لم تكن السينما مكونًا بعيدًا عن منزلنا. فمنذ طفولتي كانت والدتي، رحمها الله، موسوعية الثقافة بشكل عام، وكان من ضمن اهتماماتها السينما المصرية. بالطبع كانت رؤيتها السينمائية قائمة على قيمة المحتوى المعروض وقدرة الممثلين على الأداء، وبالطبع ذائقتها الخاصة. لكنها كانت تعرف أسماء كل الممثلين وأصولهم وأدوارهم، وتحفظ بالتقريب أسماء المنتجين والمخرجين، وقلما كانت تخطئ.

عشت مع والدتي وحدنا منذ أن كنت في المرحلة الإعدادية، وتعرفت على تلك الاهتمامات وقتها وتعجبت من اكتشافي المتأخر هذا. كانت صلة تشبه الصداقة قد نمت بيننا، وكانت موضوعاتنا المحببة هي الموسيقى العربية –التي لم تتذوق غيرها- والدراما.

كنا نذهب سويًا للسينما في مرحلة التحاقي بالجامعة، فشاهدنا أفلامًا مثل المهاجر والمصير وسكوت هانصور ليوسف شاهين، وعدد كبير من الأفلام «الشبابية»، أما الأفلام الأمريكية – التي كانت تنام وقت عرضها في السينما لأنها قد بدأت في فقد بصرها في ذلك الوقت، ولم تكن تستمتع بالوصف أو الترجمة للأعمال الأجنبية – كانت تصحبني لمشاهدتها إرضاء لذوقي ومحبة في مشاركة سندوتشات الشاورما بعد العرض.

كان أول فيلم شاهدته في السينما فيلم «العفاريت» من بطولة عمرو دياب ومديحة كامل. لم أنبهر كثيرًا بالقصة ولا الأداء. ولو أنني أحببت «الكاتعة» التي قامت بدورها القديرة نعيمة الصغير. لكن مقارنة بما كنت أشاهده من أفلام مصرية قديمة أو أجنبية على شاشة التلفاز لم أستمتع قط بتلك التجربة، رغم أن عمري لم يتجاوز وقتها السبع السنوات.

نما داخلي عشق لسحر السينما، وكنت أحلم بأن أكون مخرجة سينمائية. لم أكن منبهرة بنجومية الممثلين، بل كنت دومًا أبحث عن الساحر الحقيقي، ذلك الذي يبدع ثم يتوارى خلف سطوع نجومية المؤدين. على الرغم من محبة والدتي السينما فإنها رفضت أن ألتحق بمعهد السينما نظرًا لما شاع عن الوسط الفني من الانفلات الأخلاقي لبعض الأفراد داخله. لم أجادل، والتحقت بكلية الفنون الجميلة لأضع قدمي على البداية البعيدة لطريق السينما، وهي إخراج الرسوم المتحركة. مع الوقت انتقل اهتمامي للكتابة الروائية والسيناريو، حيث وجدت منبعًا من منابع السحر الخفية في كليهما.

بالطبع أتابع مهرجانات السينما العالمية. وفي مصر عدد من مهرجانات السينما الدولية والمحلية.

كانت في وقت ما من أهم مهرجانات العالم. أذكر أن أول دورة لمهرجان القاهرة الدولي السينمائي عام 1976 كان ثاني أهم مهرجان دولي. بالطبع المهرجان الدولي ليس مخصصًا للأفلام المصرية فقط، وإنما يعرض للتنافس مع مجموعة من الأفلام العالمية قي فئاته المختلفة، سواء أفلام روائية قصيرة أو طويلة أو تسجيلية… إلخ.

في تلك الدورة الأولى تعمد القائمون على المهرجان أن يبدو كل شيء «مصريًّا جدًّا» إن صح التعبير. فكان بائعو العرقسوس والفتيات بملابس مصرية تراثية يطوفون وسط الضيوف المنبهرين بالأجواء الشرقية الصميمة. حتى أن شعار المهرجان كما هو معروف هو الهرم، والجائزة العليا الممنوحة للفائزين هي جائزة الهرم الذهبي. بينما جائزة أفضل ممثلة كانت تمثالًا نصفيًّا للأميرة المصرية باكت آتون، وجائزة أفضل ممثل تمثالًا للوزير ايمنحتب، وجائزة أفضل مخرج تمثالًا للملك المصري إخناتون. حتى أن من بين الجوائز الأخرى الممنوحة تمثالًا للروائي المصري العظيم نجيب محفوظ. كل شيء يشير إلى مصريتنا المتفردة وكينونتنا الأقدم.

