في الشهور الــ18 الأخيرة قبيل اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في غارة أمريكية، كانت المعركة على أشدها بين الرجل وبين قيادة استخبارات الحرس الثوري على خلفية اتهامات متبادلة بالفساد. معركة تظل معظم تفاصيلها سرية، لكن ما تسرب منها على مدار سنوات يكفي لتشكيل المشاهد قبل الأخيرة في حياة الجنرال.

بدايات المعركة

بحسب تسريبات جديدة نشرتها إذاعة فاردا الفارسية التي تديرها الولايات المتحدة، كان الجنرال قاسم سليماني غاضبًا من تفشي الفساد في الحرس الثوري، بما منع مليارات الدولارات من الوصول إلى فيلق القدس في الوقت الذي كان التنظيم العسكري الإيراني مسؤولًا عن إدارة عدد من ساحات المعارك في منطقة الهلال الشيعي، في سوريا واليمن والعراق وغيرها.

التسريب الجديد يتضمن تسجيلًا صوتيًا لمحادثة امتدت لـ 50 دقيقة كاملة، دارت بين قائد الحرس الثوري الإيراني حينها، الجنرال محمد علي جعفري، ونائب قائد الحرس الثوري للشؤون الاقتصادية، صادق ذو القدر نيا.

تحدث الرجلان حول محاولة للتستر على ملف فساد داخل الحرس الثوري، يخص تحديدًا علاقة رئيس بلدية طهران حينها، محمد باقر قاليباف، مع رئيس استخبارات الحرس الثوري، حسين طائب. 

بحسب المعلومات المتوفرة، كان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران، علي خامنئي، قد أصدر أوامره بتخصيص 90% من أرباح شركة ياس القابضة، التي يديرها الحرس الثوري، لتمويل عمليات فيلق القدس، على أن تذهب بقية العائدات وقيمتها 10% إلى الحرس الثوري نفسه. لكن حصة فيلق القدس في بعض العمليات، والمقدرة بثلاثة مليارات دولار، تبخرت في عملية اختلاس يفترض أن طرفيها، وفق التسريب، كانا قاليباف وطائب.

علم قاسم سليماني بالأمر ورفعه مباشرة إلى خامنئي. لكن، وقبل تحويل الملف إلى القضاء، اقترح قاليباف وطائب على قيادة الحرس الثوري توقيع عقود وهمية بين شركة ياس وبلدية طهران لتغطية المبلغ الناقص. المقترح لم يجد قبولًا عند جعفري وذي القدر نيا؛ إذ أبدى الثاني تخوفه على نفسه وعلى جعفري من «أذى سليماني» الذي لن يسمح بأن تمر عملية مشابهة مرور الكرام.

 

في النهاية وصل الملف إلى القضاء فعلًا. لكنه وصل ناقصًا؛ فبينما أجرت طهران عملية تصفية لشركة ياس التي ورد اسمها في القضية، واعتقلت بعض مديري الشركة، وحاكم القضاء الإيراني متهمين بدرجات عليا، بينهم نائب رئيس بلدية طهران، بقي الشخصان اللذان طالهما التسريب، قاليباف وطائب، بعيدين عن المحاكمة، ولا يزال طائب في منصبه رئيسًا لاستخبارات الحرس الثوري، بينما صعد قاليباف السلم السياسي، حتى تولى منصب رئيس الهيئة التشريعية، مجلس الشورى الإسلامي.

مدى موثوقية التسريبات ليست مؤكدة، لكن المؤكد أن وسائل الإعلام القريبة من الحرس الثوري الإيراني تجاهلتها بالكلية. لكن التلميح الوحيد لاحتمالية أن تكون حقيقية كان تصريح عضو لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإسلامي، محمود عباس زاده، الذي قلل من أهمية التسريب باعتباره لا يثبت شيئًا، لكنه اتبعها بحديث عن «اختراقات في الحرس الثوري» تتسبب في مثل هذه المواقف.

اتهامات مضادة

في الشهور التي تلت المحادثة التي يغطيها التسريب، وجد قاسم سليماني نفسه في مواجهة اتهامات بالفساد طالت أقرب المقربين منه، وكان مصدر كل الاتهامات واحد: جهاز استخبارات الحرس الثوري.

في 2019، زعم عضو مجلس بلدية طهران، مرتضى الفيري، أن مكتب المدعي العام تستر على 12 ملف فساد ماليًا أحالتها البلدية إليه، تخص زوجتي قاسم سليماني، والقائد العام السابق للحرس الثوري، علي جعفري.

وبحسب الفيري، فإن الزوجتين كانتا متورطتين في «قضايا فساد متكاملة الأركان تتضمن تورطهما في انتهاكات جسيمة»، لكن السلطات القضائية غضت الطرف تمامًا، ولم تهتم بتقديم أي تفسير لعدم النظر في الشكاوى التي رفعتها البلدية بحقهما.

وفي توقيت متزامن، ظهرت إلى السطح قضية رجل الأعمال الإيراني مهدي جهانغيري، شقيق النائب الأول للرئيس حسن روحاني، الذي اعتقلته استخبارات الحرس الثوري الإيراني من مسقط رأسه -وهو نفسه مسقط رأس سليماني- على خلفية اتهامات تتعلق بالفساد.

