمنية صارمة تجاه الجماهير المثيرة للشغب، إضافة لارتفاع أسعار تذاكر المباريات بشكل ملحوظ.

هكذا، اعتقدت السلطات حول العالم أنّ «الهوليجانز» لم يعُد لهم مكانًا في المشهد الرياضي، لكن الحقيقة طبقًا لـ«نيكول سيلمر»، الخبيرة في عنف ملاعب كرة القدم، أنّ هذه الإجراءات التي اتبعتها الحكومات لمكافحة المتعصبين أبعدتهُم بالفعل عن الملاعب، لكنّ ذلك لا يعني أنّهم اختفوا تمامًا؛ لأنهم سيبحثون عن مكانٍ آخر لممارسة العنف بكل تأكيد.

آخر صيحة

من روسيا ودول شرق أوروبا إلى إسبانيا وألمانيا وإيطاليا، وجد «الهوليجانز» ضالتهم أخيرًا في «القتال الحُر». طبقا لـ«روبرت كلاوس»، مؤلف كتاب: «Hooligans: A world between football, violence and politics»، مباريات «القتال الحر» جزء رئيسي من مشهد شغب جماهير كرة القدم منذ مطلع الألفية الثالثة. السؤال البديهي الآن: ما هو القتال الحر من الأساس؟

نحِّ كل ما قرأته عن «الهوليجانز» جانبًا، لم يعد الأمر مُرتبطًا بانفجارات عفوية من الشغب العنيف في المدن التي تلعب بها الأندية والمنتخبات، ولم يعد استهلاك الكحول والمخدرات وقودًا يدفع مجموعة من الحَمقى نحو المجهول، بل تنظيمات مُحترفة للغاية، مُرتبطة «صوريًا» بأندية كرة القدم، يمتلك أفرادها نمط حياة صحي، وأعمال تجارية حول أوروبا.

أما عن «القتال الحُر» نفسه، بإجراء بحث بسيط، تظهر عشرات المقاطع المُصوَّرة لمجموعات من الشباب بمناطق صناعية نائية أو غابات مهجورة قبل لحظات من الاشتباك بالأيدي وأحيانًا بالعصي. المفاجأة، هي أن هذه المعارك، بين جماهير كرة القدم تكون مُرتبة مسبقًا، بين قادة هذه المجموعات، عبر تطبيقات محادثة سرّية، لتجنُّب رصد الشرطة.

قواعد القتال الحر بسيطة، يتم الاتفاق بين قادة المجموعات على مكانٍ وزمان للقتال، على أن يكون عدد المقاتلين متكافئًا، دون استخدام أسلحة نارية أو أدوات حادة، بينما تُعلن نتائج هذه المباريات على مواقع أو حسابات لمثيري الشغب حول العالم.

الهدف هو الفوز على الخصم في معركة عادلة وليس قتله. حين يسقُط أحدًا أثناء القتال الحُر يتم إقصاؤه، ولا يسمح بضربه مجددًا.
أحد أفراد مجموعة من مثيري الشغب التابعة لنادي أنتويرب البلجيكي.

لماذا نحن هنا؟

في يونيو/ حزيران 2020، نشرت «المجلة الأوروبية لعلم الجريمة» دراسة للكشف عن الدوافع الحقيقية التي قد تجعل هؤلاء الشباب مُهتمين بالاشتراك في هذه المباريات الُمعَّدة مسبقًا، والاختلافات الجوهرية بينهم وبين عناصر الشغب التي تشترك في أعمال العنف العفوية حول ملاعب كرة القدم في هولندا.

خلصت الدراسة إلى حقيقة المُفزعة، وهي أنّ هذا النوع الجديد من معارك جماهير كرة القدم، لا علاقة له بكرة القَدم من الأساس، بمعنى أن هذه المجموعات تقوم بترتيب هذه المباريات القتالية أحيانًا دون وجود أي تاريخ كُروي بين الفرق التي تنتمي لها، بالتالي الدافع هو العُنف بهدَف العنف.

تدور مثل هذه المواجهات في الغالب بغرض إنشاء سمعة جماعية للمجموعة أو الحفاظ عليها عبر فرض الهيمنة على منطقة ما، مع ارتباط دوافع المشاركة بالبحث عن الإثارة، والمشاعر الإيجابية تجاه السلوك العنيف.

هذه الأفكار تحديدًا تجعل مثل هذه المجموعات قريبة جدًا من توجهات «النازيين الجُدد» المدعومين في الغالب من اليمين المتطرف.

تلك المجموعات التي تكتَظ بها صالات أوروبا الرياضية، لتدريبهم على الفنون القتالية بشكلٍ احترافي، كجزء من أعمالٍ تجارية ضخمة وصلت لإنشاء خطوط أزياء خاصة للـ«هوليجانز»، وإقامة فعاليات لإبراز مدى قدرة نفس المجموعات على تنفيس غضبهم عبر اتقان رياضات عنيفة مثل الـ«MMA- فنون القتال المختلطة».

ترويض بوتين للمشاغبين

في ديسمبر/ كانون الأول 2020، نشرت «ديلي ميل» البريطانية تقريرًا يشير إلى تجنيد الرئيس الروسي «ڤلاديمير بوتين» لمجموعات من مثيري الشغب الروس الأكثر شهرة بأوروبا وضمَهُم داخل وحدة شبه عسكرية «إسبانويولا- Española»، كجزء من كتيبة ڤوستوك.

تضُم هذه الوحدة مجموعة أنصار أندية «سسكا موسكو»، «سبارتاك موسكو»، «لوكوموتيڤ موسكو»، وغيرها من الأندية. الغريب في هذه القصّة هو أنّ هؤلاء الأفراد كانوا أعداءً قبل أشهر قليلة، لكن طبقًا لأحد أعضاء الوحدة، الذي رفض الكشف عن هويته، اتفق مثيرو الشغب الروس على نقل القتال وأعمال الشغب لخط المواجهة بدلًا من القتال الحر.

قد تعتقد أن لجوء «بوتين» لحل مثل تدريب عناصر مدنية على القتال في أوكرانيا بالوكالة دليل على ضعف ثقته في الجَيش، لكِن الحقيقة هي العكس تمامًا. لكن التفسير يأتي هذه المرّة من الطرف الآخر في الحرب.

يعتقد «ڤيتالي أوڤشارينكو»، الذي كان أحد عناصر مجموعة «Sever-8» المنتمين لنادي «شاختار دونيتسك» الأوكراني قبل اندلاع الحرب، أنّه استفاد كثيرًا من كونه عنصرًا مشاغبا؛ لأن القتال الحر يشبه الحرب، فحسب رأيه، المشاعر متطابقة تمامًا، المشاغب يفكر كيف سيمضي الساعات الثلاثة القادمة على قيد الحياة، والمقاتل يفكر بنفس الطريقة. لكن الأهم بالنسبة له، هو أن أبرز سمات المشاغب هي الشجاعة، أو بالأحري فهمه لمشاعر الخوف قبل القتال وإدارتها بشكل جيد.

في الواقع، تبدو هذه القصة برمتها خيالية، بداية من ظهور جيل من المُضطربين الذين يرون في ملاعب كرة القدم مكانًا للتنفيس عن الغضب، وصولًا لجيل أصغر سنًا يرى اللكم أسلوب حياة، نهاية بمجموعات تذهب بمحض إرادتها لساحة حرب حقيقية.

– هل يمكنك أن تشرح لماذا تقاتل؟
= من أجل المتعة
– هل هو ممتع
= بالطبع
حوار حقيقي مع عنصر مشاغب روسي يُدعى «كوستيا».