ما بين صعود وهبوط في مستوى تقديم المهرجان قرابة أربعين دورة تالية، وانصراف الجمهور عن الاهتمام به، أطل علينا بريق أمل آخر من مدينة الجونة. مهرجان الجونة السينمائي الدولي.

نظرًا لما للمكان الُمقام فيه المهرجان من طابع «بحري» ومنتجعي، فتم اختيار رمز «نجمة البحر» كجائزة تُمنح الفائزين في المهرجان. وأعتقد أن النجمة في التصميم مستوحاة من نوع «فروميا ميلليبوريللا» التي تعيش في البحر الأحمر وعدد آخر من المحيطات. وهو اختيار ذكي بالطبع بث فيَّ روح الحماس.

أبهجتني أغنية الافتتاح في الدورة الأولى «تلات دقات» وتصويرها، خاصة وأنها تمثل قصة حب قصيرة تدور على شاطئ البحر، وكأنها فيلم قصير خفيف. توسمت خيرًا في المهرجان حتى جاءت الدورة الثانية بافتتاح مترهل، أغنية تشبه إعلانات شبكات المحمول في رمضان. تلك النوستالجيا المستفزة عن أفلام زمان والتي صارت مستهلكة وتؤكد أننا قد توقفنا عن صنع أفلام وتوقفنا عن الحياة أصلًا ولا نجيد إلا الفخر بالماضي. مع كشف خلافات تزعم أن فكرة المهرجان مسروقة، واختيارات غير لائقة من بعض الممثلات لفساتين لا تليق بمهرجان سينمائي وانبراء المشاهدين –الذين لم يجدوا أفلامًا يتابعونها- في انتقاد زوجة المطرب الشهير. حتى أن اختيار فيلم «يوم الدين» كأفضل فيلم شعرت أنه أتى استسهالًا من اللجنة التي يفتقد أحد أعضائها الشبان الخبرة وإن لم يكن بالطبع يفتقد الموهبة. حيثما ذهب يوم الدين يحصد الجوائز، فلنمنحه إذن النجمة الذهبية بلا تفكير.

طابع عام من السلق والاستسهال وشعور طاغٍ بأن عائلة ساويرس أحبت أن تدعو أصدقاءها من العاملين في السينما لقضاء إجازة في منتجعهم السياحي فأقاموا «بالمرة» مهرجانًا سينمائيًّا يضفي على التجمع جدية ما، ويحصد أموال الإعلانات والممولين.

لا أعرف إن كان القائمون على المهرجان سيتداركون الوضع في الأعوام القادمة، أم سينحدر الوضع لمجرد «عزومة على مصيف» تحت شعار مهرجان الجونة في دورته الثالثة.

يحتاج المهرجان إلى تغطية أكثر جدية، ويحتاج الفنانون إلى أن يدركوا أنهم في مهرجان سينمائي لا حفل خاص. يحتاج المهرجان إلى قناة خاصة تعمل فقط لتغطية ندوات وعروض المهرجان كما كان يحدث مثلًا مع مهرجان الإذاعة والتليفزيون في التسعينيات. فكانت تخصص قناة لعرض حلقات من الأعمال العربية المشاركة وكنا كمشاهدين ننتظر تلك الأيام بلهفة. فلم تكن القنوات الفضائية متاحة لكل الأسر، ولم تكن بالطبع بهذه الكثرة.

صمد هرم مهرجان القاهرة أربعين عامًا، وهو صمود قابل للسقوط. مجرد تمثال مهمل لا يريد أحد إزالة الغبار من فوقه لأن أحدًا لا يعلم بوجوده. هل ستصمد النجمة كمهرجان سينمائي جاد، أم ستتحول لنوع من برامج الواقع التي تدور في كواليس «اللت والعجن» والعلاقات بين الفنانين وعمليات التجميل التي يجرونها وتغذيها اهتمامات السوشيال ميديا وهوس عدد المشاهدات؟

نحن لا نملك سينما، والمهرجانات العالمية قد تزيد تدفق الدماء الفنية في مصر. فعرض أفلام عربية وأجنبية «غير أمريكية» ربما يحرك النهر الراكد قليلًا. فهل من نظرة لكل تلك المهرجانات المُقامة بالفعل، فربما تُبث في وجودنا السينمائي الروح من جديد؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.