مع اعتراف الرئيس الروسي بوتين باستقلال منطقتي لوهانسك ودونيتسك الانفصاليتين في أوكرانيا، وتصاعد حالة الخوف والتكهنات في دول أوروبا الشرقية من أن روسيا ستحاول فرض سيطرتها الكاملة على المناطق التى تحكمها أوكرانيا جزئيًّا؛ واستخدام مثل هذه الخطوة كذريعة لغزو أوسع للبلاد، وكذا العمل على إحياء «الاتحاد السوفيتي» مرة أخرى. وبالتالي، فإنه وفقًا لتلك التكهنات والمخاوف يجب التساؤل حول مدى واقعيتهما، وصحتهما؟

بدايةً، يجب التأكيد على أنه قبل ثلاثين عامًا، في 25 ديسمبر/كانون الأول 1991، أعلن ميخائيل جورباتشوف، رئيس الاتحاد السوفيتي، استقالته. وكان ذلك إيذانًا بتفكك هذا الاتحاد، الذي تشكَّل في عام 1922 نيابةً عن اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. وبهذا الإعلان تميزت وأُغلِقَتْ صفحة مهمة في تاريخ العالم، بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، بقطبين رئيسيين في النظام الدولي: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. فلقد اختفى الاتحاد السوفيتي وحلت محله 15 دولة جديدة، أكبرها روسيا الاتحادية.

وفي الأسابيع الأخيرة عاد اسم الاتحاد السوفيتي يتردد في وسائل الإعلام الغربية في أكثر من شكل واحد. فعلى سبيل المثال، صرح السفير الأوكراني في الاتحاد الأوروبي بأنه «يتعين على روسيا أن تُعيد اكتشاف نفسها كدولة حديثة، وأن تتوقف عن التشبث بفكرة إعادة بناء الاتحاد السوفيتي».

كما اتهم العديد من السياسيين ووسائل الإعلام في أمريكا وأوروبا الرئيس الروسي بوتين بـ «السعي إلى إحياء الاتحاد السوفيتي». بالإضافة إلى ذلك يعد الخوف الراهن من فكرة عودة الاتحاد السوفيتي له وجاهته، فأقصى ما يُمكن فعله أمام حالة تراجع وعدم تناسق سياسات الغرب هو قيام النخبة الروسية المُحبطة سياسيًّا واقتصاديًّا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي بتعميق نفوذها في هذه الدول، وليس التوسع على حسابها.

ذكريات نخبوية سوفيتية محبطة

عند الحديث عن تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي لا بدَّ من الإشارة إلى أن ذكريات التفكك لا تزال موجودة وعالقة في أذهان العديد من السياسيين الروس اليوم. فلقد قام فياتشيسلاف فولودين رئيس مجلس الدوما بوصف التفكك بأنه «خيانة النخبة السوفيتية فى ذلك الوقت للدولة والوطن». وزعمَ رسلان خاسبولاتوف، آخر رئيس للمجلس السوفيتي الأعلى، أن مثل ذلك التفكك «ليس حتميًّا» بل حدث «عمدًا» من قِبَل مجموعة من الأشخاص الضعفاء والجاهلين وغير الموهوبين الذين تصادف وجودهم في السلطة.

فضلًا عن ذلك، فإن هذا يفسر لماذا تدرك النخب الروسية مع ذلك أن روسيا تشترك في بعض نقاط الضعف الرئيسية التي كان يعاني منها الاتحاد السوفيتي، الذي سعى في نهاية المطاف إلى التفاوض؛ لأنه لم يعد قادرًا على تحمل تكاليف سباق التسلح الباهظ الثمن مع الغرب.

فروسيا اليوم عرضةً للتقلبات في أسعار الغاز والنفط العالمية بعد أن تم وقف مشروع نورد ستريم ٢، وإعلان الحزم الأولى من العقوبات الاقتصادية التي أعلنها الغرب عليها. ورغم ذلك، تدرك روسيا مدى المشاكل الناجمة عن افتقارها إلى التنمية، واستمرار اعتمادها على صادرات المواد الخام، والدعم المستمر المقدم من الصين منذ غزو موسكو لشبه جزيرة القرم. فهي تريد من الغرب رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة بعد عام 2014، وتحتاج إلى استثمارات غربية والوصول إلى الأسواق الغربية لتحقيق النمو الاقتصادي، ولكن هيهات أن يتحقق ذلك بعد تأزم الأمور.

البوتينية المُحبطة

تسعى البوتينية في الوقت الراهن إلى إعادة إنجاز ما أنجزته الستالينية من إبراز لصورة الاتحاد السوفيتي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كقوة عظمى تقف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية. فالرجل ذو نزعة قومية روسية وضابط KGB السابق (المخابرات السوفييتية). ومن الناحية النفسية، هو أسير لماضي بلاده العنيف وتطورها المتقزم، ينظر إلى الأحداث من حيث تطويق الأعداء والقبلية واستعادة المجد القديم للاتحاد السوفيتي. ومن وجهة نظره حول الشئون العالمية هناك شعور روسي تقليدي وغريزي بانعدام الأمن؛ حيث ينظر إلى بقية العالم على أنه عدائي، وهذا يوفر ذريعة «للديكتاتورية» التي بدونها لا يستطيع إحكام قبضته على الداخل الروسي.

كما أن النخبة المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تؤمن بأوهام الانهيار الوشيك للغرب، ومعظمهم غير مهتم باحتمال حدوث المزيد من التصعيد بين روسيا والغرب، الأمر الذي يؤدي إلى مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة وأوروبا. فللوهلة الأولى، من الواضح أن مجلس بوتين لوزراء الحرب تشترك نخبه في عدد من الخصائص، وأبرزها مُعاصرتهم للحظة انهيار الاتحاد السوفيتي.

 وبالتوازي مع ذلك يُدرك الغرب بشكل عام، والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص أن نهوض الاتحاد السوفيتي مجددًا وتوافر مقومات الاستقواء التي يسعى إليها بوتين اقتصاديًّا وسياسيًّا، لن تكون في صالح النموذج الليبرالي الدولي الحالي. فالإدارة الأمريكية هي من استحدثت الأزمة الأوكرانية بغرض خنق روسيا اقتصاديًّا وسياسيًّا؛ حتى يكون هناك مرونة في مواجهة الصعود الصيني الذي يُعد التهديد الحقيقي من وجهة نظر العديد من المفكرين.

كما أن بوتين سياسيٌّ واقعيٌّ يدرك من دون أدنى شك استحالة تحقيق مثل هذا الهدف، وأن انهيار الغرب قادم بشكل أو بآخر. فهو لديه كلمة بليغة في هذا الصدد: «أولئك الذين لم يحزنهم انهيار الاتحاد السوفيتي هم أشخاص بلا قلب. ومن يسعى إلى استعادة الاتحاد السوفيتي هو شخص طائش».

ولكن السؤال الذي لم يتم الإجابة عليه بعد هو: متى سوف يلتئم الجرح العميق الذي خلفه زوال الاتحاد السوفيتي في نفسية بوتين والنخب الروسية؟ ففي أحد الأيام وقف في بداية مشواره السياسي كضابط مخابرات، واستيقظ فجأة ليشعر بأن جدار برلين انهار فوق رأسه، كما قال، وليس فوق رأس الإمبراطورية الماركسية الشيوعية التي سقطت بشكل مأساوي أمام الرأسمالية الغربية أو كما أطلق عليها فوكو يومًا «نهاية التاريخ».