لكن، وبحسب الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، فإن «الحاج قاسم» تدخل شخصيًا ليس فقط لإطلاق سراح جهانغيري، بل والسماح له بالعودة لممارسة نشاطه الاقتصادي الذي توقف مؤقتًا على خلفية الاتهامات، ودون أي مبرر، إلا تصريحات شقيقه، نائب الرئيس حينها، بأن الاتهامات باطلة ومدفوعة بأهداف سياسية.

تجدر الإشارة هنا إلى أن جهانغيري اعتقل مجددًا في يوليو 2021، وعوقب بالسجن 4 سنوات في اتهامات مشابهة لتلك التي أفرج عنه رغم التحقيق فيها قبل سنوات. حينها، كان شقيقه لا يزال نائبًا للرئيس، لكن المتغير الوحيد كان خروج سليماني من المشهد.

استخبارات الحرس الثوري تحركت في نفس الوقت ضد شخص آخر كان مقربًا من قاسم سليماني، هو مساعد الرئيس الأسبق حميد بقائي، الذي وجهت له الاستخبارات تهمة اختلاس أموال من الحرس الثوري تتجاوز قيمتها أربعة ملايين دولار، يفترض أنه نقلها إلى قاسم سليماني. هذه المرة وصلت القضية إلى المحاكم، وواجه بقائي حكمًا بالسجن لـ 15 عامًا. لكن التحقيقات لم تطل سليماني، الذي سربت استخبارات الحرس الثوري أيضًا تقارير عن محاولته منع القضية من الوصول إلى ساحات القضاء.

تسريبات مصر والعراق

بنهاية عام 2019، كانت وسائل الإعلام العالمية على موعد مع نشر 700 صفحة من وثائق المخابرات الإيرانية، والتي سربتها «جهة مجهولة» حتى الآن، لكنها جميعًا كانت تخص قاسم سليماني شخصيًا.

وبحسب الوثائق، عقد مسؤولون من جماعة الإخوان في مصر اجتماعات مع فيلق القدس، في تركيا، في أبريل 2014، بهدف الحفاظ على خطوط الاتصال بين الطرفين، ودراسة مدى إمكانية استمرار العمل معًا بعد خروج الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي من السلطة في يونيو 2013.

وخلال الاجتماع، قال وفد الإخوان إن الخلافات بين إيران كرمز للعالم الشيعي، والإخوان كممثل للعالم السني بفروعهم في 85 دولة لا جدال فيها، لكن التركيز يجب أن ينصب على أسس مشتركة للتعاون.

واقترح الوفد توحيد الصفوف في اليمن عبر تقليص الصراع بين الحوثيين المدعومين من إيران والقبائل السنية المسلحة المرتبطة بالإخوان، كما اقترح التعاون لوقف الاشتباكات وتخفيف التوتر بين السنة والشيعة في العراق، عبر منح سنة قريبين من الجماعة نفوذًا ومقاعد أكبر في الحكومة العراقية. 

العراق كان له النصيب الأكبر من التسريبات، الذي اتهم فيلق القدس بقيادة سليماني، برسم سياسات إيران في البلاد، دون دور لوزارتي الخارجية أو الاستخبارات. وبحسب التسريبات، أبدى مسؤولو وزارة الاستخبارات مخاوفهم من أن يتسبب سليماني في تبديد مكاسب إيران في العراق بعدما بات العراقيون أكثر كراهية لطهران بسبب سلوك الميليشيات الشيعية المدعومة من فيلق القدس، معتبرين أن «الحاج قاسم» يستغل الحرب على داعش في العراق من أجل تلميع صورته، قبل أن يستغل الصورة الجديدة في الانتقال إلى الملعب السياسي في إيران.

قاسم سليماني خارج المشهد

في مطلع يناير 2020، وبينما كانت معارك التسريبات والملاحقات على أشدها، اغتيل قاسم سليماني في غارة أمريكية في محيط مطار بغداد الدولي. وبقي السؤال المهم معلقًا: كيف علمت أمريكا بمكان وجود قائد فيلق القدس حينها؟

المعلومات المحدودة المتاحة تتحدث عن شبكة جواسيس أوقعت بالقائد الإيراني، الذي تجنب استخدام طائرته الخاصة بسبب «مخاوف متزايدة على أمنه الشخصي»، مفضلًا الانتقال من دمشق إلى بغداد على متن طائرة شركة أجنحة الشام، التي حرصت على عدم إدراج اسمه ولا أسماء مرافقيه بين ركاب الطائرة «زيادة في التأمين».

وباغتيال سليماني، انتقلت إدارة ملف العراق من فيلق القدس إلى استخبارات الحرس الثوري، وتحديدًا حسين طائب، الذي دار حوله التسريب الأخير بشأن فساد الحرس الثوري، ما أدى إلى إثارة المزيد من الأسئلة، وكلها للأسف بقيت بلا إجابة، وإن أشارت إلى أن القائد البارز بالحرس الثوري كان مغضوبًا عليه داخل الحرس الثوري ذاته!